أثار لجوء قضاة المحاكم الجزائرية في المدّة الأخيرة، بسبب جائحة كورونا، إلى اعتماد تقنية المحاكمة عن بعد بشكلٍ كبير مقارنة بالسابق، حفيظة المتهمين والمحامين على حدٍّ سواء، وهو ما جعل أصحاب الجبّة السوداء ينظمون وقفات احتجاجية بداعي وقوع مساس باستقلالية العدالة في مثل هذه المحاكمات.
لخميسي عثامنية: القانون يترك للمتهم ودفاعه خيار إجراء المحاكمة عن بعد من عدمها،
وإذا كانت جائحة كورونا قد جعلت اجتماعات حاسمة في الجزائر والعالم تتم عبر تقنية الفيديو، إلا أنه في مجال القضاء لا يزال كثيرون يرفضون استعمال هذه التقنية التي أجازها القانون قبل قدوم أزمة وباء كورونا، فهل يعود ذلك إلى المقاومة المعتادة لكل ما له علاقة بالتكنولوجيا والقضاء على العادات السابقة، أم يتعلق الأمر حقًا بإجحاف في حقّ المتقاضين؟.
اقرأ/ي أيضًا: واقعة "إهانة النقيب".. الجبة السوداء تغلق مجلس قضاء الجزائر
ضجة قضائية
لم يتوقع وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي، أن يكون قراره الصادر في شهر آذار/مارس الماضي، الداعي لاستعمال المحاكمة عن بعد بعد تسجيل أولى الإصابات بفيروس كورنا في البلاد، أن يثير ضجّة شلّت الجلسات القضائية في بعض المحاكم.
وأمر زغماتي في قراره الصادر في الشهر الثالث من العام الجاري، بـ "استعمال إجراءات المحاكمة عن بعد متى أمكن ذلك، وتوقيف عمليات استخراج المحبوسين من المؤسسات العقابية من طرف قضاة التحقيق، إلا في حالات الضرورة القصوى المرتبطة بالحبس المؤقت، وعقلنة اللجوء إلى إجراءات المثول الفوري من طرف وكلاء الجمهورية".
غير أن الأمور لم تسر كلّها كما أرادها وزير العدل، فقدت تسبّب رفض قاض في أحد جلسات مجلس قضاء الجزائر، طلب تأجيل المحاكمة التي تقدم بها الدفاع بحجّة أنها تجري عن بعد، ولا تضمن مصلحة العصرنة النقل الإلكتروني في موعد جديد حفيظة نقابة المحامين، التي دعت لمقاطعة كاملة للمحاكمات لمدّة أسبوع في شهر أيلول/سبتمبر الماضي.
واعتبرت النقابة أن ما أقدم عليه القاضي، إنقاص من حقّ الدفاع وموكله، ومساسٌ باستقلالية العدالة ونزاهتها.
ولقيت هذه الحادثة تضاربًا في الآراء بين الجزائريين، بعد أن كشفت نقابة القضاة أن احتجاج المحامين، يتعلق بقضية رجل الأعمال محي الدين طحكوت الذي تمت إدانته في قضايا فساد كثيرة.
وحسب نقابة القضاة، فالحادثة وقعت في جلسة 16 أيلول/سبتمبر الماضي، تتعلق بملف طحكوت محي الدين، حينما طلب نقيب العاصمة تحويل موكله قصد محاكمته عن قرب بدلًا من المحاكمة عن بعد، وبعد الاستماع لرأي النيابة العامة قرّر المجلس رفض طلب الدفاع ومواصلة المحاكمة عن بعد، وهو ما أثار غضب نقب محامي العاصمة عبد المجيد سليني.
وبرأي أستاذ القانون لخميسي عثمانية لـ "الترا جزائر"، فإن قرار المحامين كان صائبًا؛ لأن القانون يترك للمتهم ودفاعه خيار إجراء المحاكمة عن بعد من عدمها، لذلك كان من الأولى على القاضي وهيئة الدفاع البحث عن قرار توافقي بما أن الجزائر والعالم ككل يعيش ظروفًا استثنائية بسبب جائحة كورونا، وهو ما يتطلب اللجوء للمحاكمة عن بعد، والابتعاد عن منطق المواجهة، على حدّ قوله.
نقائص عديدة
رغم مرور قرابة خمس سنوات عن صدور القانون 15-03 المؤرخ في 1 شباط/فيفري سنة 2015، المتعلق بعصرنة العدالة، إلا أن تطبيق المحاكمة عن بعد لازالت تلقى رفضًا كبيرًا بسب عدة إشكالات تقنية وإجرائية.
وبالنسبة للأستاذ عثامنية، فالعائق التكنولوجي المرتبط بجودة الإنترنيت يبقى هو المشكل الأساس في اعتماد هذا النوع من المحاكمة في الجزائر، إذ يبقى هذا الجانب بعيدًا عن باقي الدول المتطورة التي صار فيها التقاضي عن بعد أمرًا عاديًا لا يُثير أي إشكال.
من جهتها، تشير المحامية فتيحة رويبي في حديثها مع "الترا جزائر"، إلى أن ما يعاب على المحاكمة عن بعد؛ افتقادها لـ "تفاعل المتهم مع استجواب الهيئة القضائية وأسئلة الدفاع والنيابة العامة، ومواجهته مباشرة بالشهود، وما يصرح به كل شاهد بالجلسة، وعدم تمكن القاضي من قراءة تقاسيم وتعبيرات وجه المتهم وحركاته ونبرة صوته خلال مناقشة الملف، لأن الصورة قد لا تعبر عن حقيقة تلك الحركات".
وأضافت "في بعض الحالات قد ينفي المتهم سائر مراحل الأفعال المنسوبة إليه، وحين حضوره أمام هيئة المحكمة وبعد محاصرته بالأسئلة، تتغير نبرة صوته وتظهر من تقاسيم وجهه أنه يُخفي كلامًا لازال لم يصرّح به، وبعد إصرار القاضي على المتهم أن يقول الحقيقة، تُفاجأ الهيئة القضائية بالمتهم يجهر بالحقيقة، وهو الذي يصعب الوصول إليه في المحاكمة عن بعد، ويعرقل تكوين قناعته، ويصبح ملزمًا باعتماد محاضر الضبطية القضائية ومناقشات قاضي التحقيق".
ولاحظت المحامية ذاتها أن تصريحات بعض المتهمين من السجن عبر هذه التقنية قد تكون "غامضة ومبهمة"، مشيرة إلى أنه "في بعض الحالات حين يكون تدفق الإنترنت ضعيفًا ولا تسمع المحكمة تصريحات المتهم، والشيء نفسه بالنسبة للمتهم إذ لا يسمع ولا يفهم كلام رئيس الهيئة، وفي بعض الحالات قد نشاهد حركات دون سماع الصوت".
وحسب فتيحة رويبي، فإنه من الصعوبات التي قد تُعرقل اقتناع القاضي في المحاكمة، عن بعد هو عدم إمكانية عرض وسائل الإقناع مباشرة على المتهم كالمسروقات والسلاح كمحجوزات حجزت لديه، وفي جرائم التزوير المادي يصعب أيضًا عرض التوقيع المزور على المتهم قبل إجراء الخبرة.
توسيع استعمال
جاء في المادة الرابعة من القانون 15-03، المتعلق بعصرنة العدالة أنه "إذا استدعى بعد المسافة أو تطلب ذلك تحسين سير العدالة، يمكن استجواب وسماع الأطراف عن طريق المحادثة عن بعد، مع مراعاة احترام الحقوق المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية".
ويُفهم من المادة أن اللجوء إلى هذا الإجراء يبقى غير ملزم، ومرتبطًا بظروف معينة، غير أن وزير العدل بلقاسم زغماتي، ورغم الجدل الذي تثيره هذه التقنية في كل مرّة لا يريد بقاء الحال على حاله، إذ أعلن شهر حزيران/جوان الماضي نيته في توسيع العمل بالمحاكمة عن بعد مستقبلًا.
وكشف بلقاسم زغماتي وقتها،عن الشروع في إجراء تعديل تشريعي "قصد تعميم تقنية المحاكمة المرئية عن بعد في إجراءات التحقيق والمحاكمة لاسيما بإلغاء شرط الموافقة المسبقة للمتهم وتوسيع هذه التقنية، لتشمل مجال الجنايات ضمن شروط وضوابط محددة".
وأشار زغماتي إلى "الآثار الإيجابية لهذه التقنية على حقوق الأطراف لاسيما الحق في المحاكمة في الآجال المعقولة والتخفيف من حالة الاحتقان التي يتسبب فيها طول آجال انتظار المحاكمة بالنسبة للمتهم المحبوس وذويه".
فتيحة رويبي: في بعض الحالات حين يكون تدفق الإنترنت ضعيفًا ولا تسمع المحكمة تصريحات المتهم
وفي انتظار ما سيتضمنه التشريع الجديد المتعلق بالمحاكمة عن بعد، يظهر أن القبضة الحديدية بين المحامين والقضاة بشأن ضمان استقلالية العدالة عند استعمال هذه التقنية، ستبقى مستمرة، وستفتح الباب لاتهامات جديدة، بعد أن صرح رئيس النقابة الوطنية للقضاة يسعد مبروك في اجتماع المجلس الوطني للنقابة، المنعقد الجمعة الماضية أنه يجب التصدي وفضح فئة قليلة تختفي وراء جبة المحاماة لممارسة الكثير من الدجل والسمسرة.
اقرأ/ي أيضًا: