01-مارس-2020

صافية كتو (الصورة: جريدة الجمهورية)

كانت أوّل كاتبة جزائرية، تقتحم بجمالٍ مفرط، عالم الخيال العلمي المكتوب باللغة الفرنسية، بمجموعتها الساحرة "الكوكب البنفسجي وقصص أخرى"، شاعرةً أو كاتبة، كانت صافية كتو بمثابة الغزالة السمراء التي لم تكف عن الركض في ساحات الكتابة.

 رحلت صفية في عمر مبكر، ذات شتاء لم يمنحها حميميته، بعد سقوطها من جسر تيلملي بالعاصمة

هي من مواليد مدينة عين الصفراء بالنعامة غربي الجزائر، كان اسمها الحقيقي زهرة رابحي، لكنها فضّلت النزوح بأحلامها نحو اسم مستعار، حمل أثرًا من اسم والدتها واسم مدينتها القديم "عين الصافية"، ومن ثمَّ الانتقال نحو فضاء أرحب يسع تطلّعاتها، لتبدأ بعدها حياة جديدة، حيث ابتغت الموت أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | صبرينة قريشي: هزيمة الوطن حضاريًا هي هزيمة نكراء لفنّانيه

كتبت صافية خلال حياتها القصيرة العامرة، العديد من القصائد بداية من مراهقتها، غير أنها قدّمت ورقياً فقط ديوان "صديقتي القيثارة" سنة 1979، والمجموعة القصصية "الكوكب البنفسجي وقصص أخرى" عن دار نشر خارج الجزائر، في كندا تحديدًا.

 كتبت مسرحيةً لم يُعرف مصيرها إلى حدّ اللحظة بعنوان "أسماء"، وقيل أنها قدمتها للإذاعة الوطنية لكنها ضاعت، إضافة إلى مجموعة قصصية للأطفال بعنوان زهرة الرمال سنة 1983، وفي رصيدها العديد من المقالات الصحافية في مختلف الجرائد الوطنية.

 امتهنت صفية كتو التعليم بين سنتي 1962 و1969، في مدينة عين الصفراء، لترحل بعدها نحو الجزائر العاصمة، ابتغاءً لآفاق جديدة، وقد تمكّنت من مواصلة تعليمها هناك، وشغلت منصبًا في وزارة التعليم، ومن ثمّ اتجهت نحو الصحافة والنقد الفنّي، واشتغلت في الإذاعة، ووكالة الأنباء الجزائرية، كما كتبت في عدّة جرائد أهمها "لوريزون"، "أفريك-آزي" وغيرها، حيث كانت لها فرصة التعرّف على العديد من كبار الكتاب والصحافيين.

التحليق نحو المطلق

 رحلت صفية في عمر مبكر، ذات شتاء لم يمنحها حميميته، بعد سقوطها من جسر تيلملي بتاريخ 29 كانون الثاني/جانفي 1989، على علو قُدِّر بثماني طوابق. جسر تحوّل بعدها إلى مزار حبّ يعوده العشّاق لتعليق أقفالهم الموسومة بالذكرى.

تأرجحت الحكايات حول هذا الحادث، بين الانتحار تارة كأكثر رواية متداولة، احتجاجًا على مآل العالم والمجتمع، ولفرط معاناتها وآلامها الشخصية، وبين الاغتيال بدافع التشدّد الديني تارة أخرى، أو ربّما للإفلات منه.

في كل الأحوال، فضّلت هذه المرأة التحليق، وذهبت معها آلامها وأسرارها الخبيئة، إذ بقيت قصّة موتها غريبة ومبهمة، وفتحت باب التساؤل والجدل حول أسباب انتحار الشعراء والمبدعين.

كتبت صافية قبل "تحليقها نحو المُطلق"، عن ذاتها وعن المرأة الحبيسة داخلها، وعن صراعاتها في المجتمع بشكلٍ ماتعٍ ومفرط الأحاسيس والحساسية، حيث تميّز أسلوبها بالبساطة والتجرّد والسحر والغرق في الألم، فكانت شديدة الارتباط بالبيئة التي جاءت منها، مرّة حبًّا لها وأحيانًا نقمةً عليها، كما حاولت التملّص كتابةً من قيود العرف والتقاليد، وصنعت لنفسها جناحين بقلم شجاع، دافع عن تيّارات التحرّر والثورة في العالم أجمع.

وإن راحت الروايات تحكي عن خلل نفسي كانت تعانيه، وصراعٍ مع التمدن والتغيرات البيئية جراء انتقالها إلى العاصمة، إلا أن ما كتبته لم يكن حاملًا لعلامات بحثٍ عن الخلاص الدنيوي، بقدر ما كان نوعًا من التطهير وشيئًا من العدمية التي تصبو إلى الحرّية، من قيود الذات والمجتمع.

شبّه البعض هذا الأسلوب الذي انزوت إليه الراحلة بكتابات "نيل جايمان"، من خلال تشاركهما في حس الإدهاش السردي، وتجلى هذا التشابه خاصّة من خلال مجموعته "أشياء هشّة".

لقد مالت صفية إلى السوريالية، وابتعدت عن البداهة من خلال قصصها القصيرة المفعمة بالخيال الناعم الغارق في الرمزيات وتخييلات الأسى، وهذا ما نلمسه خاصة من خلال مختلف قصصها، "الكوكب البنفسجي"، "سفيرات السلام" و"صرخة حبر" وغيرها، حيث اعتمدت على الخيال والتنبؤ بالمستقبل، لتوصل أفكارها الحبيسة بين جدران الأعراف.

كانت الكاتبة اللبنانية جمانة حداد، قد ضمّت إسم صافية كتو إلى كتابها الأنطولوجي، الذي غاص في آلام الكتاب المنتحرين في التاريخ، كتابٌ حمل عنوان "سيجيء الموت وستكون له عيناك"، رفقة شاعرين جزائريين آخرين من مدينة قسنطينة، هما عبد الله بوخالفة الذي سبقها إلى الارتماء في أحضان الموت بسنة، وفاروق سميرة الذي عاش معاناة نفسية حادّة، جراء انتحار صديقه عبد الله. فانتحر الأوّل تحت عجلات القطار، فيما التحق به الثاني بعدما رمى بقصائده من فوق جسر سيدي مسيد وقفز بعدها سنة 1994.

اجتمع هؤلاء الشعراء الثلاثة، في قائمة ضمت مائة وخمسين إنسانًا، فضلوا الحياة الأخرى انتحارًا، ومرّوا عبر صراط الكتابة نحو العدم خلال القرن العشرين. فلماذا يحتج هؤلاء موتًا؟

هل الشاعرات هن الأَولى بالموت؟

يقول الباحث بشير خليفي في حديث لـ "الترا جزائر"، أن صافية كتو كانت كاتبة استثنائية بامتياز، حيث لا يكون من السهل أن تتخذ امرأة قرارًا في نهاية ستينيات القرن المنصرم بترك وظيفتها، ثم تغيير مكان إقامتها الذي نشأت فيه، وهو مدينة العين الصفراء نحو الجزائر العاصمة، على بُعد أكثر من 750 كلم، وأضاف الباحث أنها تركت المدينة وذكرياتها لتنتقل إلى بيئة جديدة، وكأنّها أدركت أن ثمة موهبة تحتاج لترقية وتطوير في فضاء أوسع وأرحب.

وأضاف بشير خليفي، أن الراحلة كانت مُتفرّدة في الحساسية المفرطة التي اتّسمت بها، "ما أصعب أن تكون المرأة شاعرة" هكذا قالت، وهي تقصد حسبه، أن الغبن سيكون مُضاعفًا؛ لأن المرأة شاعرة بطبعها وبِحكم عاطفتها، فحينما تكتب الشعر، فإنها تدرك وهج كلماته بما يُضاعف إحساسها بالحزن والمعنى على حدٍّ سواء.

بيد أن شعر صافية ليس ألما فقط، ثمة بالفعل ألم في الروح وقصائد عديدة عن الحزن، بمقابل قصائد أخرى عن الفرح والتفاؤل، وهي تتحدّث وتحتفي بأمّها، تتغنّى بجمال بلدتها ووطنها، بجمال وبراءة الأطفال، وهي تُرسل برقية افتراضية لقيس، تمدحه وتشكره على تمسّكه بليلى بالرغم مما لقِيه من أهوال.

 ومما سِيق سابقًا، أضاف الباحث أن الحديث عن صافية كتو لا يرتبط فقط بثقافة الاعتراف والامتنان، بل هو واجب بِكل ما تحمله كلمة الواجب من معان إنسانية سامية. صافية كتو كانت نصيرة لقضايا الخير، الحق والجمال، لذلك فإن استذكارها- وبالطبع استذكار غيرها من الكتاب- يُعد أمرًا بالغ الضرورة للمحافظة على التراث المعرفي والذاكرة الأدبية الجزائرية.

 في هذا الصدد، أشار بشير خليفي إلى أن ثمة إسهامات جليلة قُدمت وما زالت تُقدم من طرف كتاب وباحثين، على غرار ما قام به المترجم الأستاذ عميّر بوداود، من خلال ترجمة منتخبها الشعري "صديقتي القيثارة" من الفرنسية إلى اللغة العربية، هذا زيادة على خبر مُفرح ننتظره نهاية هذه السنة الجارية، حسب بشير خليفي، ويتعلّق بمناقشة طالبة من قسم اللغة الفرنسية بجامعة وهران، لمذكرة ماستر تتعلق بـ "الهوية الفردية في الأدب النسوي: صافية كتو أنموذجًا".

روح إيزابيل إيبرهارت

 كانت الراحلة صافية كتو مهتمة جدًا بشخصية إيزابيل إيبرهارت، حيث بحثت في كتابات هذه المرأة الرحالة التي عاشت في عين الصفراء، وتوفيت هناك في حادث غرق جرّاء الفيضان، فتأثرت بها كثيرًا، وكانت ملهمتها لاقتحام عالم الشعر والكتابة الأدبية، كما أنها دُفنت بالقرب منها في المقبرة نفسها.

لقد كان مصير هاتين السيدتين مأساويًا، لكنهما خلّفتا أثرًا بليغًا في عالم الكتابة، بشكلٍ متفاوت، بسبب تخليد إبرهارت من طرف الباحثين والكتاب الفرنسيين والأجانب، وتهميش كتو في وطنها وبين أهلها.

ترجمة آلام صفية

كتب الأستاذ بوداود عمير، في مقدّمة ترجمة ديوان الشاعرة الراحلة صفية كتو المعنون بـ "صديقتي القيثارة"، أن صافية كتو، كانت أوّل امرأة تشتغل في مهنة التعليم في مدينة العين الصفراء بعد الاستقلال، حيث درّست اللغة الفرنسية لمدّة سبع سنوات.

أرجح بوداود عمير أن صافية غيّرت اسمها من رابحي الزهراء، إلى اسمها الثاني، حتى لا تورّط أسرتها المحافظة في لوثة الكتابة، وتبعات أوّل امرأة تكتب متحدّية في مساحات استحوذت عليها القبيلة، وأضاف المترجم، أن طموح صافية لم تكن تسعه تلك المدينة الجنوبية الصغيرة، لهذا توجّهت نحو الجزائر العاصمة، لتفرض نفسها كصحافية بارزة، حيث كتبت في كبريات المجلّات والصحف آنذاك، ثم تحوّلت مع الوقت إلى قاصّة وشاعرة متميزة، معتبرًا إيّاها من أبرز الأديبات الجزائريات اللواتي أسّسن للأدب النسوي الجزائري المعاصر، كما أشار بوداود إلى أن الشاعرة صافية كتو، ظُلمت في حياتها ومماتها، على حدّ تعبيره.

صفية المظلومة حيّة وميّتة

لقد تجلى ظلم صفية كتو في حياتها كما في مماتها، في قلة التناول والتخليد لمؤلّفاتها خلال السنوات الفارطة، حيث لا نجد مبادرات ترجمة أو نشر، غير تجربة الأستاذ بوداود عمير، ونشر كتابيها في كندا منذ سنوات خلت، مع بعض المحاولات الفردية الشحيحة لترجمة شذرات لها من بعض قصصها وشعرها على المواقع الإلكترونية، حتى أن كتبها غير متوفّرة ورقيًا في الجزائر.

 كيف يمكن إهمال هذا القلم، الذي كان ليصبح من أهمّ ما يُكتب في الأدب والشعر الجزائري، خاصّة وأن صافية كتو كانت لتلج عوالم خفية في الكتابة، وكانت لتمنح نفسًا جديدًا للثروة الأدبية المحلية والعالمية، فكل من قرأ لها، قال بأنها كانت من بين الأدباء الحداثيين المجدّدين الذين يأخذون بيد القارئ نحو عوالمهم المضيئة، لتمنحهم حياة أخرى غير تلك التي يعرفون.

 كانت صفية لتصبح ذلك الطائر، الذي هاجر نحو عالم أرحب ليمنح شدوه نفسًا جديدًا لضجر المدينة

  كانت صفية لتصبح ذلك الطائر، الذي هاجر نحو عالم أرحب ليمنح شدوه نفسًا جديدًا لضجر المدينة، لكنها هوت باكرًا في غيهب سحيق، قبل أن تمنح الكون نشيده.

"في هذا الحلم الرائع

أين تشفي العلل

في هذا العالم من الجنّ

استمتعت بالفرح

كان علي أن ألتهم ثلاث شرائح

من الضوء المعطّر

وأن أحتسي أقداحًا

من الحليب والموسيقى

في مفترق طرق الزمن

ثمّة زهور حبّ

لذيذة للعيش..."

صفية كتو

ترجمة بوداود عمير

 

اقرأ/ي أيضًا:

المثقفون والفنانون الشباب.. روافد الحراك الشعبي في الجزائر

جدل في الثقافة.. وزارة للمسرح وأخرى للشعر؟