12-يوليو-2019

المتظاهرون فعوا صور شهداء ثورة التحرير في الحراك الشعبي (بلال بن سالم/Getty)

ما يُمكن ملاحظته في ظاهر الحراك الشعبي الجزائري، أنّه مازال متماسكًا ويحافظ على وحدّة الصف منذ أكثر من أربعة أشهر على انطلاقه، رغم النداءات التي أرادت تشتيت انتباهه عن مطالبه الرئيسية، وافتعال بعض القضايا التي تستهدف إثارة مسائل حول الهويّة والدين والعرق، لكن  ذلك لم يمنع من تنامي تيّارات أيديولوجية مختلفة الرؤى والتصوّر، قد تصل إلى حدّ التصادم أحيانًا في طرحها لإيجاد حلول لهذه الأزمة.

يعتقد النوفمبريون  أن بناء الجزائر الجديدة لن يكون خارج بيان الثورة التحريرية 

ما يمرّ به الحراك الشعبي اليوم، لا يختلف كثيرًا عما حدث في كل الثورات الشعبية السابقة في الدول العربية، إذ شهدت صراعات حادّة بين مختلف التيارات السياسية والدينية والإثنية، وأدى ذلك في كثير من الأحيان إلى حدوث انزلاقات أمنية ومواجهات دامية.

اقرأ/ي أيضًا:الحراك الشعبي.. من الشارع إلى صالونات الحوار

يتّفق الجميع على أن الحراك الشعبي لم يكن وراءه، تيّار سياسي أو جماعة فكرية معينة، إذ سبقت إنطلاقه دعوات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، للاحتجاج ضدّ الولاية الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولم تحدّد حتى الآن الجهة الحقيقية التي أطلقتها، ولم تتبنّ أي جهة هذه النداءات.

الدعوة إلى التظاهر ضدّ الولاية الخامسة لبوتفليقة، كانت الفكرة التي اتّفق عليها الجميع في البداية، ومع مرور الأيّام برزت طموحات لتشكيل دولة جديدة وفق خلفيات فكرية وإيديولوجيات متباينة.

الباديسية

ينطلق أصحاب هذا الطرح من أفكار رائد الإصلاح في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسّس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكثير من الداعين إليها من المنتسبين لهذه الجمعية ورجال الدين وبعض المنتسبين إلى الأحزاب الإسلامية.

يُعطي هذا التيّار أهميّة بالغة لأفكار العلّامة بن باديس، ويرى فيها قاعدة أساسية لبناء الجزائر الجديدة، في مقدّمتها مراجعة قطاع التربية والتعليم في البلاد، حيث ترى أن من الأسباب التي تعيشها البلاد اليوم الانحدار الأخلاقي وتدني المستوى في المجال التعليمي.

ويلحّ مؤيدو هذا التيّار، على التخلّص من اللغة الفرنسية في المنهاج التعليمي الجزائري واستبدالها باللغة الإنكليزية، وهي اللغة الثانية من حيث استعمال، إذ يصرّ هؤلاء دائمًا على التخلّص من لغة موليير التي تمثّل في نظرهم إحدى أسباب هيمنة التبعية للدول الإستعمارية.

يرى المدافعون عن المنهج الباديسي، قدرته على الحفاظ على المرجعية الدينية الجزائرية التي تعتمد على المذهب المالكي، لوضع حدّ للتيارات الدينية القادمة من السعودية الحاملة للأفكار المتطرّفة.

كما يعتقد أنصار هذا التيّار؛ أن العودة إلى أفكار الشيخ عبد الحميد بن باديس، كفيل بوضح حدّ لتمدّد الطرق الصوفية التي تزاوجت مع نظام بوتفليقة، بإعطائها دعمًا منقطع النظير، والذي جعل جمعيات الزوايا المرجع الفقهي الذي كان يُعطي الشرعية الدينية لكل مخالفات بوتفليقة ومحيطه.

النوفمبرية

يعتقد أصحاب هذا الرأي أن بناء الجزائر الجديدة لن يكون خارج بيان الثورة التحريرية أوّل نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، التي أدّت إلى الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.

وحسب المدافعين عن هذا الاعتقاد، فإن أسباب مشاكل الجزائر هو حيادها عن خط بيان نوفمبر التاريخي، والدوس عليه من قبل النظام بعد الاستقلال، رغم أن رموز السلطة كانوا يزعمون في كل مرّة وفاءهم لرسالة الشهداء التي صيغت في هذا البيان.

في مقابل ذلك، ارتفعت لهجة خطابات قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، التي تتضمّن في كل مرة مصطلح "النوفمبرية" في انتشار هذه الفكرة، لكن البعض يعتقد أن هذا الدعم من المؤسّسة العسكرية لأصحاب هذا الرأي قد يجعل المدافعين عنها يقعون تحت طائلة تهمة الاصطفاف مع الجيش، في وقت يشدّد الحراك على عدم تخندقه تحت أي جهة مهما كان ثقلها ووزنها في صناعة مستقبل البلاد.

ويرفض أصحاب الوجّه النوفمبري، رفضا تامًا مقترح المجلس التأسيسي، إذ يعتبرونه إجحافًا في حقّ الدولة الجزائرية الحديثة التي جاءت بعد الثورة التحريرية، فرغم الانتقادات التي توجه لسلطة ما بعد الاستقلال، إلا أنه لا يمكن إنكار ما قامت به جهود في مجال التعليم والصحّة والبنى التحتية.

دولة علمانية

ينادي المنتمون لهذا التوجّه، بمقترح المجلس التأسيسي للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، رغم المخاطر التي يحملها هذا الحلّ كون تطبيقه جلب الفشل في معظم البلدان التي طبقته ومنها الجارة ليبيا.

ويلحّ هؤلاء، على مخرج المجلس التأسيسي كونه يسمح بمراجعة عميقة للدستور الجزائري، وبالأحرى كتابة دستور جديد يسمح بالتخلّص -حسبهم – من المادة الثانية من الدستور التي تنصّ على أن الإسلام دين الدولة، إذ يصبح في الإمكان مراجعة عدّة قوانين في مقدمتها قانون الأحوال الشخصية الذي يسمح بتعدد الزوجات، ومختلف القوانين المتعلقة بالأسرة في مقدّمتها قانون الميراث والحريّات الفردية.

يرفع هؤلاء شعار "دولة مدنية لا عسكرية"، ويعتبرون أن تحقيق ذلك يكون بتطبيق مخرجات مؤتمر الصومام في 1956، الذي لازال يشكّل إلى اليوم نقطة خلاف بين من صنعوا ثورة التحرير ضدّ الاستعمار الفرنسي.

لا تؤيّد هذه الفئة، قرارات قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، التي ترى فيه مثالا فعليًا لعسكرة الدولة بعد رحيل نظام الرئيس بوتفليقة، وترفض مقترح إجراء انتخابات رئاسية قبل تعديل الدستور.

مؤخّرًا، لم يتردّد قايد صالح في الردّ على رافعي هذا الشعار، قائلًا إن من "الرافضين للسير الحسن للمسار الدستوري الصائب" من يرفع "شعارات كاذبة ومفضوحة الأهداف والنوايا مثل المطالبة بالدولة المدنية وليست الدولة العسكرية، إنها أفكار مسمومة أملتها عليهم دوائر معادية للجزائر، ولمؤسّساتها الدستورية، دوائر تكن حقدًا دفينا للجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، ولقيادته الوطنية النوفمبرية".

 ويعاب على هذه الجماعة أن من بين مسانديها أحزابًا أثبتت الأحداث المتعاقبة، أنها ظلّت إلى وقت قريب على صلة بجنرالات النظام السابق مثل حزبي العمال والتجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية، اللذين يتّهمان على أنهما من صنيعة رئيس المخابرات السابق محمد مدين القابع في السجن العسكري بالبليدة.

لكن المدافعين عن هذا التوجّه، يعتبرون أنفسهم غير معنيين بهذا الاتهام الذي يوجّه إليهم، لأن الأحزاب السياسية في البلاد لا تمثّل صوت الشارع الجزائري، كما يؤكّدون أن ضمان طلاق السياسة بالدين سيضمن للجزائر السير نحو الديمقراطية الحقيقية والازدهار الاقتصادي.

يرفض كثيرون التخندق أيديولوجيًا في الحراك الشعبي قبل تحقيق المطالب الداعية إلى إسقاط رموز النظام

قد تشكّل التوجّهات الثلاثة السالف ذكرها، أبرز التيارات الفكرية التي ظهرت خلال مسيرات الحراك الشعبي في الجزائر، لكن الملاحظ أن كثيرين يرفضون هذه التصنيفات والتخندق داخلها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الندوة الوطنية.. تحييد أحزاب السلطة والجيش

بن صالح في مهمّة أخيرة.. شخصيات مستقلّة لتنظيم الانتخابات