03-سبتمبر-2022
سوفور ڨاييرو (Sauveur Galliéro )

تُشكّل الأمكنة قيمة تاريخية ورمزية، مُعبئة آثارها بالكثير من الذكريات،وتسجل الجدران والأتربة أنامل وأقدام لمسات من حياة الإنسان، تاركة خلف الرحيل رسومات وألوح وشواهد للأجيال المتعاقبة.

لا تشكل البنية الكولونيالية عنصر قطيعة فنية مع التراث الفني الجزائري في دراسة الباحثة هداڨ بل مسار تكامل في البناء والصناعة الفنية

وتعد الواجهة البحرية الواقعة في حدود البريد المركزي أسفل مدينة القصبة واحدة من المعالم التاريخية التي يتداخل فيها النمط العثماني والعمران الفرنسي، وهي إحدى المعالم التي ذكرت في أغاني الفنانين وأنشدها شعراء،وظهرت في لوحات الفنانين

جيل من الفنانين

في سياق الموضوع، ليديا هداڨ، باحثة في تاريخ الفن، ومن خلال اهتماماتهاوانشغالاتها بالمخزون الثقافي المتوسطي والفنون التشكيلية والشعرية، أصدرت دراسة وبحثًا توثيقيًا ترصد فيه الحركة الفنية والتشكيلية، والنشاط الثقافي الفنّي والشعري  خلال ثلاثينات القرن الماضي، متعقبة أهم الحركات والمدارس الفنية والشعرية التي انتقلت سواءً من باريس إلى الجزائر وترصد إرهاصات جيل نشأ في الجزائر صنع التمييز والانفراد في الفن والثقافة، مناهض ومعادٍ الكولونيالية، الكتاب الصادر باللغة الفرنسية يحمل عنوان "جيل مول الجزائر" (La génération du Môle d’Alger) الصادر عن منشورات دار القصبة.

جيل المهمش والمنسي

في السياق ذاته، تُحاول الباحثة ليديا هداڨ إعادة إحياء ذاكرة الفنان المنسية، وبعث صورة فنانين ومثقفين وشعراء محل تجاهل أو نسيان التاريخ الفن المعاصر بالجزائر، وكأن بالباحثة تعمل على تأريخ الفن المعاصر الجزائري بداية من الحقبة الاستعمارية من خلال تجارب ورسومات جيل مهمش ومجهول لدى الرأي العام.

جون سيناك رفقة قاييرو بالقصبة

الميزة في دراسة الباحثة هداڨ، أن البنية الكولونيالية لا تشكل عنصر قطيعة فنية مع التراث الفني الجزائري، بل مسار تكامل في البناء والميلاد والصناعة الفنية والتشكيلية الجزائرية، وبما أن الظرف الاستعماري وما أفرزه من تشتيت هوياتي ومعاناة إنسانية وحرمان، فإن الوظيفة الاستعمارية ساهمت على إنتاج مدرسة وتيار فكري نتج عنه إسهامات شعرية وكتابات ورسومات نحتية وتشكيلية، زيادة على الوعي الوطني، حيث كانت وراء صعود أسماء وأعلام ثقافية ثقيلة منها ما هو مشهود له على غرار الكاتب محمد ديب والمسرحي مصطفى كاتب والرسام محمد إسياخم والشاعر جون سيناك، ومن بين الأسماء الفنية المجهولة سوفور ڨاييرو (Sauveur Galliéro ).

Sauveur Galliéro 

من هو سوفور ڨاييرو ؟

نشأ وتربي ڨاييرو في حي باب الواد، مركز سكان الأقدام السوداء من الطبقة البروليتارية، من مواليد 14 تموز/جويلية سنة 1914، ينحدر والده من أصول سيسيليا وإسبانيا، تعيش والدته الألزاسية الأصل منفصلة عن زوجها، وهي التي تكفلت بتربيته وتعليمه.

أتقن فن الرسم منذ طفولته، درس وتعلم في ثانوية بيجو سابقا "الأمير عبد القادر حاليًا"، خلال سنوات الدراسة في الطور الثانوي تعرف وربط العلاقة بألبير كامو، كان من رواد مدرسة الفنون الجميلة، اشتغل عدة مهن كنحات ومصمم ديكور، كما نشط حصة إذاعية ترفيهية وتعليمة للأطفال حيث كان تدخله باللغة العربية والفرنسية، إذ نظرًا إلى كثرة احتكاكه بالجزائريين، أتقن اللغة الأم الفرنسية، واللغة العربية أو "العامية".

كان بوهيميًا

انعكست خيارته الفنية والشعرية على انتهاج أسلوب حياة بوهيمية، متمردًا على التقاليد الكلاسيكية، غير منتظم في نمط حياته، عبثي وفوضوي ومغامر، غير أنه لم يكن صاحب شخصية منغلقة ومنطوية، بل تمتع بنظرة سياسية واجتماعية جعلته مرتبطًا بالواقع المعيشي والمأساوي مع الجزائريين "الأنديجان"، ربما الأمر الذي دفعه أن يترك العيش وسط الأحياء الأوروبية، ويستقر بمدينة القصبة، حيث قام بفتح ورشة أعماله ونشاطاته الفنية.

Sauveur Galliéro 

لم يشعر ڨاييرو بالغربة والوحشة وسط الحي العربي-المسلم، كان يتحدث باللغة العامية ويشارك الأهالي ظروف العيش القاسية، رفقة حيمود براهيمي الملقب بـ "مومو"،  جمعته لقاءات مع مسرحين وفنانين جزائريين بمقهى "المرسى" الواقع بشارع البحرية، وكان صاحب المقهى المناضل السياسي عمار أوزڨان،.

وكان مقر وورشة أعماله ورسوماته بالقصبة محل استضافة أمسيات ثقافية وفكرية غير منتظمة، شارك فيها كل من الشاعر جون سيناك، والكاتب محمد الديب، ومصطفى كاتب إضافة إلى وجوه ثقافية وفنانية من الاقدام السوداء من أنصار التيار "ألجيرنيست" Algérianiste.

كان الرصيف البحري والواجهة البحرية مصدر إلهام الرسام ڨاييرو، وكان الفضاء البحري المشكل من الزوارق، والسفن، المرفأ البحري، المراسي البحرية، حاجز الميناء، والبحارة والمناظر البحرية هي ثيمات ومواضيع الألواح الفنية والرسومات، كانت المناظر الساحلية تثير مشاعر وأحاسيس إنسانية عميقة عند ڨاييرو، مترجما تلك المشاعر إلى رسومات بانورامية، غالبًا ما يضفي عليه الصورة التجريدية.

Sauveur Galliéro 

ميزة رسومات ڨاييرو

كان رسوفور ڨاييرو عصامي التكوين في مجال الرسم والفن، تتلمذ عبر مرور طفيف على مدرسة الفنون الجميلة، مقتبسًا الفن من خلال احتكاك وزيارة الأروقة والعروض الفنية بالعاصمة، ومستفيدا من صُحبة بعض الرسامين، لكن رغم ذلك استطاع ڨاييرو أن يفرض وجوده واسمه في الواقع الثقافي والفني بالعاصمة، وسط أسماء رسامين كبار من المتروبول الباريسي، وكانت أعماله ورسوماته دائمًا محل قراءات نقدية وسجلات، نظرا إلى خصوصية أعمال قاييروا، والمتمثلة في تبسيط الأشكال والنماذج، وتوظيف الألوان، والرسومات الأكثر قوة تعبيرًا، ولوحات غامقة الألوان.

فالمفارقة في أعمال ڨاييرو مقارنة بأعمال ورسومات باقي الرسامين من المتروبول الباريسي وباقي الأقدام السوداء، أن إسهاماته ما هي إلا انعكاس لرؤيته العبثية إلى الحياة، والاحتكاك والعيش وسط الحي "الأنديجاني"، وسمحت مجالسته لمحمد إسياخم وكاتب ياسين وشوكري مسلي من توسيع آفاقه، علاوة على الإقامة في حي القصبة، هذه المدينة المهمشة والمطلة على واحدة من أجمل الواجهات البحرية، والتي تعاني الإهمال والنكران والمسخ.

Sauveur Galliéro 

خلال الثورة التحريرية عاش ڨاييرو الصمت والصدمة، لكن وخلال احتفالات يوم الاستقلال قام برسم صور الفرحة والبهجة وسط الجماهير، وعمل على توثيق عبر أنامله أعمال عن مشاهدة السعادة وسط النساء والأطفال.

توفي سوفور ڨاييرو بعد استقلال الجزائر إثر مرض عضال استدعى نقله إلى مستشفى بباريس

في 4 من شهر حزيران/جوان 1964 يرحل سوفور ڨاييرو بعد مرض عضال استدعى نقله إلى مستشفى بباريس، كان ڨاييرو شغوفًا بالمناظر والمشاهد البانورامية، مرتبطًا بالواجهة البحرية، لا شك أنه يعد جزءً من المخزون الفني المحلي.