28-سبتمبر-2021

(الصورة: الجزيرة)

يستعمل المهاجرون السرّيون الوافدون إلى القارة الأوروبية مصطلح "حرقت كوراطي" أو "أحرقت أوراقي"، للتعبير عن وضعيتهم الجديدة، فأول ما يفعله الماهجر غالبًا لتفادي العودة إلى بلاده هو إخفاء وثائقه الثبوتية أو التخلّص منها، وأصبح هذا المصطلح الأكثر تداولًا بين هؤلاء المهاجرين، على أمل أن يعثُروا على هوية جديدة في بلدان أخرى، كثيرًا ما وُسِمت بـ"الجنّة الموعودة"، لكن قصص "الحراقة" تروي جانبًا آخر من يوميات التشرد وطوابير المساعدات وملاحقات الشرطة.

يروي المهاجر كريم عن رحلته إلى أوروبا ونومه في الشوارع والأنفاق ووقوفه في طوابير الوجبات الساخنة واشتغاله في الحقول والمزارع

هذا تعريف شامل لـ"الحرقة" من منظور اجتماعي، كما قال الباحث الجزائري في قضايا الهجرة وحقوق الانسان عبد اللطيف ملزي لـ "الترا جزائر"، معتبرًا تلك المغامرة شعورًا ذا دلالات أهمها: "الحَرقة والحَرْق، والحُرْقَة، إذ يقطع المغامرون في هِجرتهم السرّية نحو المجهول مع محطّة البداية والانتقال الأولى، ووطنهم وهويّتهم. كما أنها بداية خاطئة في رحلة البحث عن مصير آخر تحت مسمّى صناعة مستقبل أفضل، ولكنّهم مع مرور الأيام والأشهر والسّنوات تبقى لديهم ذكريات كجرح لا يمكن يلتئِم وشرخ في النّفس والرّوح لا يمكن أن يُشفى، بسبب بركان الماضي، ومفعول الحنين".

اقرأ/ي أيضًا: الهجرة السرية عند الجزائريين.. تِكرار تجارب فاشلة؟

وواصل الباحث قائلًا: "كثيرون من هذه الفئة يعيشون الفترة الانتقالية في حالة لا توازن وخوفٍ دائم، وتوجّس يومي من شيء ما، خاصة إن لم يجدوا بعد وجهتهم الحقيقية، ولم يهنأوا بطعم الاستقرار والأمن والأمان".

الشعور باليأس، والحقرة، والظلم الاجتماعي، عوامل نفسية واجتماعية من العوامل الطّاردة للشّباب الجزائري، فبالإضافة إلى العامل الاقتصادي والبطالة، فإن العامل النفسي هو الأكثر إيلاما لدى هؤلاء "الحرَّاقة"، فاليأس يؤدّي إلى الاكتئاب، وغالبًا ما تدفع بأصحابها إلى الانتحار، كما قالت الأستاذة في علم النفس السّلوكي فريدة لعرابة من جامعة قسنطينة شرق الجزائر، لافتة في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن "الحرقة هي شكل من أشكال الانتحار، خصوصًا لدى المغامرين الشباب في عرض البحر، فاليأس إذن هو حافز للهجرة السرّية التي لا تحمد نهائيتها".

هرب مستمرّ

 شعرت باليأس وبالحقرة (الظلم)، خاصة نحن جيل ما بعد الأزمة الأمنية، بلا أفق ولا مستقبل، هذه الجملة كرّرها كثيرون في حديثهم سابِق إلى "الترا جزائر"، من بينهم هشام وزملاؤه ممن فشلوا في الوصل إلى الضفة الأخرى، ومحاولة تجريب مغامرة الهجرة السرّية أكثر من مرّة.

قضى الشاب كريم لمجد، المنحدر من منطقة وادي الفضّة بولاية الشلف غرب العاصمة الجزائرية، أكثر من 15 سنة، متنقّلا بين بلد وآخر، بعدما هاجر بطريقة سرّية في نهاية سنة 2005، في تجربة محفوفة بالمخاطر، بدءًا من لحظة ركوبه الزورق المطاطي بسواحل مدينة تنس غرب العاصمة الجزائرية، وكان وقتها نجا من الغرق هو ورفاقه.

سنوات القلق

سنوات قضاها كريم متنقّلًا بين فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وأخيرًا استقر في تركيا، قصته تجاوزت حدود هذه البلدان الأربعة، فهو لم يذق طعم الراحة النفسية إلا في العام 2018، يعلّق هنا: "13 سنة كاملة وقلبي يخفق من شدة القلق.جنّبتني الأقدار السكتة القلبية بسبب ذلك الرّهاب اليومي".

 ستّ سنوات من تلك الفترة، قضّاها بين إيطاليا وفرنسا؛ يضيف كريم: "كنت شابًا يافعًا، أتحمّل الضربات والسقطات أيضًا؛ حُلمي الوصول إلى أوروبا والعمل وإنهاء عذابات عشتها في الجزائر بسبب مشاكل أسرية فاض القلب من تحملها، رغم أنني من عائلة ميسورة الحال، لكن في النهاية أصبحت هاربًا".

يروي المتحدّث مزقًا من يومياته في شوارع أوروبًا، متجنّبًا رجال الشرطة وحواجز التفتيش، يقول: "كنت كالخائف من عدوٍّ مجهول، بلى كنت أرى أعوان الشّرطة، فأفرّ منهم كأنّهم جرب يعدي، عرفت النّوم بعين مُغمضة وأخرى مفتوحة، نمت مثل كثير من "الحراقة" في الشوارع والأنفاق وفي محطّات القطارات، وقفت في طوابير وجبات المساعدات الساخنة، واشتغلت في الحقول والمطاعم، إلى أن حصلت على وكيل يكفلني في العمل الحالي، وتخصّصت في تركيب المعدات الكهربائية، والتجارة، وشركات التصدير والاستيراد، وبدأت أرى القليل من النّور".

يرى محدّث "الترا جزائر"، أن الأمور ليست سهلة بالنسبة لـ "الحراقة"، بعضهم يقع فريسة الشّرطة فيتم تحويلهم إلى تجمعات خاصة بالمهاجرين، أو ما يُطلق عليها مراكز تجميع المهاجرين السرّيين، وبعضهم يظلّ هاربًا من الموت والشرطة والبحث عن مكان آمن.

أجوبة من القلب

عادت ذاكرة كريم إلى سنوات طفولته وشبابه، وهو الآن على مشارف العقد الخامس، فبعد حالة الاستقرار التي يعيشها اليوم في تركيا، إلا أن تلك الذكريات لازلت توقظ روحه كلما صادف مهاجرين من مختلف الجنسيات، "كلنا في الهمّ مهاجرون، وكلنا في النّهاية بشرٌ تمزّق شيء ما في داخلنا، بل عدة أشياء".

لو يعود بك الزمن للوراء، هل ستكرّر هذه التجربة؟ وهل كان بإمكانك العثور على عمل قبل تلك المغامرة، والعيش بين أهلك؟ وإن كان كذلك هل ستفعل؟ هل ندمت على اتّخاذك هذا المسار من رِحلة ومحطّات العيش الصعبة؟ أسئلة حارِقة بالفعل، أربكت المهاجِر الذي مرّ بين محطات سرية وحطّت به الرحال إلى في مكان غير متوقّع.

يحن المهاجر كريم إلى كل ما هو جزائري ويجزم ألا أحد يمكن أن يقنعه بأن الهجرة أفضل من الوطن

بعد فترة صمت، لم يتردَّد كريم في الإجابة، موضّحًا أن الهمّ الثّقِيل يصبِح خفِيفًا عندما يلتقي كثيرين من أمثالِه قد ساروا في نفس طريق رِحلته"، "رغم أنّنا مزَّقنا أوراقنا بهدف البقاء، والانفِصال عن ماضينا كرهًا لا طواعية، إلا أننا لا زلنا نحِنّ لكلّ ما هو جزائري". "هنا في تركيا وغيرها من البلدان، نتعارف، نشمّ رائحة البلاد. ولا أحد يقول هنا أفضل من هُناك، لكنّ كل عين ترى ما ينقصها هنا وهناك".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عودة الهجرة السرّية.. أزمة اجتماعية أم سياسية؟

الجزائر وإسبانيا تبحثان ملف الهجرة السريّة والإرهاب