20-أكتوبر-2019

عثمان عريوات/ تصميم: هشام ڨاوة

لطالما شكّلت السينما والمسرح وبقيّة فنون العرض، مصدرًا قويًا للغة السخرية والتهكّم في الشارع الجزائري؛ فهي في كثير من الأحيان، تكون لسان حاله الذي  يُحاكي واقعه ومعاناته وجراحاته، ويُلامس أدّق التفاصيل في يومياته، ويُجابه ماكنة سياسية واجتماعية تُثقل كاهله.

شخصية "البومباردي" في فيلم "كرنفال في دشرة"، هي دور سوسيو- ثقافي معقّد يُحاكي شخصية المسؤول الجزائري

حين يتعلّق الأمر بفنان عصيّ على الرضوخ والنسيان، مقاومٍ للتهميش والتغييب، ينأى بنفسه عن المساومات التي تجعله يرضى بأيّ شيء مقابل ما يسدّ به رمقه، فمن الطبيعي أن يُصبح الفنان عثمان عريوات، أيقونة شعبية يتبنّى الشارع مواقفه وحركاته وانفعالاته، وتشغل لغته مساحة كبيرة من القاموس اليومي للمواطن البسيط، في السخرية والغضب والنقد الاجتماعي، مستغلًا بعض شخصياته التمثيلية، المُحاكية لسلوكات ونماذج سياسية واجتماعية، لقراءة وتحليل وفهم الوضع الراهن.

اقرأ/ي أيضًا: "الفنون الجميلة" غير معترف بها في الجزائر؟

يُجسّد عثمان عريوات مفهوم الكوميديا السوداء؛ فشخصية "البومباردي" في فيلم "كرنفال في دشرة"، هي دور سوسيو- ثقافي معقّد، يُحاكي شخصية المسؤول الجزائري، ويعرّي ممارسات السلطة الحاكمة، ويحشرها في زاوية ضيّقة، ليتمكّن المشاهد من فهمها على نحو ساخر؛ حيث لم يعد يخفى على أحد مدى فساد مثل هذه الشخصيّات في الواقع.

كأنّ الفنان عثمان عريوات اليوم، يتحدّث باسم الشارع الجزائري الذي يُشبه بركانًا قد ينفجر في أيّة لحظة، من خلال شعارات باتت لصيقة بالمظاهرات الشعبية، حيث انتشرت تعابيره بقوّة في مواقع التواصل الاجتماعي، ووُظّفت لانتقاد الأوضاع وتعريتها بشكلٍ هزلي؛ فالعديد من مواقفه السينمائية التي بقيت عالقة في أذهان مشاهديه، اقتُبِست من بعض أفلامه، وتحوّلت إلى لوحات احتجاجية، تفنّن كثيرون في استغلال نقاط قوة النّقد الساخر فيها، باستحضار مشاهد هزلية بقيت لسنوات متنفسًا يلجأ إليه هؤلاء، للتعبير عن سخطهم ورفضهم لمختلف المشاهد السياسية، الثقافية، الاقتصادية والاجتماعية على حدّ سواء. 

وجه الحراك الساخر

هو حراك شعبي،  كان لا بدّ له من لغة يفهمها الجميع، من هنا برز دور الفنان عثمان عريوات، ليكون صوتًا مدويًا من بين الأصوات التي استغلتها ثورة الابتسامة، للتعبير عن سخط الشارع، هذا الممثل "الغائب المغيّب" في الواقع عن الساحة الفنية، كان وما زال، ذلك الوجه  الساخر الذي استعاره الجميع للتعبير عن مكنوناتهم بفكاهة تُخفي تحت لحافها مواقف شاجبة ورافضة. سخرية طفت إلى السطح بواقع مزرٍ يستوطن المشهد الجزائري في كلّ مجالاته.

فلسفة كرنفالية

يتساءل الأستاذ الجامعي جمال بلقاسم، في حديث إلى "الترا جزائر"، عمّا إذا كان من الممكن فهم الفنان عثمان عريوات، على أنه نوع من التخريبات الكرنفالية (Carnivalesque) لنظام السلطة؟ وهو أحد المفاهيم المرتبطة بالفيلسوف مكائيل باختين. الاستخدام المعاصر لهذه المداخلة، هو استخدام مجازي يتضمّن أشكال المقاومة للسلطة والحكم داخل الثقافة الشعبية، على حدّ تعبيره.

يوضّح بلقاسم "أن سلطة الكرنفالي لا تكمن في أنه قلبٌ بسيطٌ للفروقات الاجتماعية والثقافية، بل هو نوعٌ من غزو العلوي من  قِبل السفلي، هذا الغزو الذي يتميّز بإبداع أشكالٍ هجينة وساخرة"، مضيفًا أن عثمان عريوات كنوع من الصورة أو السرديات المنتجة لمقاومة، ليس علينا تفسيره كقلبٍ بسيط لنظام العلوي والسفلي، أو للسلطة وغيابها، بل يجب أن نفكر فيه كازدواجية وتفاوض، كما هو مجّسد بواسطة الميزة التخريبية لـ: "الكرنفالي".

ميزة نجدها كما قال بلقاسم، في هذه الفكرة المستمدّة من كرنفال العصور الوسطى، وقتَ كانت تمنح قدرًا من الحرية - التي لم يكن مسموحا بها- لأشخاص من العامة، للسخرية من رجال الحكم المرتبطين بالكنيسة والدولة، على حدّ تعبيره.

يعتقد الأكاديمي، أنّ هذه الفكرة تنطوي على قلب مؤقّت لنظام سلطة ما، من خلال إقامة طقوس وألعاب تتضمّن سخرية وشتائم، فيتم الإطاحة بالمؤدّب من قبل السوقي، وبالملك من قبل الشعب.

ماكنة سخرية سياسية

من جهته اعتبر الفنان هشام ڨاوة، الملقب في الوسط الفني بـ "الموسطاش"، أنّ عثمان عريوات أيقونة سينمائية خالدة في الجزائر، وقال إنّه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة، صار هذا الفنان أيقونة للسخرية السياسية أيضًا، شخصية عثمان عريوات على حدّ قوله، دفعت الناس إلى البحث عن الاقتباسات الشهيرة الموجودة في أفلامه، وحِفظها وترديدها عبر منشوراتهم الفيسبوكية وأحاديثهم الواقعية أيضًا، كما دفعت العديد من الشغوفين بصناعة الفيديوهات وتركيبها إلى استغلال شخصية "البومباردي" مثلًا في التعبير عن حالات سخط اجتماعي وسياسي تنغّص عيش المواطن الجزائري، وكل هذا، حسب المتحدّث، هو طريقة يتفرّد بها هذا الممثّل للتعبير عن الموقف السياسي الخاص به.

هنا، يؤكّد المتحدّث أنه اختار أن يزاوج بين شخصية عثمان عريوات وصورة الثائر "تشي غيفارا" في لوحة صوّرت معنى النضال والحرّية التي كافحا لأجلها كلٌّ بطريقته؛ فالفنان عريوات حسب هشام ڨاوة، هو أيضًا رمز للنضال الثقافي في الجزائر، ومحرّك ماكنة السخرية السياسية فيها، وهو قطعًا، أحد أعمدة الثقافة الشعبية التي ما تزال تُناضل ولو بالصمت، على حدّ قوله.

في السياق نفسه، اعتبر المخرج المختصّ في الأفلام الوثائقية خالد شنّة، أن عثمان عريوات عبقري تفرّد بأسلوبه الساخر في السينما الجزائرية، "هذا الثائر الذي أتقن جدًا دور (مخلوف البومباردي)، شخصية عرّت كل ما هو فاسد ورديء داخل مؤسّسات الدولة، بين رجال السياسة وفي قلب المجتمع الجزائري".

يضيف شنّة، أنه رغم مرور 25 سنة من إنتاج فيلم "كرنفال في دشرة"، إلا أنه ما زال يعبّر عن واقع الحال المهترئ الذي فُرض على الشعب، لذلك فإن رمزية "البومباردي" راسخة في ذهنية الفرد الجزائري، ويُحاول دائمًا إسقاطها على كلّ ما هو فاسد، كما وظفها المجتمع الفيسبوكي، كلٌّ حسب مقاصده وأفكاره.

استطاعت شخصية "مخلوف البومباردي"، أن تبقى عالقة لسنوات في أذهان الجزائريين، و بمجرّد اقتراب مواعيد الاستحقاقات الانتخابية، يستحضر المواطن الجزائري، الممثّل عثمان عريوات، في مخياله اليومي طيلة الحملة الانتخابية.

 وحده" البومباردي" عكس الوجه المتردّي للوعود المزيّفة التي يقدّمها المترشّحون للانتخابات، و بقدر ما جسّدت صورته المرئية، نمطية الرجل السياسي المتخلّف السائدة في البلد، كانت للكلمات تأثير أكبر مثل "بوسيو الحالة" "راك كبير" عن عشوائية التسيير المعيب للإدارات العمومية.

هنا، يعتبر الفنّان المسرحي محمد زياية في تصريح إلى "الترا جزائر"، أنّ عثمان عريوات، لجأ في فيلم "كرنفال في دشرة" إلى قالب فنّي مبني على التهكم والسخرية، وبما أنه بالأصل فنان كوميدي، فقد جاءت هذه الشخصية على مقاسه، حيث كان مجرّد إنسان "درويش" يجمع المال عبر الشوارع، وهذه رمزية تمثيلية لشخصية "بوسعدية" الشهيرة في الثقافة الشعبية، ثم ينتقل بسرعة صاروخية نحو منصب رئيس بلدية عبر طرق ملتوية كثيرة، يُضيف المتحدّث.

يقول زياية "القرية التي ترأّسها مخلوف البومباردي، لها رمزية أخرى عن الوطن، هذه النقلة التي عبّر عنها  المثل الشعبي بشكلٍ عميق (ادخل يا مبارك بيك بحمارك)، اجتمعت في شخصية البومباردي، ومجموعة من الأشخاص ذوي السيرة السيئة والمستوى الثقافي المتدنّي، ليكونوا في مجلسه، وتبرُز هنا شخصية (بنونة) التي تمثّل المثقّف الذي لا يقوى على تغيير الفساد، ويكتفي بالانتقاد تحت جناح  السلطة".

محمد زياية: "ربّما لعبت البيئة التي نشأ فيها عثمان عريوات دورًا كبيرًا في سهولة تقمّصه لشخصية البومباردي"

يختم المتحدّث بالإشارة إلى أن عثمان عريوات عاش هذه الشخصية من أعماقه، وربّما لعبت البيئة التي نشأ فيها، دورًا كبيرًا في سهولة تقمّصه للدور، "فعرف كيف يوصل تلك الشخصية للمشاهد. شخصية تنبّأت بالتراكمات التي شهدتها الجزائر لاحقًا، تقّمص فيها أيضًا مبادئه الحقيقية في الواقع، والمبنية على كراهية الرداءة ومقت الحڨرة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الفن وزمن التغيير.. أصعب مراحل الثورة

السينما الجزائرية تفقد ملاكها الأبيض