10-أبريل-2024
المهرج كويكلي

المهرج كويكلي (الصورة: الترا جزائر)

في ربيعه الثالث والثلاثين، لا يزال الممثل والفنان أكلي أمداح طفلًا كبيرًا، متخصصًا في صناعة البهجة والفرحة لدى الأطفال الصغار، في ساحات مدينة باتنة، وحاراتها الشعبية.

يواظب "كويكلي" كما يُكنى، منذ 12 عامًا، على تقديم عروض المهرج الراقص والضاحك في كل الأوقات

يواظب "كويكلي" كما يُكنى، منذ 12 عامًا، على تقديم عروض المهرج الراقص والضاحك في كل الأوقات، فبعد أسبوع كامل قضاه في اللعب والرقص مع الأطفال وأوليائهم في ساحة "السكوار" قبالة المسرح الجهوي، يتهيأ لاستئناف عادته في حي بوعقال الشعبي حيث داوم على مدار سنوات عديدة على مشاركة الأطفال فرحتهم بألبستهم الأنيقة، أمام أستوديو للتصوير خلال فترة الأعياد.

1

يقول كويكلي لـ "ألترا جزائر" رغم معاناته، من آثار حريق أعقب انفجار غاز مهول كاد، منذ بضعة أشهر،أن ينهي حياته إلى الأبد، مبتسما متحديا:" مررت بتجربة قاسية، كادت تنهي مشواري الذي أحببت، لكني استأنفت دورة الحياة من جديد، لذلك أشارك الأطفال أعراس عيدي الفطر والأضحى بزهو كبير، فلا شيء سيطفئ تلك الشعلة التي أضاءت لي طريق قدري الفني منذ كنت طفلا صغيرا، يموت المرء حينما يقرر ألا يعود طفلا".

الطفل الأبدي

انبثقت موهبة الفنان أكلي أمداح في مرحلة التعليم الابتدائي بمدرسة الإخوة بوليلة، وبتشجيع من الأستاذة مهري التي رعت موهبته في تمثيل المسرحيات، وتقمص الأدوار التمثيلية، ثم تطورت موهبته تلك في فوج الأقبال للكشافة الإسلامية بباتنة، فألف عديد النصوص المسرحية للأطفال، يقول عن انتماءه المبكر للفن الرابع لـ"ألترا جزائر":" لم أتوقف في منتصف الطريق بل واصلت المشوار، عبر دورات تربص وتكوين في المسرح بالمركز الرياضي الثقافي بحي كشيدة وبقسنطينة، ثم انتميت لدورة متخصصة بدار الثقافة في باتنة أشرف عليها السيد صغيري المدير الحالي للمسرح الجهوي بمعسكر، وما أنهيت فترة المراهقة حتى وجدتني حائزا على 51 شهادة تكوينية في التمثيل و الكتابة المسرحية و الإخراج السينمائي للأفلام القصيرة، فالفن بالنسبة لي بحر وأنا سمكته التي لا تسطيع التنفس خارجه".

شارك أكلي في عدة مسرحيات بينها "الحقيبة" بنسخيتها العربية والشاوية، التي كتب نصها العربي بولبينة وأخرجها لحسن شيبة، ثم مثل دور القصاب محمد بن الزين، والبراح محمد أو رابح في مسرحية عيسى الجرموني التي أخرجها الفنان مبروك فروجي، ثم توالت عليه العروض في مسرحيات عدة قاربت الثمانية أعمال على غرار نوفمبريات وثورة الأوتار، و" روتور داج" مع الممثلة حورية بهلول، بيد أن شيئا عميقا كان يجذبه إلى طفولته فيضيف لـ"ألترا جزائر"  مبتسما:" في داخلي طفل صغير لا يريد أن يكبر، لذلك سريعا ما وجدت نفسي، أغوص في عوالم الطفولة، فتعلمت الكثير بخصوص علم نفس الطفل، فتخصصت في أعمال الطفولة، كتابة، حيث أملك نصين موجهين لمسرح الطفل، هما التفاحة الخالدة، والحمار الملك".

2

وأضاف:" ثم وبصفة نهائية، تغلب المهرج كويكلي الذي ولد فيّ على أنقاض شخصيتي الحقيقية أكلي، فبمجرد ما أرتدي القناع المعنوي وألون وجهي أصبح طفلا حقيقيا، لأني أنال قبول الأطفال، وأصعب شيء أن تربح تفاعل الأطفال لأنهم يتميزون بالصدق و العفوية".

ميلاد كويكلي

عن تلك الشخصية التي صارت صديقة الأطفال يشرح أكلي واثقا رغم معاناته من صعوبة في النطق لمعاناة واضحة من احتراق شفتيه: " منذ 12 عاما ولد كويكلي، وهو مهرج راقص، ضحوك، بريء، وخير، ومع مرور الوقت، اكتشفت أن ذلك المهرج له عدة شخصيات تمثل كل واحدة منها أحلاما لفئات من الأطفال، وذلك سر تعلق الأولاد والبنات به".

وثمة أسباب عميقة أخرى يوجزها في تطور ذهنية أطفال اليوم بالمقارنة مع أطفال أمس، فيوضح بشأن هذه المعارف الدقيقة، مستطردًا: " أطفال الأمس كانوا يكتفون بالخطاب المباشر، فكنت أقدم لهم نصائح تخص واقعهم مثل الاعتناء بالنظافة في الهندام والأسنان، واحترام المعلمين، والمحافظة على البيئة وغيرها من التيمات الرائجة في ذلك الوقت".

3

وأردف:" أما أطفال اليوم فهم يختلفون جذريا نظرا لمحيطهم المليء بوسائل التطور التكنولوجي والرقمي، فهم يعيشون في فورة الهواتف النقالة والشاشات الذكية واللوحات الإلكترونية، لذلك لا يتقبلون الخطاب المباشر، بل يحبذون تحليل الوقائع لتمثل الرسائل التي يحتويها العرض".

في نصه " تفاحة الخلود " يحاكي كويكلي عالم أسطورة جلجامش البابلية، وهي أقدم نص مكتوب منذ خمسة آلاف سنة، فيروي عن تفاحة الخلود التي تولد في فصل الخلود، حيث تتصارع أربع شخصيات، هي المهرج الشرير الذي فقد ألوانه، و"ثعلوب" الذي فقد أسنانه، فيبحث الاثنان عن تلك التفاحة الخالدة لاستعادة الألوان و الأسنان، ويحتم عليهما ذلك الكيد للسيدة فراشة سيدة بستان فصل الخلود المحبة للموسيقى و الغناء و الطبيعة، فيتمكنان من تقييدها، غير أن المسرحية تفتح المجال لبطل مغوار قادم يخلص فراشة من الأسر، و يعيد الربيع لفصل الخلود.

 معلقًا على القيمة المعنوية يفسّر أكلي: " هناك قيمة انتصار الخير على الشر، لكن الرسالة ليست مباشرة بل غير مباشرة، فيتخيل الطفل العالم السحري المشوق و يبطن فكرة رفض العدوان على الحياة ممثلة في الفراشة الأنثى والتي قد تكون شقيقته أو أمه".

فن وتربية

أما في نصه"المهرج واللوحة الإلكترونية"، فيغوص الكاتب في رصد سلبيات وإيجابيات الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المعتمدة على الهواتف الذكية واللوحات الرقمية، دونما توجيه بل بمعاينات تتيح للطفل استكناه النفع والضرر واتخاذ القرار الأنسب في التعاطي مع وسائل ذات ضرر راجع لسوء الاستعمال عبر الألعاب القاتلة مثل الحوت الأزرق وغيرها من الألعاب المدمرة.

بعث المهرج كويكلي نشاطا خامدا منذ سنوات، حينما أسس جمعيته الحرة سميراميس يتعلق بتربية الأطفال على دراسة التاريخ ومآثر البلاد التراثية والأثرية، عبر جولات كانت تنقل بالاتفاق مع مديرية التربية، أكثر من 900 تلميذ لمدن تيمقاد وجميلة و قالمة، فيتعرفون خلالها على تلك الكنوز العريقة ويتلقنون على ممارسة السياحة، والأهم مثلما يوضحه هو " في ختام كل جولة نجلس في مسارح تلك المدن الرومانية، و نمثل مسرحية، ونلعب ونمرح، ونغني، لينمي الأطفال حسهم الفني عبر الموسيقى والتمثيل والغناء، وكثير من هؤلاء يبدون الرغبة في طرق باب التمثيل وهذا هو المبتغى من كل ذلك، فللأطفال قدرة كبيرة على تلقن الأشياء، إذا كانت تمتاز بالتهذيب و إذ ما خولطت باللعب".

زوجتي "راجل"

في شهر نوفمبر الفارط كادت مسيرة أكلي أمداح أن تتوقف نهائيا، ذلك أنه وخارج مجاله الفني فهو طباخ متخصص في الأكل السريع، وفيما كان يستعد للخروج رفقة زوجته انبعثت روائح غاز من مرآبه، قبس على الأضواء فلم يقع شيء، ولتطمين زوجته أشعل ولاعة، غير أن انفجارًا عنيفا تلاه حريق قذف به خارجه لعدة أمتار، وعن تلك اللحظة المرعبة يتذكر ليقول:" رأيت لهبا يقذف بي خارج البيت، فأحسست بحريق مشتعل في بدني وحول عنقي وأنا ملقى في الشارع، سرعت زوجتي لإطفائي منقذة حياتي قبل نقلي للمستشفى في وضع مزر.

يصمت قليلًا و يضيف: "عندما صحوت في المستشفى كنت شبه مومياء، لقد أحترق وجهي، وصدري وبعض أصابعي. تملكني رعب قاتل وأنا أرى وجهي في مرآة، فقلت لزوجتي لقد انتهيت، فما من أحد سيقبل أن أمثل من جديد، في عالم المهرجين لا يمكن لوجه بشع ومشين أن يجلب الأطفال".

2

من حسن حظ أكلي أن حروق الوجه والصدر كانت من الدرجة الثانية، فيما أصيبت اليدان بالتهابات من الدرجة الثالثة، ما اضطره أن يخوض رحلة علاج مؤلمة دامت شهرين فوق السرير، رخص له تناول دواء المورفين المسكن للآلام قبل أن يعود تدريجيا للأمل، يشرح ذلك بتأثر بالغ: " مدين أنا لزوجتي التي أنقذتني أول وهلة، لقد تحققت أنها فعلا شريكة حياتي عندما أثبت لي أن تلك المرأة كانت "رجلا" معي، بقيت بجانبي طوال فترة العلاج، بل كانت تنظف وجهي ثلاث مرات في اليوم، متحملة العناء الهالك".

 شيئا فشيئا استعاد كويكلي بريق سحنته، ووجهه الباسم، وعاد أكلي إلى الحياة، يعقب مستذكرا تجربته تلك:" على فكرة هي ثاني مرة أنجو فيها من القاتل الصامت سبق لي وأن مكثت قبل أعوام مدة 15 ساعة في غيبوبة تامة جراء تسرب للغاز وقع لي في شهر نوفمبر أيضا، لكن الله أراد لي أن أرتدي قناع المهرج الملون،وأقف على قدمي الاثنتين فوق خشبة المسرح وركح الحياة".

هدايا العيد

بعد شهرين فقط من ذلك المخاض العنيف، قدم كويكلي عدة عروض رغم أنه وجراء الشاشات التي كان يرتديها شبه مومياء متحركة، غير أنه بصم خلال الأسبوع الأخير من شهر رمضان الحالي على عروض في ساحة المسرح الجهوي، أعادت له جمهوره من الأطفال، وقد بعث فيه ذلك رغبة معاودة ما كان يفعله منذ سنوات بحي بوعقال الشعبي خلال عيدي الفطر والأضحى.

ويستطرد: " خضت مند سنوات تجربة غير مسبوقة، هي أن أقدم عروضا للأطفال خلال أيام العيد، فعلى مدار ثلاثة أيام أنقل خشبتي أمام أستوديو تصوير بحارة بوعقال الشعبية، أكبر أحياء مدينة باتنة كثافة سكانية. يلتئم حولي الأطفال في ثيابهم الأنيقة والجديدة، فنغني ونرقص ونمرح على طريقة مسرح الشارع،كما أقدم ألعاب فكرية يفوز فيها الطفل الرابح بحلوى أو هدية عيدية".

إلى هنا يضيف: " بعثت هذه الفكرة من وحي فكرة مهرج في المدرسة التي عرفناه في مؤسساتنا الابتدائية قبل عقود، قررت أن أنقل المهرج للأطفال خلال الأعياد حيث يتقاطرون على أستديو هات التصوير لتخليد ذكريات العيد مع عائلاتهم، وحققت فكرة التقاط صورة مع المهرج كويكلي إغراء كبيرا، بات يجلب العشرات من الأطفال طيلة أيام الأعياد. وتكتسي الفرحة أجواء فرجة شعبية نظرا لطابع الحي الشعبي، لا بل إن بعض حافلات النقل العاملة تتوقف ليشاهد الركاب العرض في مناخ يحول العيد لقطعة حية من الفن والحياة".