يتردد حي "الطورو" كثيرًا على ألسنة سكان مدينة وهران، أو "طوريرو وهران" كما يسمّى محليًا، وهي كلمة تعني الثور باللغة الفرنسية، ويُنسب هذا الحي إلى البناية التاريخية "لا كوريدا" أو حلبة مصارعة الثيران التي بنيت بطلب من الإسبانيين الذين كانوا يقيمون بالمدينة في تلك الفترة، ورغم أن الشارع رسميًا يحمل تسمية حي الأمير خالد إلى أن الذاكرة الشعبية لا زالت تحتفظ بالتسمية وقصصًا أخرى عن المكان.
تعتبر "لا كوريدا" حلبة الثيران الوحيدة الموجودة حاليًا على التراب الجزائري، وهي أيضًا إحدى الحلبتين الموجودتين في القارة الأفريقية إلى جانب حلبة طنجة في المغرب
فبين ساحاتٍ طويلةٍ تحتضن العمران الحديث، تبحث وهران الشابة منذ أمدٍ عن ملامح متجددة، لكنها في المقابل، تحفظ أيضًا في قلبها تلك الأحياء العتيقة المنزوية صامدةً، قائمة، تضم عمرانًا لا يزال عصيًا على الاندثار، وآثارًا تتحدث في حسرة عن الحضارات التي مرت بها هذه المدينة.
الوجود الإسباني في وهران
تُعَدُّ البهيّةُ وهران ثاني أهم المدن الساحلية في البلاد بعد العاصمة الجزائرية، وتتميز هذه الجوهرة التي تزين الساحل الغربي بتاريخ حافل يظهر جليًا على معالمها التاريخية والأثرية، فلطالما كانت هذه المدينةمقصدًا عبر التاريخ للغزاة بسبب موقعها الاستراتيجي الجميل المطل على البحر الأبيض المتوسط، كما أنها عايشت العديد من الغزوات على غرار عدة مناطق جزائرية، لكن أهم هذه الغزوات على الإطلاق كان الغزو الإسباني (1492- 1792)، والذي استمر وجوده في هذه المدينة لوحدها مدة ثلاثة قرون، حيث طاب له الوجود والإقامة والاستمتاع بما تتمتع به هذه المدينة، كما خلف هؤلاء المستعمرون الذين عشقوا وهران وألفوا احتلالها العديد من الآثار التي جعلت منها مدينة أسطورية عامرة بالحكايا والذكريات والأحداث.
نشأة "لا كوريدا"
خلال سنة 1830، دخل الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر، ومع ذلك، بقي هنالك وجود مهم للجالية الإسبانية، حيث كانت حاضرة بقوة في المدينة بنسبة تفوقت على مثيلتها من الجالية الفرنسية بحوالي الضعف، وقد تجلى هذا الوجود بوضوح وبشكلٍ خاص في التأثير الثقافي الذي نشرته بين سكان المدينة، فأدخلوا إضافات عديدة على فن الطبخ وعلى نوعية الموسيقى التي انتشرت بين السكان المحليين، إضافة إلى مساهمة هذا الوجود في انتشار اللغة الإسبانية بين فئات معينة من المجتمع الوهراني، وبقاء عدة عبارات وكلمات من أصل إسباني في اللهجة الوهرانية، خاصة لدى كبار السن والصيادين، كما نجد أيضًا هذا الأثر جليًا في النمط العمراني الذي خلفته، مثل حلبة "لا كوريدا" الشهيرة.
بدأت رياضة مصارعة الثيران في وهران في سنة 1880 حسب عدة روايات تاريخية، حيث أقيمت عدة ساحات لذلك الغرض في شارع الصناعة (حي فلسطين حاليًا)، وبعدها حي ڨمبيطة، ثم أخيرًا في "لا كوريدا" في إكمول (الكيمين) كما يحلو لأهل الراي تسميته، إذ تعد هذه الأخيرة واحدة من أهم المعالم التاريخية للمدينة، وهي ساحة مشيدة خصّصت بالأصل لسباقات الثيران وعروض مصارعتها التي تعد تقليدا متوارثًا ومقدسا لدى الإسبان، وقد تم تشييد هذه الحلبة لأول مرة من مادة الخشب من قبل الفرنسيين في 27 أيار/ماي من سنة 1890، تحت إلحاح شديد من الجالية الإسبانية التي كانت تقيم آنذاك في وهران، لكن الحرائق أتت عليها كُلّيًا ، ليُعاد بناؤها مرة أخرى باستعمال الخرسانة الإسمنتية، ويتم افتتاحها بعد عشرين عامًا من حادث الاحتراق في 19 من تموز/جويلية سنة 1910.
حلبة تنفرد بهندستها المعمارية
تعتبر "لا كوريدا" حلبة الثيران الوحيدة الموجودة حاليًا على التراب الجزائري، وهي أيضًا إحدى الحلبتين الموجودتين في القارة الأفريقية إلى جانب حلبة طنجة في المغرب، وتتميز هذه الساحة ذات التاريخ الحافل بهندستها المعمارية المتفردة والمختلفة عن بقية الحلبات في العالم، حيث صممها المهندس المعماري المنحدر من وهران غارلونديي، وتكفل ببنائها المقاول أندرويلي على مساحة قدرت ب 4800 متر مربع، وبقُطرٍ بلغ 210 مترًا، كما تتمتع بصدى صوتي عالي الجودة، ما جعلها مقرًا للعديد من بطولات الملاكمة والمصارعة وحتى مباريات بطولات كرة القدم.
بلغت طاقة استيعاب "لا كوريدا" في الزمن الذي خصصت فيه لاحتضان سباقات الثيران حوالي أربعة آلاف شخص، ثم وصلت مع الوقت إلى مشارف العشرة آلاف شخص بعد أعمال التجديد والتوسيع التي شهدتها خلال فترة توقف المباريات والعروض سنة 1936 بعد اندلاع حرب إسبانيا، بعد ذلك، أعيد فتحها سنة 1954 لاستئناف نشاط مصارعة الثيران، لتتوقف هذه السباقات التقليدية نهائيًا خلال سنة 1960 أثناء الحرب التحريرية التي شهدتها الجزائر ضد المستعمر الفرنسي.
عودة جديدة مرتقبة؟
عانت هذه الحلبة من التهميش الطويل، رغم تمتعها بتاريخ حافل في هذا النوع من العروض، حيث استقبلت خلال نشاطها أهم الأسماء في مصارعة الثيران من داخل إسبانيا ومن خارجها أيضًا، وقد ظهرت في الماضي عدة محاولات لإعادة فتحها واستغلالها لأغراض ثقافية وسياحية، حيث جُعِلت خلال سنة 1987 مسرحًا لبعض الأنشطة الثقافية التابعة لمهرجان سيدي الهواري، لكن حالة الحلبة المزرية والدمار الذي لحق بها بسبب الإهمال حال دون استمرارها في استقبال هذا النوع من النشاطات، ليتم الرجوع إليها سنة 2009، حيث بدأت أعمال الترميم أخيرًا لتصبح حلبة وهران مفتوحة للجمهور بداية من سنة 2019.
عرض بعض الفنانين التشكيليين ومصممي الديكور والعديد من الحرفيين وغيرهم الكثير من أعمالهم بين الحين والآخر في مدرجات هذه الحلبة، وهذا ما بعث شيئًا من الحيوية في هذا المكان المليء بالأحداث التاريخية الرياضية والثقافية، والكثير من النوستالجيا، كما تعد ساحة المصارعة هذه مقصدًا مهما للزوار الفضوليين والمتعطشين لاستكشاف هذا النوع من التراث العمراني للمدينة، حتى يتمكنوا من الارتحال في الزمن عبر الحقب التاريخية التي مرت بها هذه المدينة من خلال آثارها التي لا تحصى، كما تُعتزم إعادة الاعتبار لهذا الصرح قريبًا بعد إعادة التأهيل الكامل المرتقب.
تاريخ حلبات الثيران في الجزائر
يذكر أن ساحات السباق وعروضها في الجزائر كان لها وجود وجب التنويه له، حيث كانت تقام هذه السباقات في ساحات مؤقتة في العاصمة الجزائرية، وبالتحديد في منطقة باب الواد، إذ تذكر بعض الوثائق والصور التاريخية وجود عدة سباقات أقيمت بداية من سنة 1863، وقد أطلق على المكان اسم "الحلبات الجديدة" حيث أقيم آنذاك في ما سمي"السوق الحديثة" عرض مهم يوم العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1909.
من ناحية أخرى، أقيم خلال يومي الرابع عشر والتاسع عشر من حزيران/جويلية سنة 1931 عرضان لمصارعة الثيران في ساحة مؤقتة شيدت في ملعب "غاليا سبور"، غير بعيد عن ساحة سباق الخروبة، ليختتم هذا النشاط بعرض "شارلوتاد" لمجموعة "فالنسيا شارلو".
مع ذلك، تبقى "لاكوريدا" أهم الحلبات ذات التاريخ الحافل والعروض المهمة، تلك الموجودة في وهران، وبصفة أقل تلك التي شيدت حلبة أخرى على بعد ثمانين كيلومترا جنوب مدينة سيدي بلعباس. تحت اسم "حلبات ماملون" في (فيلاج بيرا) في منطقة طريق الخروب حاليًا، لكنها اندثرت مع الوقت وشيدت في مكانها طريق رئيسية ومجمع مدرسي.
شيّدت حلبة أخرى على بعد ثمانين كيلومترًا جنوب مدينة سيدي بلعباس وأطلق عليها "حلبات ماملون" ولكنها اندثرت مع الزمن
تشهد مثل هذه الأماكن على الثراء التاريخي والثقافي والمعماري المحلي والوطني، ولعل الاستثمار الثقافي والسياحي في هذا النوع من الآثار مع مراعاة طبيعتها وتفادي تدميرها بنشاطات قد تشوهها، قد يجلب للمدينة وللبلد على حد سواء فرصة عظيمة ليحيا فيها القطاع السياحي بعد سبات طويل طال أمده.