01-يونيو-2023
من فيلم لالا فاطمة نسومر (الصورة: أصوات مغاربية)

من فيلم لالا فاطمة نسومر (الصورة: أصوات مغاربية)

المرأة الأشهر في تاريخ المقاومات الشعبية الجزائرية منذ نشأتها؛ هي بالإجماع لالا فاطمة نسومر، أيقونة المقاومة ورمز الكفاح ضدّ المستعمر الفرنسي، ورغم الكتابات التارخية والمؤلفات والقصص التي نسجت حولها، ما تزال هذه المرأة تشكل "لغزًا مدهشًا" في محطات النضال الجزائري.

فتاة بهذا الجمال والذكاء والمقام لفتت انتباه أسياد القبائل ورجالها، الراغبين في الزواج منها، غير أن فاطمة نسومر كانت تقابل تلك الطلبات بكثير من اللامبالاة

كيف لفتاة يافعة تُجند رجالًا من حولها في منطقة محافظة؟ امرأة في مقام إمام تقود الحروب؟ حسناء ترأس مقاومة؟ سيدة مُحاربة تواجه أكبر جنرالات الجيوش الفرنسية؟ سيدة تتَزعم حربًا ضدّ العدوان، وتُسود رجال مقاومين تُحرضهم على القتال، وتدفع بهم إلى ساحة المعركة إلى غاية الاستشهاد؟ أيّة سلطة امتلكتها فاطمة نسومر، لتجعل من مجتمع ذكوري بامتياز يَصطف من خلفها من أجل معركة الحرية والكرام؟

من هي فاطمة نسومر؟

تنحدر لالا فاطمة سيد أحمد (1830-1863)، من عائلة دينية عريقة من أشراف ومرابطي منطقة القبائل، ولقبت بـ "نسومر" نسبة إلى القرية التي كانت تقيم بها، فوالدها الشيخ سيد أحمد محمد، كان من العارفين بالله والقائم على المدرسة القرآنية من أتباع الطريقة سيدي عبد الرحمن الأزهري بوقبرين، إحدى فروع الطريقة الرحمانية بمنطقة إيفرحونن.

صورة متخيلة لفاطمة نسومر

بين أحضان قداسة المكان ولدت فاطمة نسومر  حوالي سنة 1830 بضواحي عين الحمام بولاية تيزي وزو، شرق العاصمة، تزامنًا مع تاريخ بداية الاستيطان الفرنسي على الجزائر، حيث تتكون عائلة سيد أحمد من خمسة ذكور وثلاثة بنات،ولكن فاطمة تميّزت عن باقي إخوتها بذكائها ونباهتها وبزرت معالم شخصيتها في سن السادسة عشر، فشّدت انتباه والدها

وصفتها المراجع التاريخية أنها كانت متوسطة القامة، قوية البنية كباقي النساء المناطق الجبلية الوعرة، خفيفة الظل والحركة، ببشرتها الناعمة والفاتحة، وشعرها الذهبي المسدول، كانت تعشق الزينة وترتدي زيًّا محليًا، وغالبًا ما تظهر بالجبّة القبائلية بألوانها الزاهية.

فتاة بهذا الجمال والذكاء والمقام لفتت انتباه أسياد القبائل ورجالها، الراغبين في الزواج منها، غير أن فاطمة نسومر كانت تقابل تلك الطلبات بكثير من اللامبالاة، وما إن يُمارس عليها الضغط من أجل الزواج كانت تَثور وتَغضب وتعتزل الناس.

في هذه اللحظة التاريخية من التمرّد العائلي أبانت فاطمة نسومر عن معالم استقلالية شخصيتها وعزيمة في اختياراتها، كما تشكلت وتطورت حياتها الروحية وإبحارها في علوم الدين، وقد أثارت خلواتها وتعبداتها الصوفية استغراب الأهالي وسكان القرية، فقد كان التعليم آنذاك حكرًا على الأطفال من غير الإناث، والتصوف يسلكه المريدون والعارفون والأولياء، فكيف بلغت هذه الفتاة على المراتب؟

مشهد من فيلم فاطمة نسومر

الإجابة كانت أنه منذ صغرها دأبت فاطمة على الوقوف خلف باب المدرسة القرآنية والاستماع إلى التراتيل القرآنية واستراق السمع، فحفظت ما تيسر من القرآن وبعض المتون من الأحاديث النبوية. شكّل هذا التمييز الشخصي في حياة فاطمة نسومر حدثًا مثيرًا و"مدهشًا" في تاريخ منطقة ذكورية محافظة، لتفرض على محيطها الاحترام بقوة شخصيتها وصلابة مواقفها في أحضان أهليها.

بعد وفاة والدها، تولى أخوها الأكبر شؤون العائلة، وألح على عقد قران فاطمة مع أحد أبناء عمومتها، وتمت مراسيم الزواج بالإكراه، فأصبتها حالة من الهستيريا والجنون، فلطمت خدودها وشقت ثيابها، ورفضت أن يلمسها أو أن يدخل عليها العريس، وشنت إضرابًا عن الطعام، وبعد مرور شهر وهي على هذه الحالة، قرر باقي الإخوة إعادة فاطمة نسومر إلى حضن البيت العائلي، ورفض ابن عمها تطليقها انتقامًا منها، وبعدها انطوت على ذاتها وعزلت نفسها عن باقي الناس، وتفرّغت إلى التأمل والعبادة.

استعداد للمواجهة

بداية من سنة 1844-1845 بدأت القوات الفرنسية في التسلل إلى منطقة القبائل الكبرى، وانتشر الخوف في المنطقة وسكن القلق والتوتر الناس، واستشعرت فاطمة الخطر القادم من هذا الأجنبي المعتدي، فقامت بداية من سنة 1852 إلى مخاطبة الناس حول المخاطر القادمة، داعية إياهم إلى التجنيد والتسليح والتنظيم، مُنذرة ومُحذرة من المكاره التي تهدّد السكان وحقولهم وحقوقهم وحريتهم من سلب ونهب، وأمام تزايد التوسّع الفرنسي والوضع المقلق، بدأت الوفود في التوافد على فاطمة نسومر بعدما ذاع صيتها، كامرأة داعية إلى الجهاد والمقاومة.

معركة القبائل

بعدما سيطرت القوات الفرنسية على العاصمة وضواحيها الشرقية والغربية، بداية من سنة 1844 إلى 1845،  بدأت التوسع نحو العمق الشرقي للعاصمة تجاه منطقة القبائل الكبرى، ونتيجة التفوق العسكري الفرنسي عُدة وعَددًا، سقطت حصون المقاومة بداية من واد الحراش ثم منطقة الحميز ثم منطقة خميس الخشنة، بعدها سقطت منطقة دلس وبرج منايل، وكانت جيوب المقاومة ُمشكلة من ثلاثة كتائب مقاوماتية؛ الأولى تتبع الحاج محمد زعموم، والثانية تحت قيادة محند الطيب أو سالم والثاثة تحت قيادة المقاوم بلقاسم أوقاسي، وتميزت تلك المقاومات بعدم التنظيم والتخطيط والتشتت ما أدى إلى فشلها واستسلم بعض قادتها.

رسم متخيل لفاطمة نسومر

في سنة 1849 برز القائد محمد بن عبد الله المدعو "بوبغلة" من منطقة سور الغزلان، والذي استنزف جهد القوات الفرنسية واتخذ من منطقة عزازقة بتيزى وزو معسكرًا لقيادة الهجومات بعدما استطاع تجنيد الكثير من المحاربين في منطقة القبائل، وتعززت قوات بوبغلة بسرايا وكتائب قادتها فاطمة نسومر، حيث شاركا سويًا في عدد من المعارك، وكان أول معركة قادتها فاطمة نسومر ضدّ القوات الفرنسية تحت قيادة النقيب والف سنة 1854 في محيط واد سيباو، حققت خلاله انتصارًا معنويًا قويا، مًا ترك الناس تلتف حول فاطمة نسومر أكثر وهي في الرابعة والعشرين من العمر.

بعدما استقرت وتوسّعت مقاومة بوبغلة ولالا نسومر في منطقة عزازقة وسيطرتها على أهم المحاور، قرر المارشال رندوان بشن حملة عسكرية كبيرة من أجل القضاء على المقاومة والسيطرة على منطقة القبائل وجبال جرجرة، فأمر بإحراق القرى ونُهبت وسُلبت ممتلكات قاطنيها، وقُتل الأطفال والنساء والشيوخ، وأُبديت عشائر بأكملها.

وأمام الإصرار الفرنسي في إبادة سكان البوادي والقرى، أطلقت فاطمة نسومر نداء الجهاد إلى قبائل آث واسيف وآث يني وآث منڨلاث وآث يجر وآث عيسى وغيرها من العشائر، داعية إياهم للانضمام إلى المقاومة، استراتيجيا اختارت فاطمة نسومر استراتيجية الهجوم على القوات الفرنسية بشكل سريع ومفاجئ بدل موقف الدفاع والانتظار، وكانت منطقة قرب عرش آث منڨلات ساحة لمعركة قادتها فتاة مُقاومة.

وأمام وجود العنصر النسائي في صفوف المقاومة، صعد ذلك من عزيمة القتال، مما كبد القوات الفرنسية خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتراجعت على إثره القوات الفرنسية بقيادة الجنرال كامو إلى غاية مقر القيادة وسط مدينة تيزي وزو، فيما واصلت فاطمة نسومر تجنيد باقي القبائل وضمهم إلى صفوفها ووضع مراكز دفاع متقدمة وجيوب استعلامات عبر نقاط متعدّدة.

معركة أشريظن

بتاريخ 17إلى 18 حزيران/جوان سنة 1854، كان اللقاء الحاسم والمصيري بين فاطمة نسومر والمارشال راندون وجهًا لوجه على أرض المعركة، بقرب من منطقة الأربعاء ناث يراثن، تلقت القوات الفرنسية خسارة كبيرة حوالي 800 قتيل بينهم 56 ضابطًا 371 جريحًا، فطالب المارشال الفرنسي بوقف إطلاق النار، فقبلت فاطمة نسومر، باعتباره وقتها قرارًا استراتيجيًا وسياسيًا يسمح لها بإعادة تنظيم الصفوف والتسليح وإعداد العدة.

بعد هزيمة المريشال راندون رفقة الجنرال ريموند، أحرقت كافة القرى المتبقية انتقامًا من هزيمته أمام فاطمة نسومر كقرية آث المنصور وآث حمو وآث علي أويحيى.

استقرت الأوضاع بعد هدنة غير رسمية ما بين 1854-1856 في منطقة القبائل، وبداية  من شهر  حزيران/جويلية سنة 1857 شنت قوات الماريشال رندوان حملة عسكرية استخدم فيها سلاح المدافع بشكل عنيف وكانت معركة غير متوازنة القدرات والإمكانيات التي سخرتها القوات الفرنسية، وبعد سقوط منطقةآث يراثن، انسحبت لا لا نسومر من أجل إعادة التنظيم، لكن وعلى مستوى قرية آث يتسوراه وجدت نفسها معزولة، وتم تشديد حصار على فاطمة نسومر رفقة أخيها محند الطيب وبعد معركة ثيشكيرث، تراجعت إلى غاية قرية ثخلجيث دائرة إفرحونن، وهناك ألقي القبض عليها في 11 تموز/جويلية سنة 1857 رفقة مائتي أسير وكان عمرها آنذاك سبع وعشرين سنة.

تدهورت حالة فاطمة نسومر  الصحية بشكل كبير  في سجنها بعد إصابتها بشلل نصفي على مستوى الجهة اليسرى

نهاية بطولية

تم سجنها ونقلها إلى في منطقة دلس رفقة أخيها الذي توفي سنة 1861 إثر اصابته بنزلة برد قاتلة، وبعدها نقلت فاطمة نسومر إلى مدينة الجزائر ثم إلى منطقة تابلاط مسجونة بزاوية الباشاغا الطاهر بن محيي الدين، تدهورت حالتها الصحية بشكل كبير عقب إصابتها بشلل على مستوى الجهة اليسرى، وفي شهر سبتمبر/أيلول سنة 1863 غادرت هذا العالم وكانت تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين سنة.