20-أبريل-2023
عبد الحميد بن باديس (الصورة: الجزيرة)

عبد الحميد بن باديس (الصورة: الجزيرة)

في مطلع العشرينيات إلى الثلاثينات من القرن الماضي، تداولت مقولة في الأوساط الشعبية والحضرية أن "فلان باديسي" أو فلانة زوجها "باديسي"، وكان العبارة تُوحي بوصف ونعت كل شخصٍ على أنّه من أتباع الشيخ عبد الحميد بن باديس، تَميز أتباع الباديسية بكونهم لم يتبعوا طريقة صوفية، إذ لا يَشهدون ولا يمارسون طقوس أهل التصوّف، وكانت النساء لا تلجأن إلى أضرحة الأولياء الله الصالحين من أجل التوسّل، ولا تقمن بزيارة القبور تبركًا وتوسلًا.

انتقد عبد الحميد بن باديس في مقالاته وخطاباته بعض الطقوس المرتبطة بالشعوذة والسحر كأكل النار واللعب بالحيّات والرقص وتعاطي الحشيش

انتشار الصوفية

بداية من القرن التاسع شهدت الجزائر انتشار الزوايا والطرق الصوفية بشكل واسع، وعلى مر العقود وبسبب عوامل الوهن السياسي والاجتماعي، سُجلت "انحرافات ومفاسد" في المعتقد والسلوك بحسب ما راج في ذلك الوقت، في مقابل ذلك وخلال كلّ تلك المراحل برز من تصدّى إلى لما سمي في تلك الفترة بالخرافات من طرف العلماء والشيوخ والإصلاحيين.

في تلك الفترة من القرن الماضي سطع إلى الساحة الدعوية والإصلاحية العلامة اسم عبد الحميد بن باديس، حيث اشتهر الشيخ بدعوته إلى تصحيح بعض "المعتقدات الفاسدة"، وانتقد في مقالاته وخطاباته بعض الطقوس المرتبطة بالشعوذة والسحر، كأكل النار واللعب بالحيّات والرقص والابتهال إلى غاية فقدان الوعي وتعاطي الحشيش والتشدد في الزهد، وشدد في دعوته إلى العودة إلى "العقيدة الصحيحة والسليمة"، ووقع في تصادم مع بعض المذاهب والطرق الصوفية المنتشرة في الجزائر عمومًا وفي الشرق الجزائري خصوصًا.

هل كان بن باديس وهابيًا؟

 وفي هذا السياق، تضاربت الآراء حول مدى تأثر بن باديس بالتيار الوهابي على إثر  إقامته مدة قصيرة في بلد الحرمين، بيد أن المرجعية الباديسية وإن اقتبست بعض الأفكار من التيار محمد عبد الوهاب، غير أن عبد الحميد بن باديس تلقى وأخذ التعاليم الدينية من المدرسة الجزائرية، ومن معلمي وعلماء الجزائر ولاسيما في الشرق الجزائري، الذين استمدوا العلوم الدينية من الدولة الحفصية بتونس، والذي يبدو  أنها كانت مدرسة دينية تجمع بين العلم والفقه والعقيدة السليمة والتصوف على مذهب الأشاعرة، وقد سبق وأن سجّلت سجالات بين بعض العلماء من "التيار السلفي" مع ا الطرق الصوفية خلال القرن التاسع، وكان ابن مرزوق الحفيد ،من زعماء المذهب السلفي آنذاك،  وكان من جملة العلماء كالحسن بن أبي القاسم بن باديس، وأحمد بن الخطيب ، وعيسى البسكري وبركات القسنطيني، وجلهم من علماء مدينة قسنطينة.

الوجود العثماني

ومع بداية الوجود العثماني سنة 1516 ميلادي، اهتم العثمانيون بربط علاقات مع الطرق الصوفية والزوايا كوساطة بين السلطة والأهالي، بيد أن العلاقة لم تكن دائمًا ودية بينهما، الأمر الذي دفع بالحكام الأتراك إلى تعيين علماء ومشايخ في مناصب الإفتاء والقضاء والعناية بالأوقاف والمساجد والإمامة خارج النسيج الطرق الصوفية، وتَميز هؤلاء العلماء عن غيرهم بالانتماء إلى أهل الحضرـ سواءً من أصول أندلسية، أو ممن استوطنوا في المدن الحضرية من أعيان الاشراف، وقد مارسوا التجارة والتعليم والصناعة والحرف، وقد اشتهرت بعض العائلات بالعطاء الديني والتفوق في مجال الفقه والعلوم على غرار أسرة "الكماد".

ومن أبرز علمائها محمد الكماد الأنصاري القسنطيني الملقب بالوزان، عائلة الفيلالي ومن أعلامها علي الأنصاري السجلماسي، إضافة إلى عائلات ابن باديس وابن عبد المؤمن، وأسرة الفكون وابن جلول، وأسرة البوني وأسرة العنابي في الشرق الجزائري، وقد عُرف عن العالم عبد الكريم الفكون أنه قاد حملة شرسة ضد بعض الطرق الصوفية، ناكرًا بعض الطقوس والتمثلات الصوفية وبعض معتقداتهم.

من هو عبد الكريم الفكون؟

ولد عبد الكريم الفكون في قسنطينة سنة 1580 ميلادي، إذ ينحدر من عائلة الفكون التي عرفت بالعلم والتدريس والفقه، ونظرًا إلى رصيدها الديني والعلمي عقدت أسرة الفكون تحالفًا مع العثمانيين بالجزائر، وورثت العائلة منصب مشيخة الإسلام وإمارة الحج، ونظير هذا المنصب تلقت العائلة الكثير من الامتيازات المادية والمعنوية، فكانت العائلة تشرف على استضافة الطلبة العلم وتمويل المساجد وإطعام الفقراء وتقديم يد المساعدة للفقراء والمحتاجين.

بلغت قيمة عبد الكريم الفكون الحفيد مبلغ علمًا ومقامًا رفيعًا وسط سكان قسنطينة والحاكم العثماني، وتتلمذ عبد الكريم الفكون على يد أبرز العلماء في قسنطينة وهو الشيخ محمد التواتي المغربي، وهو العامل الذي أثر في مرجعيته "السلفية".

ألف الفكون كتابين؛ الأول سماه "محدد سنان في نحور إخوان الدخان"، والكتاب الثاني "منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية"، ويتضح من خلال عنواني الكتابين انتقاد وهجوم عبد الكريم الفكون على بعض الطقوس والتمثلات المنتشرة وسط بعض الطرق والزوايا الصوفية.

 كما اشتغل عبد الكريم الفكون على إصلاح الوضع السياسي والانحرافات التي عرفتها المؤسسات الدينية المرتبطة بالسلطة السياسية منها انتشار الرشوة، واستغلال السلطة والظلم، كما اجتهد في إبراز دور العلم والعقل والاجتهاد والعمل، وكان من أثار دعوة عبد الكريم الفكون أنها كانت مصدرًا معرفيًا وعقائديًا، استمد منه عبد الحميد بن باديس والشيخ مبارك الميلي والطيب العقبي والعربي التبسي عبر سلسلة من تلقين علماء ومشايخ المنطقة.

الحركة الإصلاحية التي قادها عبد الحميد بن باديس في مجال التجديد الديني، استندت إلى مراجع تعود إلى إرث ومخزون علماء الجزائر سابقًا

وبالمختصر، يَكشُف ذلك أن الحركة الإصلاحية التي قادها عبد الحميد بن باديس في مجال التجديد الديني، استندت إلى ومراجع تعود إلى إرث ومخزون علماء الجزائر سابقًا، وهذا لا ينفي أنه نتيجة التحوّلات السياسية والجغرافية والدينية العميقة التي شهدتها منطقة المشرق العربي خلال الحرب العالمتين، كانت لها إرهاصات وانعكاسات على الحركة الإصلاحية بالجزائر.