(1)
دعاني صديقي الكاتب والباحث في الفلسفة البشير ربّوح للمشاركة في ندوة عن المثقف والحراك، رفقة الكاتبين والباحثين اليمين بن تومي وعبد الرزاق بلعقروز، في مدينة رأس الوادي، باسم فرع ولاية برج بوعريريج لـ"الجمعية الجزائريّة للدّراسات الفلسفيّة"، فاستجبت مباشرةً. هل يجوز رفض دعوة فيلسوف الحراك إلى ندوةٍ عن الحراك؟
قال البشير ربوح: خدمة المثقفين وسام، حتّى وإن كان بعضهم من اللّئام
(2)
توجّهت إلى رأس الوادي صبيحة السّبت، فحدث أن كنت أوّل الواصلين إلى المكتبة الرّئيسيّة، حيث تُعقد النّدوة، ولم أجد إلّا كهلًا فارع الطّول أسمرَ الملامح قويّ البِنية.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| بشير ربّوح: الحراك الشعبي حقل دسم للفلسفة
(3)
لم أعرفه. مع ذلك فقد غمرني بترحيبٍ موغلٍ في الحفاوة والكرم. وراح يذكر لي تفاصيل ما قرأ لي بشغفٍ برمجني على الحياء، فأنا أجد حرجًا عميقًا حين يُشيد بي أحدُهم في حضرتي.
(4)
استحيتُ أن أسأله عمّن يكون، فتفاديت ذلك بالانخراط معه في ما كان منشغلًا به: تنظيف قاعة النّشاط. مسح الغبار عن الطّاولات والكراسي. تعليق شعار الجمعية. ترتيب منصّة الجلسة. وضع دفتر الشّهادات. وحين هممتُ بأن أشاركه في تنظيف المرحاض، أقسم أنّه سيفعل ذلك وحده.
(5)
كانت صورة الرّئيس بوتفليقة لا تزال معلّقةً، وقد مرّت أيّام على انسحابه، فقلت له: لنزحها. قال: نفعل ذلك بحضور النّاس. يجب أن نُشهد النّاس ونحن نخطو نحو المستقبل.
(6)
جاء البشير ربّوح، رفقة الشّابين النّاشطين مبروك عدالة وجمال خابة، تسبقهم ابتساماتهم وأغراض القهوة والشّاي. فقلت لهم: إنّني أفعل هذا منذ كنت مساهمًا في الإشراف على "المقهى الثقافي" باتحاد الكتّاب عام 2002، ثم المقهى الأدبي والمقهى الفلسفي في المكتبة الوطنيّة، ففضاء "صدى الأقلام" في المسرح الوطني، ثمّ مؤسّسة فنون وثقافة، فـ"المقهى الثقافي" في برج بوعريريج. سبعة عشر عامًا في تقديم القهوة والشّاي لجمهور النّشاطات الثقافيّة.
قال جمال خبابة: لو أنّك فتحت مقهًى تجاريًّا لصرت الآن ثريًّا.
قال البشير: خدمة المثقفين وسام، حتّى وإن كان بعضهم من اللّئام.
(7)
ثمّ قال البشير: لقد كسرتَ قاعدة أنّ المثقف يحضر متأخّرًا يا رزيق.
ـ لقد وصلت قبل نصف ساعة وساعدت الحارس.
ـ من الحارس؟
ـ ذاك.
ـ إنّه الأستاذ محمّد الصّادق بلّام. عضو الجمعيّة وأستاذ الفلسفة في جامعة باتنة.
تفاديت الحرج هذه المرّة، بأن هرولت إليه واحتضنته. فغمرني إحساسُ أنّي أحتضن أبي. ولولا نكتة بادر بها البشير، لاستسلمتُ لدموعي. فأنا أتأثّر عميقًا كلّما التقيت مثقّفًا ميدانيًّا لا لسانيًّا.
(8)
عرفت من قبل منشّطي جلسات ذوي أصواتٍ قويّة، بما يبعث فيك الرّهبة، لكنني اكتشفت في تلك الندوة، من خلال تنشيطه لها، أنّ محمّد الصّادق بلام لا يُنافس في هذا الباب. إنّه نهر يهدر.
كان مانحًا لي اهتمامَه، وأنا أتحدّث، فأنت لا تعرف إن كان راضيًا أم ساخطًا، من خلال ملامحه الصّامتة، بما أربكني: هل هو معجب بما أقول أم أنّه يمتعض؟
(9)
قلت في تلك النّدوة: تشكّل مفهوم المثقّق في الجزائر خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين، مرتبطًا بالالتزام بالفكرة الوطنيّة، فكان المثقف الخائن هو الذي يدافع عن الفكرة الاستعمارية. بعد الاستقلال الوطنيّ الشّكلي، ورثت عصابة معيّنة الحكم، باسم الشّرعيّة التّاريخيّة، وتبنّت مفهوم المثقف الذي يخدم خياراتها السّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، في مقابل تخوين المثقف النّقديّ. فيما عملت المرحلة البوتفليقيّة على تمييع المشهد وتصحير الذوق العامّ بنقل السّلطة إلى المال، فبات رجل المال المغشوش هو القدوة، بما أخرج المثقف من المعادلة سواء كان نقديًّا أو مواليًا.
توجّه قطاع واسع من المثقفين الجزائريّين، خلال المرحلة البوتفليقية، إلى انتقاد عقليّة ونفسيّة الشّاب، فظهرت مصطلحات تشويهيّة مثل "الرّوجي" و"الوانتوثريست" و"الزطشي"، أكثر من انتقاده للحاكم الفاسد. بما خلق هوّة بينه وبين الجيل الجديد.
وفي ظلّ هذه الهوّة كان الشّابّ الجديد يُغيّب نفسه، باعتماد الاسم المستعار في الواقع وفيسبوك، ليعطي انطباعًا بكونه مستقيلًا معنويًّا، فلمّا تشرّبت المنظومة الحاكمة هذا الحكم عنه، وتجرّأت على أن ترشّح له جثة، أعلن عن نفسه يوم 22 شبّاط/فيفري، واضعًا كثيرًا من المنظومات أمام سؤال دلّ على افتقادها لحسّ المواكبة: أين كان هذا؟ على قطاع واسع من المثقفين أن يعتذروا لهذا الجيل، قبل أن ينخرطوا في حراكه.
استطاع الحراك أن يتفوّق على العصابة الحاكمة عاطفيًّا، فاستطاع أن يحقّق الحشد العظيم في بداياته، لأنّ العصابة بلا عواطف. وهو مطالب الآن أن يتفوّق عقليًّا وفكريًّا، لأنّها عصابة تفكّر ويُفكّر لها غيرُها في الدّاخل والخارج. وهو إن لم يُعقلن نفسه وأنفاسه ستتمكّن العصابة من تفكيكه، فنفوّت فرصة تاريخيّة للتّغيير، قد لا تتكرّر إلا بعد عقود.
(10)
التقينا مرّاتٍ قليلاتٍ بعدها في الواقع. ودردشنا مرّاتٍ كثيراتٍ في الافتراضيّ. وقد رأيته شاحبًا وحزينًا، في الجمعة التّي وقّعت فيها كتابي عن الحراك، في شوارع رأس الوادي، فسألته: ما بك يا عبد الحفيظ؟ (هكذا نناديه). فزمّ شفتيه وحاجبيه ورفع كتفيه، من غير أن ينطق بكلمة واحدة. ولم أكن بحاجة إلى الكلام، حتّى ألمس حجم الوجع الذّي كان يسكنه.
(11)
قبل أيّام. انتابني إحساس عميق وحقيقيّ بالموت، فرحت أكتب ومضاتٍ أخاطبه فيها. وكان عبد الحفيظ يلتمسني في الدّردشة، كلّما قرأ ومضة، ويسألني: رزيق.. هل أنت بخير؟ فأطمئنه. وقد قال لي مرّةً: "اسمع.. إذا متَّ فسأقتلك. هناك ما ننجزه معًا مستقبلًا". إلّا أن البشير لم يتفاعل إطلاقًا مع تلك الكتابات عن الموت، وهو الذّي كان يفعل مع كلّ ما أكتب.
حدّثني أحدهم ونحن واقفان على قبره، بعد أن تفرّق المشيّعون: التقينا في المقهى كالعادة وكان متشنّجًا، فسألته: ما بك؟ قال: بوكبة.. بوكبة. سألته: ما به؟ قال: يكتب عن الموت منذ أيّام، بما يوحي أنّه يوشك على أن يموت. علينا أن ندافع عن الحياة إلى آخر لحظة. خاصّة هذه الأيّام. قلت له: كلّمه. قال: أستحي أن أتدخّل في الشّؤون الدّاخلية لكاتب، حتّى وإن كان صديقًا مقرّبًا.
(12)
في دردشة سابقة قلت له: البشير. ما تكتبه عن الحراك في شكل ومضات مهمّ جدًّا. إنّه يجمع بين التأمّل الفلسفيّ والعمق الإنسانيّ، بما يبعث على التّفاؤل. وإنّي أرى أن تجمع الومضات المتميّزة في كتابٍ، مثلما فعلت أنا في "رماد يذروه السّكون". قال: هي لك. تصرّف. قلت: اتفقنا كمال خويا (هكذا كنّا نناديه).
(13)
صبيحة الأربعاء 30 نوفمبر. كلّمني صديقي الزّجّال رشيد بلمومن. وفهمت من تردّده أنّ ثمّة من مات من أصحابنا. في تلك الثواني، انهالت عليّ عدّة احتمالات، إلّا احتمال البشير ربّوح.
لم أصدّق. فالتمست محمّد الصّادق بلّام في المسنجر: صح البشير مات يا عبد الحفيظ؟ أربكني أنّه لم يرد. ثمّ هيمن عليّ الارتباك حين علمت أنّه كان معه في السيّارة نفسِها.
سأجمع ومضاتك عن الحراك في كتاب أسميته: "فيسلسوف الحراك: ما كتبه البشير ربّوح عن الحراك قبل التّحليق"
(14)
خويا البشير: اتفقنا.. سأجمع ومضاتك عن الحراك في كتاب أسميته: "فيسلسوف الحراك: ما كتبه البشير ربّوح عن الحراك قبل التّحليق". هل أعجبك العنوان؟ لكن كيف سأرسل لك الغلاف لتراه قبل الطّبع؟
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة
"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها