عندما تكتب عن فكرة تراودك أو لقطة في شارع لفتت انتباهك، أو صوت إنسان ألح بأن تنصت إليه دون وعي منه، ستجد الطريق أمامك مهيأ للكتابة أول كلمة من كتاب، عكس ذلك يحدث مع الصحافيين عندما يطلب منهم كتابة قصة عن خبر سياسي أو مادة اقتصادية دسمة، فالأمر لا يعدو سوى أن يكون فعل ميكانيكي يدخل في سياق المهنة التي أحيانا لا يختار فيها الصحافي مواضيعه، بل تفرض عليه فرضا.. اليوم هؤلاء هم محور مادة صحافية لكن من بوابة الكتابة الإبداعية.
العديد من الصحافيين خاضوا تجربة الكتابة الإبداعية وتأليف الكتب بعيدًا عن قاعات التحرير والأخبار اليومية
الصحافي يسأل الكاتب (الصحافي): كيف كانت ولادة أول كتاب؟ بمعنى آخر، كيف تخلّصت من عباءة تجهيز الخبر السّريع والطازج وبعدد كلمات قليل، وانتقلت إلى كتابة مادة إبداعية تحتاج النَّفَسْ الطويل والفكرة المُبتكرة وتضمن التّشويق والحركة وتتناول زاوية جديدة؟
قبّعة الكاتب الباحث
كتب الإعلامي والكاتب فوزي سعد الله يوما أنه عندما يؤلف كتاب عن الطعام والشراب عبر التاريخ فهو يكتب بابتسامة ودون توتر ولا إحباط ولا خيبات ولا صدمات مثلما يحدث مع الكتابة عن التاريخ السياسي والعسكري.
سعد الله أو "رياض أمين" كما كان يوقّع أعماله الصحافية في صحيفة "الخبر الأسبوعي ( المتوقفة عن الصدور منذ العام 2009)" و الملحق الأسبوعي السابق للصحيفة الأمّ" الخبر"، كثيرا ما صال وجال في عمق التاريخ واقتفى آثار الإنسان، من الصحافيين القلائل في الجزائر الذي خاضوا تجربة الكتابة البحثية الأرشيفية، يقول عن ولادة مؤلفه الأول التي كانت سنة 1996، ووُسِم بعنوان: "يهود الجزائر، هؤلاء المجهولون"، إنها كانت ولادة عسيرة في زمن ما سمي بـ"سنوات الجمر"، إذ شكّل مضمون الكتاب وعنوانه "صعقة كهربائية في مخيال الكثير من الجزائريين، " لأنه -حسب سعد الله- أوَّل كتاب في هذا الموضوع يُؤلَّف في الجزائر، على الأقل منذ استقلال البلاد عام 1962".
لقد صدر الجزء الأول منه في خضم الأزمة الأمنية الصعبة التي مرت بها الجزائر، فأفرز ردود أفعال متباينة تتراوح بين الظنون السيئة والحذر، من جهة، والاستحسان والإعجاب من جهة أخرى إلى درجة أن الكتاب بيع بضِعفِ ثمنه في بعض أحياء مدينة الجزائر مثلما حدث في ضاحية حيدرة وما جاورها.
ويضيف قائلا بأن " القاسم المشترك بين أغلب ردود الأفعال عند صدوره هو التساؤل: "لماذا هذا الكتاب؟" في تلك الفترة بالذات و "مَنْ يقف وراء صاحب الكتاب؟" و "لِحساب مَن" أَنْجَزَ مشروعَه، لأن التأليف في الجزائر كان يتم في غالب الحالات، إلى غاية تلك الفترة من تاريخ البلاد، في إطار إستراتيجيات الاستقطاب التي تمارسها مجموعات المصالح السياسية وضمن التوجيهات الحكومية التي تُنظِّم وتؤطِّر مشاريع البحوث والدراسات.
بل يوجد مَنْ ذهب بعيدا في تصوراته إلى حد طرح سؤال غريب عليَّ وهو: "هل أنتَ الذي ألَّفْتَ هذا الكتاب أم أنك وقَّعتَه فقط بعد أن كتبه آخرون...؟".
سعد الله: التأليف في الجزائر كان يتم في غالب الحالات، إلى غاية تلك الفترة من تاريخ البلاد، في إطار إستراتيجيات الاستقطاب التي تمارسها مجموعات المصالح السياسية وضمن التوجيهات الحكومية
كما "اشتَبَهَ" فيَّ البعضُ بانحدار الكاتب من أصول يهودية، وأكد أن ذلك " يُعبَّر دون شك عن قمّة الهذيان التي أوصلتْنا إليها حالة الضعف والتشرذم والقلق والانهزام النفسي أمام التحدّي الصهيوني في البلاد العربية – الإسلامية".
ولادة أول كتاب لـ" رياض أمين" مؤلمة.. وما بينهما أكثر إيلاما.. لأن الكتاب هو"بحث ومبادرة شخصية لا علاقة لها بمجموعات المصالح والصالونات السياسية وبريئة من كل الظّنون التي تردَّدت في بعض الأوساط عند نشره قبل ثلاثة عقود من الزمن تقريبا، وعلى رأسها الظن بأن هذا الكتاب يهدف إلى الترويج للإيديولوجية الصهيونية وغير ذلك من الأوهام".
في التأني السلامة
تختلف الأهداف والظروف، فبعد سنوات الجمر وبداية شمّ نسيم حرية التعبير في الجزائر، تسارعت خطى الإعلام التقليدي إلى السمعي البصري الخاص ومنه إلى الإلكتروني، ولاحت للبعض فرص الكتابة خارج الأطر المحدّدة في الكتابة المستعجلة.
إنجاب كتاب بالنسبة لصحافي فهو كمن يصنع بيتا على الرمل، فغالبا ما يدخل حلبة الصراع مع القلم الصحافي المستعجل وقلم الكاتب المتأني، ومحاولات التوقف والمواصلة، وتطويع القلم الذي تعود وتدرّب على الكتابة القصيرة أو الكتابة المرتبطة بالإجابة على الأسئلة السبعة التي قيدته في السابق.
هكذا كانت البداية للإعلامي محمد عبد المؤمن الذي يشتغل حاليا في (مؤسّسة البلاد للإعلام)، ليجد نفسه محاطا بأفكار وزوايا مواضيع تتهاطل عليه من السماء، لكنه في الأخير لا يمكن أن يضمنها لأعماله المهنية، إلى أن تحين الفرصة ليخرجها في شكل ومضمون مغاير تماما عن " الفاست نيوز".
سيخرج الإعلامي بكتابه الأول تحت عنوان: " الـ4 الأكبر من 40″، عن دار النشر "خيال" والذي سيكون حاضرا في معرض الجزائر الدولي للكتاب لهذه السنة، إذ اعتبره " حمولة فكرية وعاطفية" لم تكن لها بداية مرتبطة بزمن ولكن الفكرة نضجت على نار هادئة قبل زمن طويل، قبل أن يفرغ المحتوى على الورق.
محمد عبد المؤمن: كنت أكتب نصوصا متفرّقة هنا وهناك للتعبير عن الفكرة التي نضجت على مهل، قبل أن أستجمع تركيزي وجرأتي على الكتابة والنشر
هي بداية صعبة جدا، لأن "رأس الخيط مفقود ووجب البحث عنه بعين ثاقبة ونفس ممتلئة، ولا يمكن مسكه بسهولة، بمجرد أن تجلس على مكتبك"، يقول لـ" الترا جزائر":" كنت أكتب نصوصا متفرّقة هنا وهناك للتعبير عن الفكرة التي نضجت على مهل، قبل أن أستجمع تركيزي وجرأتي على الكتابة والنشر، لجمع هذه المتفرّقات في إطار واحد".
الإعلامي يتحدث هنا:" لم أكتب من أجل الكتابة، ولا من أجل النّشر، أو بعبارة أخرى لم أكتب من أجل ميلاد كتاب، بل من أجل ميلاد الفكرة التي يتضمّنها الكتاب. ولو أن تجربة إصدار الكتب أمر محبّب أيضا".
تمرين على الحياة
من الألم ولدت المجموعة القصصية " رائحة الفضة"، عن منشورات "الجزائر تقرأ"، للصحافية زهية منصر (مؤسسة الشروق)، ترى أنه أول كتاب يليق بـ"مقام" سيدة الكتابة الإبداعية في الصحافة الجزائرية، بالرغم أنها جربت التأليف من خلال مولودها الأول:" صلاة على قبر نجمة" والثاني: "شهادات إعلاميات في زمن الإرهاب"، لكنها لا تعتبرهما كتبا بالمعني الإبداعي للكتابة بل يدخلان في إطار العمل الصحفي.
تقول منصر لــ" الترا جزائر": ولدت "رائحة الفضة" الصادرة في عام 2018، بمستشفى "جيلالي بلخنشير" بمنطقة الأبيار بالعاصمة، وهي نتاج حوار دار بين الكاتبة زهية منصر وطبيبها بالمستشفى خلال أزمتها الصحية التي ألمت بها في عام 2014.
دخل الطبيب المناوب إلى غرفة المريضة (الكاتبة زهية منصر)، فوجد عندها مجموعة من الكتب فأخذ أحدها وقرأ على ظهرها: "لن أتوقف عن ركوب الأرجوحة مهما حصل"، ابتسم وقال " أها تقرئين.. حاولي الكتابة". تصف منصر تلك اللحظة وكأنها تلقت صفعة من الطبيب:" عبارته حاولي الكتابة" ، ردّت وقالت:" لكني لم أكتب من قبل قلت بشيء من الصدق والكذب لأن الكتابة الإبداعية تختلف عن الكتابة الصحفية.
زهية منصر: ولدت "رائحة الفضة" الصادرة في عام 2018، بمستشفى "جيلالي بلخنشير" بمنطقة الأبيار بالعاصمة، وهي نتاج حوار دار بيني وبين طبيبي في المستشفى
فقال:"أكتبي أي شيء المهم أن تحافظي على توازنك من هنا إلى موعد العملية"، إلا أن مباشرة الكتابة وسط التعليمات الصارمة من الكادر الطبي، كان "خربشات" كما تصفها، حتى أنها استعارت كلمة " رائحة في العنوان" من روائح الأدوية.
تقول:" دون وعي مني هربت لروائح الطفولة والذاكرة "صدقا لا أدري حتى الآن كيف ولد عنوان المجموعة.، إذ كتبت نصوصها بشكل متفرق، منها ما نشر في منابر إعلامية وبعضها بقي مسودات غير مكتلمة، وبعضها حاز على مكان له في الذاكرة.
عمل زهية منصر في الصحافة منعها من إتمام المشروع لكنها نجحت في أن "تتخلص من الأدران والشوائب التي ملأت ذهنها وقلبها وذاكرتها" وأفرغتها على الورق "قبل أن تسافر إلى الله"، كما رددت:" لا أجمل من أن تسافر إلى الله خفيفا".
"العمر بقدر"، كتب لمنصر أن تعيش وتبقى النصوص في حقيبتها التي رافقتها لمدة أٍبع سنوات، إلى أن حفزها الكاتب عبد الرزاق بوكبة على تقديمها للنشر رغم أنها لم تقتنع بفكرة النشر، وإخراج نصوصها إلى الضوء، لكن الكاتب بوكبة أصر على ذلك وأشرف على تنقيح وترقيع المجموعة وتدقيقها حتى ولدت بالشّكل الذي ظهرت عليه.
"الكتابة مشروع ممتد ويُصنع على مهل"، هذا ما تعلمته زهية منصر من تجربتها، مع امتنانها الشديد للكاتب الكبير الأستاذ لحبيب السايح الذي قدم نصائحه ورأيه حول بعض نصوص" رائحة الفضة" وقدم لها بعض النصائح في الكتابة النّاضجة، حتى ترقى للكتابة المتأنية الإبداعية.
نِعمة القارة السمراء
تجربة الإعلامي نجم الدين سيدي عثمان مع الكتابة المتأنية، بدأت في 2014، مع انتقال المنتخب الجزائري لكرة القدم إلى منافسات كأس العالم لكرة القدم بالبرازيل، إذ لم يكتف الصحافي بمداعبة الأخبار والحوارات، ليتسع الأفق نحو فكرة تدوين الكثير من الأفكار وتناول عدة زوايا في مناسبة لا تتكرر، إلا أن موعد الولادة لم يحن بعد ..
يقول لـ" الترا جزائر" "لم تكن عملية الكتابة سهلة، إذ أتذكر أنني ألّفت كتابا عن رحلة منتخب الجزائر في مونديال البرازيل وقدمته لدار نشر احتفظت به لفترة طويلة دون تلقي الرد حول عملية النشر من عدمه، وكان الأمر خيبة أمل كبيرة".
الذهاب إلى أدغال إفريقيا، ليس بالأمر الهيّن، بل هو "قطعة من العذاب"، إلا أن السفرية بالنسبة للصحافي " سيدي عثمان" فتحت شهيته للعودة إلى الكتابة وأعادت القارة السمراء لقلمِه الهِمّة بعد أن كللت بحقيبة أفكار وقصص وذكريات تستحق التّدوين.. فلاحت له فكرة الكتابة مجدّدا وبطريقة أخرى.
وثّق سيدي عثمان في كتابه الموسوم بعنوان: "رحلات جزائري في ربوع إفريقيا"، رحلاته إلى إفريقيا، واعتبره " أفضل بكثير من الأول من حيث المحتوى وثراء المعلومات وطريقة الكتابة".
سيدي عثمان: كان يرادوني الشك أنه سيكون من الصعب بيع نسخة واحدة، لكن حدثت المفاجأة في المعرض الدولي بـ" حضور جمهور قياسي ونفذت كل النسخ ما تطلب طباعة كمية إضافية
هذه المرة عرض الكتاب على دار "الأمة " التي وافقت على نشره دون تردّد، ولكن تعين انتظار شهور طويلة ليرى النور قبل صالون الكتاب في طبعة عام 2016، دار النشر لم تؤخر في طباعة كمية معتبرة من الكتب، "كان يرادوني الشك أنه سيكون من الصعب بيع نسخة واحدة"، لكن حدثت المفاجأة في المعرض الدولي بـ" حضور جمهور قياسي ونفذت كل النسخ ما تطلب طباعة كمية إضافية".
قدمت القارة السمراء لـ" سيدي عثمان" جُرعة قوية وحفزته على تأليف أربعة كتب أخرى، والعودة مجدّدا إلى ذاكرة الرحلة التي قادته إلى البرازيل، والإقبال على إعادة الروح لتفاصيلها، وتدوينها بصياغة جديدة مع التدقيق والتنقيح، بعدما بقي معلقا في دار نشر لأشهر طويلة.