بعد أكثر من شهر مرّت على الهزة الأرضية الأولى، التي ضربت عدة ولايات شرقية بالجزائر، كان مركزها ولاية ميلة، تحوّل حيّ الخربة بأعالي المدينة، منطقة منكوبة، حسب تصنيف وزارة الداخلية ووزارة السكن والعمران.
سكان حي الخربة أجمعوا على حدوث انهيارات بعد ساعتين من الزلزال
الزلزال الذي ضرب "عاصمة الماء" الجزائرية، عرّى حقيقة هشاشة البنية التحتية في المدن الجزائرية، وأزاح الغطاء عن حقيقة البناء والسكن والعمران أيضًا في مدين كثيرة وأحيائها الجديدة، التي قضت على مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية، وأغفلت معها خصوصية الأرض وباطنها من أجل منح المواطن فضاءً للسّكن، إذ اتفق مختصّون على أنّ الأرض عندما تهتزّ تُخرج ما في باطنها. تتحرّك نظرًا لطبيعة تكوينها، وتُحدِثُ انزلاقات قد تستمرّ بعد ذلك لأيام وأشهر.
اقرأ/ي أيضًا: زلزال ميلة.. إعادة إسكان 184 عائلة منكوبة بعد عشرين يومًا
الحلول المؤقّتة والأسباب
على الأرض، تُسارع الحكومة الجزائرية دائمًا إلى معالجة مشكلات السكّان إن تعلّقت بأزمة طبيعية، والوقوف على حجم الخسائر وإبداء الحلول السريعة حِيالها، غير أنّها في المقابل من ذلك، لا تلتفت إلى عمق المشكلة، التي تتعاظم -حسب المختصّين- مع مرور الزّمن وإطالة غضّ الطّرف عنها، وقد تُسبِّب في كارثة أخرى تعترِضُ سكّان المنطقة في ولاية ميلة، وحتى المدن المجاورة لها خاصّة عاصمة الصخر العتيق قسنطينة، التي هي أصلًا مبنية على صخرة عظيمة، وتربطها خمسة جسور معلقة بالضفة الأخرى.
توسّع في البناءات الجديدة، إضافة إلى عديد القرى والأحياء التابعة إداريًا إلى المدينة السياحية جيجل، وهو ما ركّز عليه العديد من التقنيين المعماريين والمختصّين أيضًا في علوم الأرض والزلازل.
يتحدّث مختصون لـ "الترا جزائر" عن النتائج المصاحبة للزلزال الذي ضرب ميلة، وآثاره على مستوى حي الخربة العليا والسفلى، إضافة إلى منطقة راس البير مرورًا بالطريق الوطني رقم 79، وهي مساحات لمستها التشققات عبر عدة خطوط، يقول المهندس زكريا سياري، موضحًا أن الأمر لا يتعلق بالهزة الأرضية، بالقدر ما هو متصل بشدتها، إضافة إلى "نوعية التربة أو الأرضية التي تحوّلت في خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى مناطق سكنية، وكثر فيها الأسمنت والآجر".
الزلزال مُحفِّز للانهيار
علميًا، ما وقع في ميلة هو انزلاق للتربة ساهمت فيه طبيعة الأرضية المائلة، والزلزال كان فاعلًا من فواعل الانهيارات والتصدعات، مثلما قال المهندس سياري لـ "الترا جزائر"، فعبر قياس التصدعات الأرضية، ومتابعة التشققات عبر مختلف الأماكن، تدلّ نوعية التربة على عدة أبعاد حول الانهيارات التي وقعت منذ الهزتين، خاصّة أن شهود عيان من سكان الخربة، أجمعوا في تصريحات صحافية، على أن الانهيارات لسكناتهم لم تحدث مع الهزّة الأرضية، ولكن عقب ساعتين من حدوثها، إذ بدأت الأرض بالحركة أو ما يسمى الانزلاق الأرضي، الناجم عن تحركات عميقة في باطن الأرض، يضيف المهندس.
وعطفًا على ذلك، فالتصدعات التي مست مختلف البناءات ناجمة علميًا بحركة باطنية للأرض ضخمة، وأن تلك التشققات والتصدّعات استمرت في الاتساع مع مرور الوقت والأيام، أدت إلى هلع على مستوى آلاف الأسر والعائلات بما فيها المجاورة لحي الخربة.
بدوره، كشف البروفيسور شراف شابو، مدير معهد الهندسة وعلوم الأرض بجامعة فرحات عباس سطيف، الذي زار المنطقة، أن تصدعات المساكن بكامل الحي بميلة، ناجم عن انزلاق أرضي ضخم، لافتًا في تصريحاته أن الزلزال كان المحفز الأساسي لحركة الأرض باطنيًا، وذلك ناتج حسبه "عن حزمة من الأسباب الطبيعية وهي: طوبوغرافية المنطقة المتّسِمة بالانحدار، ونوعية التربة الطينية، علاوة على وجود مياه باطنية، تسهم بدورها في تفتيت التربة".
بالنسبة للتربة الطينية، يتحدّث المهندس مصطفى لشهب من جامعة قسنطينة، أن حي الخربة وحي "قندهار" أقيما على تربة هشّة، وتم البناء عليها دون مراعاة هذه النقطة، وحتى الطرقات المشيّدة المؤدية إليهما، موضحًا بالقول: إن التربة الهشة مشكلة من مكونات أساسية وهي "المارن والأرجيل" وميزتها أنها خفيفة وهشة، وبإمكانها أن تتحرك مع وجود الميل، فضلًا عن ثقل البناءات التي شيّدت عليها.
ليس هذا فقط، يضيف المهندس لشهب، فبتضافر هذه العوامل بإمكان الماء المخزّن في باطن الأرض وعنصر الميلان في التربة أن يتسبّبا في تحرك الأرض وانزلاقها، أي أن رجّة الأرض كانت عاملًا مسبّبًا للانهيارات والتشققات في البنايات، وليس سببًا أساسيًا فيه، فكل الأسباب كانت مستترة لسنوات طويلة.
ونتيجة لتلك العوامل، فان المنطقة لم تشهد انزلاقات سابقة باعتبار أن الحي جديد، وبالتالي ففرضية البناءات على أرض معرضة للانزلاق سبب قوي، لتعرض بناءات جديدة للانهيار مع كل مرّة تسجل فيها الولاية أو الولايات المجاورة لهزات أرضية.
وبناء على هذه المعطيات، فالمشكلة في ميلة، ستكون متواصلة في المستقبل، إذ دعت المهندسة في المعمار سليمة بن زهرة السلطات المحليّة إلى القيام بتحقيق موسع على الولاية والمناطق المجاورة لها، خصوصًا أنها باتت مثل بقية المناطق الجزائرية تتوسع في البناء والتشييد، على حدّ قوله.
لكن في مقابل ذلك بحسب المتحدّثة، فإن "المواطن بات يفكّر في بناء طوابق من الآجر والإسمنت، ومستودعات في الطابق الأرض لا تتحملها الأرض، ودون مراعاة لوظيفة المهندس في البناء والتعمير، فضلًا عن بناءات كفضاء للسكّان دون الاعتناء بالعمران الذي هو جزءٌ مهم في الأحياء التي تُشكِّل المدن، وتعطي لها روحًا للسكن فيها، خصوصًا الاعتماد على الأشجار وإعطاء البيئة اعتبارًا كبيرا، فضلًا عن جمالية في التشييد"، وهذا ما ينقص واجهة الأحياء في مختلف المدن الجزائرية، تضيف المهندسة.
شدة الهزة
من جهتها، باشرت مصالح البلدية بعمليات تهديم البنايات التي صنفتها الهيئة الوطنية للمراقبة التقنية للبناء" سي تي سي" وعددها 537 مسكنًا، علاوة على تصنيف 240 بناية ضمن الخانة البرتقالية، في الحي المنكوب، علاوة على 34 منزلًا في المدينة الأثرية العتيقة، و22 بناية في حي" الأمل" و22 بناية وسط المدينة في شارع القدس، وحي قصر الماء.
يعترف كثيرون أن حيّ الخربة لم ينشأ على أرضية صالحة للبناء، هذا لا بدّ للقائمين على البناء والتعمير في المدينة أن يعيدوا النظر فيه، خصوصا وأن "الفأس وقعت في الرأس"، يقول أحد سكان الحي والمتضرر من تسجيل مسكنه في الخانة الحمراء، لافتًا في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن المشكلة الآن ليس في إعادة الإسكان التي باشرت فيها الولاية، ومناقشة الطريقة الأمثل لتعويض السكان والمتضرّرين، لكن في استمرار الانزلاقات والتصدعات لعديد السكنات إن تحركت الأرض مجددًا في المستقبل.
هل تستطيع المدينة ببناءاتها الجديدة والقديمة، الصمود بشكل يضمن للمواطنين حياة خالية من الأخطار في السنوات القادمة؟ الطرح الذي قدّمه المواطن، هو نفسه الذي تكرّر على ألسنة كثيرين، باعتبار الاعتداء الصارخ على الأراضي الفلاحية الممتدّة على جيوب المياه الجوفية، وتمّ تحويلها في السنوات الأخيرة إلى مجمّعات مشوّهة من السكنات الآجورية، فيما ضربت تهيئتها عمرانيًا وبمقاييس السلامة عرض الحائط، مع الإهمال الذي تشهده المدينة الرومانية "ميلة القديمة" أو "ميلاف"، رغم أن التهيئة وترميم الآثار الرومانية جارية منذ سنوات، غير أنها آثارها باتت تندثر مع مرور الزمن.
هل تستطيع المدينة الصمود في السنوات القادمة؟
على العموم، يدفعنا هذا الوقع المرير مرارة خسارة الناس لسكناتهم في فصل الصيف، وارتفاع درجات الحرارة في مخيمات بقلب المدينة، للتساؤل عن الأغلفة المالية، التي تصرفها الدولة في تهيئة المدن ومدى مطابتها للمعايير السلامة، ومقاومة الكوارث الطبيعية مثل الزلزال والفيضانات وغيرها.
اقرأ/ي أيضًا:
هزّة قوية تضرب ولاية ميلة وتسبّب ذعرًا كبيرًا للسكان
هزّة أرضية بقوّة 4.9 درجات بولاية ميلة