23-ديسمبر-2017

بإمكان الجزائر إصدار كتب إبداعية تشكل قطيعة جمالية مع السائد (Getty)

كتبتُ على صفحتي في "فيسبوك" مرّةً: يمكن في الجزائر أن تصدر كتب إبداعية، تشكّل قطيعةً جماليةً مع السّائد، فلا تحظى بحرف أو كلمة أو إشارة أو التفاتة أو عرض أو استضافة، ما عدا في حالات نادرة! بما يشير إلى أنّ هناك إجماعًا على إجهاض الصّوت الجديد والمختلف، مستغلين حياء المبدعين الحقيقيين وبعدهم عن كعكة العاصمة، في مقابل حفاوة مغشوشة، بكتب أقلّ ما يُقال عنها إنها أرقام مكرورة في سلسلة موروثة.

وحده الصّدق مع الكتابة ومع النّفس، ما يفرض على المبدع الحقيقيّ أن يقوم بالواجب تجاه الإبداع والمبدعين

أقول هذا، وفي ذهني أسماء كثيرة ومثيرة. والعزاء في أنّها لا تكتب للأضواء، بل لتعطي للظلّ معنى الشّمس.

اقرأ/ي أيضًا: المؤسسات الثقافية في الجزائر كأداة لخدمة النظام

وحده الصّدق مع الكتابة ومع النّفس، ما يفرض على المبدع الحقيقيّ أن يقوم بالواجب تجاه الإبداع والمبدعين. إذ لا يمكن أن يواجه بياض الورقة ليكتب نصًا جديدًا، وهو قد اقترف إقصاءَ نصٍّ آخر يراه جديرًا، أو أشاد بنصٍّ يؤمن في قرارة نفسه بهزاله، لأي سبب من الأسباب الشّخصية البعيدة عن الحسابات الإبداعية.

مرّةً، أرسلت لي إحداهن رابطًا فيسبوكيًا، يتضمّن نصًّا جديدًا لها، طالبة منّي التفاعل معه بالإعجاب والتعليق. قلت لها: إنني لا أستطيع فتحه، ولا التفاعل معه، لأنني لم أعد قادرًا على تصديقها. فقد رأيتها في المنبر الإعلامي الذي تشرفين عليه، تستضيفين أصواتًا هزيلة لتحاورها في مواضيعَ تعلم أنها لا تملك الكفاءة المعرفية والرّصيد الجمالي اللذين يمنحانها الحقَّ في أن تكون في ذلك المنبر، خلفًا لأصوات حقيقية تعرفها جيّدًا، وتملك أرقامها وإيمايلاتها وحساباتها الفيسبوكية. كيف أفهم هذا ما عدا أنها تعمل على حماية اسمها بتكريس نخبة مغشوشة؟

لقد بات فيسبوك مرآةً. وإنّ قليلًا من المتابعة يجعلنا ندرك كيف يتفاعل كثير من نخبتنا الإبداعية، انطلاقًا من حسابات غير إبداعية. فالسيد "و" مثلًا، وضعت هذا الحرف اعتباطيًا، يبدي إعجابه بصورة قطّةٍ ترضع كلبةً وضعتها فتاة تضع اسمًا وصورةً مستعاريْن، أو خاطرة تافهة لها، لكنّه يمرّ مرور اللئام على نصّ جميل لاسم جميل، يعرفه في الواقع، أو حوار عميق، بل إنّه لا يكلّف نفسه بواجب التهنئة على منشور يعلن فيه صاحبُه المبدع أنه أصدر كتابًا جديدًا، أو فاز بجائزة وازنة، أو شارك في نشاط حقيقي.

أمّا إذا حدث أن بات مشرفًا على منبر ما، فإنه يسهر الليالي ليحصي الأسماء الجيّدة والجادّة التي ستصبح معنية بتهميشه في منبره، وكأنها ستُمحى من الوجود حين لا يستضيفها، أقصد حين لا يعطيها حقّها في الاستضافة، لأن المنبر عمومي أصلًا، وما هو فيه إلا وسيط.

وليت البعض من هؤلاء يكتفي بتجاهل إنجازات غيره، بعدم التعليق أو التهنئة، بل إنه ينبري لتتفيهها والتقليل من أهميتها! والغريب في هذا النّوع من البشر كونهم سبّاقين إلى الحديث عن النّزاهة وضرورة الدّفاع عن الجودة والجمال، بل إنهم "يموتون" في أخذ الكلمة خلال المحافل التي تحتفي بمبدعين راحلين لم يقولوا فيهم كلمة خير واحدة أثناء حياتهم، هذا إذا لم يكونوا متورّطين في الإساءة إليهم وتعكير صفو أيامهم. إنها الوقاحة الماشية على رجلين.

كنتُ في معرض للكتاب في إحدى الدّول العربية، وصادف أن التقيت كاتبًا جزائريًا "كبيرًا" في الرّواق، فاندفعت عفويًا إلى مصافحته. فإذا به يطعنني بهذا السّؤال: "بوكبة.. إيش جابك؟". نظرت إليه: "لو كنت منسجمًا مع صفة الكاتب الكبير التي تحمل، لكنتَ أنت السّبب في حضوري وحضور نخبة أخرى من الكتّاب الشّباب، لا أن تستنكر وجودي في معرض للكتاب! هل وجدتني مشاركًا في معرض للخضر والفواكه؟".

وحدث مرّةً، أن كنت في مكتب ناشر عربي، وإذا به يتلقّى مكالمة من كاتب جزائري يحذّره فيها من أن ينشر رواية كاتب جزائري آخر، بحجّة أنه مُتَابع أمنيًا في البلاد، ولن يسمحوا له بإدخال روايته إلى السوق الجزائرية، بالتالي سوف يخسر معه.

نزعات الإقصاء الثقافي في الجزائر لا تمثل ثمرة غريبة عن طبيعة البنية العامة المُشكّلة للمشهد الجزائري

لهذا الواقع مسبّبات كثيرة، تحتاج إلى دراسة علمية عميقة ترصد جملة السّياقات الثقافية والسّياسية والاجتماعية التي أدّت إليه، فهي ليست ثمرةً غريبةً عن طبيعة البنية العامّة التي تشكّل هوية المشهد الجزائري، وطبيعة النظام السّياسي القائم على الاستثمار في صراعات الجهات والوجوه والاتجاهات، في ظلّ غياب تامّ لمشروع حضاري وطني يلاقي بين الكفاءات، لتحقيق الرّهانات الوطنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الثقافة في الفضائيات الجزائرية.. "وجبة بايتة"

مثقفو الواجهة في الجزائر.. ضوء مغشوش