في 16 شباط/فبراير الماضي خرج مئات المواطنين في مدينة خراطة بولاية بجاية، شرقي العاصمة الجزائرية، في احتجاجات ضد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة.
من سؤال "أين الرئيس؟!" الاستنكاري، انطلقت الشرارة الأولى للحراك الشعبي في مدينة خراطة ضد عهدة خامسة لبوتفليقة
كان كل شيء يوحي بأن الرئيس سيقدّم ترشحه، خصوصًا بعد تزكية من أحزاب الموالاة، التي شحنت الشعب الجزائري لفترة طويلة منذ حزيران/يونيو 2018، محاولة بث بيانات تزيكة ودعوة بوتفليقة لإتمام مسيرته، مطلقين على أنفسهم "دعاة الاستمرارية"، غير أن الشارع بدأ يتساءل أين الرئيس؟!
اقرأ/ي أيضًا: موجة الحراك الجزائري الثالثة.. تنوع أكثر وخطاب أوضح
الشرارة الأولى
من تداول السؤال على السوشيال ميديا، إلى الشارع، حيث تلقفه مجموعة من النشطاء في مدينة خراطة التاريخية، وخرجوا في احتجاجات ضد ترشح بوتفليقة.
احتجاجات لم يتوقع أن يكون لها صدى، خاصة وأن الأحزاب الموالية للرئيس كانت تشتغل ليل نهار على التحضير للحملة الانتخابية الاستباقية، إذ بدأ دعاة الاستمرارية بعقد تجمعات وندوات يؤكدون فيها على أن بوتفليقة هو "الأب المجاهد"، مروجين للعهدة الخامسة "استكمالًا لما بدأه الرئيس" من توليه الحكم في نيسان/أبريل 1999!
لكن آيتهم انقلبت عليهم، فالشحن العاطفي الذي مارسوه انقلب نتائج سلبية عند الجزائريين، وبدأت التحركات لقطع الطريق على العهدة الخامسة من طرف شباب خراطة، لتكون الشرارة الأولى لاحتجاجات الحراك الشعبي التي توسعت لتشم كل من ولايتي تيزي وزو وخنشلة، شرقي الجزائر، ثم العاصمة الجزائرية يومي 18 و19 شباط/فبراير الماضي.
خرج سكان مدينة خنشلة في وقفة احتجاجية أمام مقر البلدية، بعد استفزاز رئيس البلدية للمواطنين ومنعهم من تجمع لمرشح الانتخابات رشيد نكاز، الذي كان يجمع التوقيعات، وتوجه إليهم بعبارات نابية من خلال حسابه على فيسبوك، وأقدم المواطنون على تمزيق صورة الرئيس بوتفليقة المعلقة على الواجهة الأمامية لمبنى البلدية.
بالموازاة مع هذه التطورات على الأرض، كانت مجموعة مشكلة من أزيد من 10 أشخاص تضم ناشطين حقوقيين، تنظم تحرّكاتها ضد ترشح بوتفليقة، منذ العاشر من شباط/فبراير الماضي، وهي نفس المجموعة التي عارضت ترشحه للعهدة الرابعة.
وبذلك بدأت التحضيرات لما أطلق عليه بـ"جمعة الرفض"، ولعب الفضاء الافتراضي دورًا بارزًا في الحراك الشعبي بالجزائر، وانتشرت دعوات كثيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تدعو المواطنين إلى مسيرات في كل الولايات استعدادًا لـ22 شباط/فبراير.
مفاجأة الحراك الأولى
تحركت مجموعة من الشباب نحو ساحة البريد المركزي بقلب العاصمة الجزائرية، وجاءت الدعوات أن تكون المسيرات عقب صلاة الجمعة، وهو مازادها تماسكًا.
في المقابل، كشفت مصادر أمنية لـ"الترا جزائر" أن التقديرات الأمنية لم تتوقع خروج أكثر من ألف متظاهر في العاصمة، لكن المفاجأة كانت في خروج الآلاف في شوارع العاصمة، منها ومن محيطها، يرفعون شعار: "لا للعهدة الخامسة"، مؤكدين أنها "سلمية.. سلمية".
يبقى ذلك اليوم في الأذهان، حيث خرج الملايين للشوارع في مختلف الولايات من الرافضين للعهدة الخامسة، وقد كسروا حاجز الخوف. وكانت رمزية اليوم، في تمزيق واقتلاع صور بوتفليقة.
جمعة التأكيد
حبس الجزائريون الأنفاس خلال الأسبوع الأول الذي أعقب 22 شباط/فبراير، فتساءل الملايين هل يقدم بوتفليقة وثيقة ترشحه للمجلس الدستوري، منتظرين يوم الثالث من آذار/مارس، آخر آجال إيداع ملفات الترشح، بينما تواصلت الدعوات عبر الفضاء الافتراضي للخروج للشارع في مسيرات تأكد المطلب الأوحد وقتها: "لا لعهدة الخامسة"، وسميت تلك الجمعة بـ"جمعة التأكيد".
عرفت جمعة التأكيد توافدًا أكبر للمحتجين من مختلف الولايات إلى العاصمة. ورفعت الأصوات ردًا على قيادي الحزب الحاكم، حزب جبهةا لتحرير الوطني، معاذ بوشارب، الذي قال عبر التلفاز: "من يريد من بوتفليقة عدم الترشح، أقول لهم احلموا".
خطاب بوتفليقة والغليان
لم يتوقع الجزائريون أن يصمّ بوتفليقة أذنيه عن هدير أصواتهم، لكن ذلك ما حدث عندما أصدرت الرئاسة خطابًا منسوبًا إليه في الثالث من آذار/مارس الماضي، تعلن فيه ترشحه للعهدة الخامسة، مع وعود بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. وكانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس، بمئات آلاف المحتجين في الشوارع تنديدًا بترشحه، واعتبروا أن الخطاب "استفزازٌ من رجل مريض"، لم يخرج عليهم بعد احتجاجاتهم، كما لم يخرج منذ سنوات!
بعد ثلاثة أيام، غير الفريق أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع ورئيس الأركان الجزائري، من لهجته، فلأول مرة لم يذكر قائد الأركان في كلمته اسم بوتفليقة، محاولًا دغدغة مشاعر الشعب الجزائري بالقول: "الجزائر قوية بشعبها"، وهي العبارات التي أدخلت الثقة في نفوس الجزائريين لمواصلة مسيرة المطالب.
الثامن من آذار/مارس.. فأل الخير
في يوم المرأة العالمي، يوم الجمعة الموافق الثامن من آذار/مارس، لم يتوقف الجزائريون عن نداءات الخروج في مسيرات مليونية جابت كل الولايات الجزائرية، وهو ما ثمنته القيادة العليا في الجيش الجزائري، وهي المسيرة التي دفعت بالرئيس بوتفليقة في 11 آذار/مارس، إلى إعلان عدم ترشحه للرئاسيات التي أجلها لعام، مع وعود بتعديل الدستور وعقد ندوة وطنية. غير أنها مقترحات رفضها الشعب الذي خرج في "جمعة رفض التمديد" في 15 آذار/مارس.
تزايدت وتيرة الاحتجاجات في الجزائر، وباتت كل فئات المجتمع الجزائري منخرطة في الحراك. وتزامنت معها تفككات في الحساسيات السياسة الموالية للرئيس بوتفليقة، وانقسام بين الأحزاب والمنظمات الكبرى التي كانت تدعو للعهدة الخامسة.
العشرات من الوجوه السياسية خرجت عن صف السلطة، واستقال عدد من النواب، وانضمت النقابات العمالية للحراك. ورافق ذلك كله خطابات تأييد من رئيس أركان الجيش الجزائري، يؤكد فيها الانحياز لخيارات الشعب، وبدأت تلوح في الأفق بشائر الإطاحة ببوتفليقة.
في أواخر آذار/مارس المنقضي، بدا بوتفليقة في مظر الرجل الوحيد، بعد أن تخلت عنه أكبر المنظمات في الجزائر، وهي منظمة المجاهدين التي دعت للاستجابة لمطلب الشعب.
لهجة حادة من الجيش والاجتماع القاصم
خرج قايد صالح في 26 آذار/مارس بخطاب حاد اللهجة داعيًا فيه بوتفليقة للتنحي بتطبيق المادة 102 من الدستور وإعلان شغور المنصب. وفي ظل صمت تام من المجلس الدستوري، واصلت جماعة الرئاسة التلاعب بختم الرئيس، مناورةً لعدم تطبيق دعوة صالح، أو بالأحرى متن الدستور.
وتفجر الوضع عقب عقد اجتماع نظمه الجنرال المتقاعد محمد مدين، المدعو"توفيق" والمعروف بـ"صانع الرؤساء في الجزائر"، إذ تم الاجتماع بطلب من السعيد بوتفليقة، غير أن نائب وزير الدفاع كشف المؤامرة ودعا بشدة إلى تطبيق المواد سبعة وثمانية و102 من الدستور الجزائري. استتبع ذلك أخبار عن منع رجل علي حداد، رجل الأعمال واليد اليمنى لشقيق بوتفليقة، من السفر، ومتابعته في المحكمة بتهم الفساد، رفقة عدد من رجالات الأعمال.
الثاني من نيسان/أبريل.. الرصاصة القاتلة
تسارعت الأحداث بعد أخبار الاجتماع السري الذي عقده شقيق الرئيس ومستشاره الخاص السعيد بوتفليقة، مع كبار الجنرالات، وأخرج اسم الجنرال، الرئيس الأسبق اليمين زروال، الذي اجتمع معهم أيضًا. فما كان من الرئيس الأسبق إلا أن يكشف المستور ويطلق بذلك الرصاصة القاتلة على الرئاسة، ببيان قال فيه إنه التقى بالسعيد بوتفليقة ورفض عرضه بتسيير المرحلة الانتقالية، داعيًا إيهم إلى "التعقل والرضوخ لمطالب الشعب".
أدى ذلك إلى اجتماع قيادة الأركان بالجيش مع قيادات النواحي العسكرية، وخرج الاجتماع ببيان شديد اللهجة، يطالب بوتفليقة فورًا بالاستقالة، وتطبيق أحكام الدستور.
ليلة اللحظة تاريخية
الساعة العاشرة و27 دقيقة مساءً بالتوقيت المحلي للجزائر، سلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رسالة استقالته لرئيس المجلس الدستوري الجزائري الطيب بلعيز ورئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، مرتديًا لباسًا تقليديًا ووهو على كرسيه المتحرّك.
في تمام العاشرة و27 دقيقة مساءً سلم بوتفليقة استقالته لتكلل الحراك الشعبي بانتصار جزئي مع إدراك ضرورة الاستمرار لتنحية كافة رموز الفساد
كانت لحظة انتصار، جزئي، احتفل به عشرات الآلاف من الجزائريين في الشوارع، مع حديث متداول تشاركي حول ضرورة إبقاء الحراك في الشارع حتى تحقيق المطالب الأكثر جذرية، بتنحية رموز الفساد جميعهم.
اقرأ/ي أيضًا: