اختيار الأسماء المستعارة، هو نوع من أنواع المقاومة والبقاء أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، العيش تحت الظلّ لدى البعض، كان ضمن سيكولوجية مراوغة الموت في فترة من الفترات الأمنية العصيبة، فكثير من الصحافيين الذين مارسوا مهنة الصحافة في الجزائر لأزيد من ربع قرن، دفعوا تكاليف باهضة؛ فمنهم من فضّل الانزواء في بيته بعد أن تخلّى عن كلّ شيء، ومنهم من ظلّ يكافح بدون خيارات أخرى، ومنهم من عاد من هذه التجربة بقائمة طويلة من المشاكل الصحيّة والاجتماعية.
نجسة لعبان: "كنا نسمع في كل مرّة عن فقدان أحد الزملاء ممن كانوا بيننا في قاعة التحرير"
اخترنا من عشرات القصص أربعة مشاهد، لإطلالة قصيرة عن وضعية الصحافيين في الجزائر، في مرحلة من أصعب فترات تمرّ بها الصحافة الجزائرية، من أشخاص اعتبروا القلم أسمى من فرصة الحصول على بيت، أو مكسب اجتماعي آخر.
اقرأ/ي أيضًا: حرية الصحافة في الجزائر.. ضحك على الذقون
تَأخُذ منك نعم..
الصحافي عمار بودلال، قضى أزيد من عشر سنوات في إقامة الصحافيين بسدي فرج، (خُصّصت في التسعينات لحامية الصحافيين من الاعتداءات الإرهابية)، بعدما كانت تصله تهديدات بالقتل هو وزملاؤه في مبنى الإذاعة الجزائرية.
يقول بودلال في حديث إلى "الترا جزائر" إنّه ترك كلّ شيء وراءه، "أعيش فقط، رفقة زوجتي وابنتي، تركت الحلم والأمل وفقدت طعم الحياة، فعندما يزروك المرض على حين غفلة، تتفطّن إلى أن هذه المهنة تحتاج إلى من يجعلها ملكة وليس مملكة".
يعتبر المتحدّث أن حرّية التعبير هي انتصار للإنسان وللمواطن، وتجاوز لكلّ الخطوط الحمراء التي تقضّ مضاجع الصحافيين، دون التعدّي على قدسية الإنسان وكرامته، ويستدرك قائلًا "في النهاية الانحياز لصحّتك البدنية، أهمّ من السعي وراء الخبر والمعلومات السريعة".
تختلف وضعية الصحافيين في القطاعين العمومي والخاصّ من مؤسّسة لأخرى، كما تتباين ظروف العمل والامتيازات والرواتب والخطوط الافتتاحية، غير أنّ هناك من ترك الوظيفة ولجأ إلى الصحافة الحرّة، هنا تقول وهيبة بورماد لـ"الترا جزائر"، إنها بعد سنوات التنقّل بين المؤسّسات الإعلامية، انتصرت إلى المهنة، ولكن دون الاكتفاء بالعمل في مؤسّسة واحدة، وفضلّت الصحافة الحرّة، بحجّة أن"الفريلانس"، والمساهمة بالقطعة في مختلف المنابر الإعلامية، يتيح للصحافي فضاءً أوسع لمعالجة عديد القضايا. تتابع المتحدّثة: "يأخذني الشّغف حين أن أنتصر لقضية ما على وسائل الإعلام باللغتين العربية والفرنسية".
ثمن الكلِمة
تخوننا الكلمات، عندما نتحدّث عن مهنة مرتبطة بالأحداث اليومية، ونغوص في تفاصيلها حدّ الغرق، تأخذ جزءًا كبيرًا من حياة من اختاروها على حساب عائلاتهم وصحّتهم وحتى أحلامهم، نتوهُ بين دروبها وتخصّصاتها، وتكبحنا قوانين وأخلاقيات ممارستها أحيانًا، ويدفعنا تسارع المعلومات والأحداث لتجاوز كل ذلك. تفقد مهنة الإعلام في الجزائر الكثير من هيبتها، لكنها رغم كل شيء تحتاج لوقفة، ولمراجعات.
هذه الكلمات، هي لأحد صحافيي الظلّ الذين كانت مقالاتهم تصدح في زوايا صحفية كثيرة تحت اسم مستعار، لكنّه اختار الرّحيل واكتشاف مهنٍ كثيرة بعدما ضاقت به سبل العيش؛ يقول عبد المجيد خلوفي: "أخذت منّي العمر، أدرت عيني للوراء، أمعنت النظر مطولًا، اكتشفت مشدوهًا كم من سنوات الشباب التي ضاعت في هذه المهنة، أعدّ السنوات ما بعد الأربعين ونيف، فهل يُكتب لي أن أدقّ أبواب الخمسين وأنا في هذه المهنة؟". لقد ترك خلوفي كل شيء في غمرة الإنجاز والأحلام والعمل المضني، ومخاوف سنين الأزمة الأمنية، بينما لم يكشف لكثير من زملائه ولمن حوله عن معاناته من المرض.
تجربة بمسارات متعدّدة، لا يمكن تلخيصها في ساعات وأيّام، هو السؤال الذي باتت إجابته معلّقة في زوايا المهنة، حاول العديد من الصحافيين والمراسلين في عدّة مدن جزائرية الإجابة عنه، فالتجربة ككلّ متكامل "تعني المهنة والحياة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية"، تقول نصيرة صبيات، الأستاذة الجامعية في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّها تركت المهنة التي تحبّها وتوجهت للجامعة، لسبب مهمّ وهو أن "يستفيد الطلبة من تجربة ميدانية دامت أزيد من 17 سنة في مؤسّستين إعلاميتين كبيرتين في القطاع العمومي والخاص"، مضيفة أنّ هناك أسباب لا يسع المقام لطرحها، مثلما هو حال كثيرين لخصوها بأنها مهنة جاحدة، تعطيها ولا تُعطيك.
عشرات الصحافيين في الجزائر، قدموا من الولايات الداخلية، هم أبناء بيئتهم، تعاملوا مع الوضع المستجد كل يوم، بحسب ما أتقنوه في العمل الصحافي في قاعات التحرير، غير أن البعض سحرته هذه المهنة ومستجّداتها كما تقول حسيبة بن دالي في حديث إلى"الترا جزائر".
"أنا صحافية تخرّجت من كلية اللغات والآداب بجامعة الجزائر سنة 1989، وجدت نفسي مأخوذة بإنجاز تغطيات وندوات صحفية لوزراء ومسؤولين وشخصيات في الجزائر"، غير أن الوضع تغير بالنسبة لها اليوم، فهي صارت تعدّ الأيّام التي تأخذ فيها إجازتها، بعدما وجدت نفسها طريحة الفراش بالمستشفى، وقتها "شعرتُ أن المهنة أنستني أني وصلت إلى سن الـ 56 سنة، لا زلت أحتفظ فقط بمختلف الشارات التي تُعطى لكلّ صحفي عند تغطية حدث ما"، وهي الوحيدة التي تعبّر عن تلك السنوات التي مرّت وكأنها لحظات عابرة بهبّة ريح خفيفة، كما تقول.
سنوات الإرهاب
كثيرون عايشوا فترة الأزمة الأمنية، بنوع من الخوف والتوجّس من الآتي في تسعينات القرن الماضي، فترة لم تكن سهلة على الإعلامية نجية لعبان، خصوصًا وأنّها كانت من بين المذيعات اللواتي كنّ يشتغلنّ في التلفزيون العمومي، أو الهدف الأوّل للجماعات الإسلامية المسلّحة في تلك الفترة.
عاشت نجية لعبان، تلك المرحلة الصعبة التي كانت تخرج من بيتها إلى مبنى الشاشة بشارع الشهداء بقلب العاصمة الجزائرية، دون أن تفكّر في الساعات المتبقية من اليوم، هل تعود للبيت أم لا؟ وإن كان سيحمل فجر اليوم الموالي أملًا جديدًا. تقول المتحدّثة لـ"الترا جزائر"، إن اسمها لم يشكّل تهديدًا بالنسبة إليها، مقارنة بالكثيرين من زملائها الذين وقفوا في وجه الموت، ممن يشتغلون في مجال التقديم التلفزيوني والإذاعي، أين كانت أسماؤهم ووجوهم تظهرُ في غالب الأحيان، وتبرز في واجهة الأحداث.
تقول:" كنا نسلّم على بعضنا البعض في الصباح، بفرٍح كبير، نعم مزهوون بأننا أحياء، ونواصل العيش ونلتقي بأبنائنا، غير أنّ أسوأ شيء في مهنة المتاعب، هي تلك الفترة حين نودّع بعضنا في نهاية يوم عمل شاق بعبارة.. تصبحوا على خير وملاقاة الخير".
تُردف المتحدّثة أن اليوم الذي يمرّ في الصحافة كان أجمل من اليوم الآتي، "كنا نحن نسمع في كل مرّة عن فقدان أحد الزملاء ممن كانوا بيننا في قاعة التحرير، بعضنا كان يتلقّى رسائل تهديد مشفرة، مرشوشة بماء الورد أو عطر يقصفنا برائحة الموت.. ليس هناك فرحة أكبر من أن نعود كل يوم من الموت إلى الحياة، فالحياة كانت تتجدّد فينا يومًا بعد يوم".
تأتي هذه التصريحات، موثقّة لفترة من فترات العمل الصحافي في الجزائر، في خضم استمرار الحراك الشعبي، الذي انفجرت فيه الأقلام والحناجر في تأريخ اللحظات، بالصوت والصورة والتأليف.
الفواصل السياسية والاجتماعية التي تعرفها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، تُنبئُ أن مهنة الصحافة ستعرف مسارات أخرى
الفواصل السياسية والاجتماعية التي تعرفها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، تُنبئُ أن المهنة ستعرف مسارات أخرى، تحتّم على الصّحفي البحث عن "الطازج لا القديم"، في وقت يفرض فيه الواقع قراءة متأنية لما مرّت به السلطة الرابعة، فلولا تقارير تشرين الأوّل/أكتوبر 1988، لما جاءت ثورة القوانين في سنة، وإقرار التعدّدية وحرّية التعبير، ولولا ثورات "الربيع العربي" في 2011، ما عشنا زمن السّمعي البصري الخاص، في انتظار ما قد يأتي به حراك 22 شبّاط/فبراير 2019.
اقرأ/ي أيضًا: