27-أكتوبر-2020

نورجاها في إحدى مهامتها التطوّعية (فيسبوك/الترا جزائر)

من بييرا تلك المدينة الصغيرة التابعة لمحافظة سوفالا جنوب جمهورية الموزمبيق أتيْت، نعم جُذوري هناك، عُروقي ملتصِقة بأرض الأجداد، لقد بقِيت آثار أصولي في تلك الرّبوة التي لطالما حلُمت يوما أن أمشي على ترابها وأداعب حباته كباقي الأطفال، فالتّراب الذي أتينا منه وحده من ينفِض عنّا سؤال مِن أين أتيت؟ ويغسِلنا من كلّ جِدال الاختلافات، ويمنَع عنّا ذلّ الفُرقة وحَرج المعاملات اليومية فيما بيننا، التي يربطها كثيرون بسؤال ماهي أصولك؟ وهذا ينافي الحقيقة والواقع.

قصّة هذه السيدة كانت من بين أجمل التّجارب الإنسانية في بلد أوروبي له تاريخ وجغرافيا ممتدّة بين الحضارات

"في مدينة بْيِيرا توجد شجرة وكوخ، ذلك ما نملِكه، أو ما مَلكه أجدادي، كما قيل لي، ودعوات الأيادي لله أن يفرّج كُروبنا، لا أعرِف المكان الضارب في التاريخ تحديدًا لكنّه يسكنني ويسكنني الشّوق إليه، فوالدتي من أصول موزمبيقية مُسلمة، نعم والدتي مسلمة وأنا اعترف أن أخلاق الإسلام هي من جعلتني اليوم هكذا، رسّخت في قلبي الكثير من معاني المحبّة والتّسامح والرّأفة والتعلّق بما هو أكبر، فالهوامش تغرِقنا في نفس الأسئلة دون إجابات مقنعة".

اقرأ/ي أيضًا:  أزمة الإسلام في فرنسا أم أزمة فرنسا؟

مسيرة مهاجرة 

عرفتُ البرتغال قبل أزيد من ثلاثين سنة، أعطتني أمي ذلك النّور الرباني، ووهبتني الحياة في هذه الأرض الجميلة لشبونة، فمنحتني اسم نورجاها، صرت أدعوا الله في خلواتي، وفي ذهابي من البيت للخارج، في مساراتي بين أحياء وشوارع المدينة، كثيرًا ما أنصت لصوتي الداخلي وأنا أبحث عن شخص أساعده وكفكفة دموعه، ومعالجة أنّاتِه، دعوت الله أن يرحم والدتي فوهبتُها "نور فاطمة" كصدقة جارية. ولعلّ يأتي من يرحمنا إن هرمنا.

لا تمّحي السّنوات والنّدوب التي تتخزّن في ذاكرة الشعوب المستعمرة، أخبرتني نورجاها أن الموزمبيق كان مستعمرة برتغالية لأربعة قرون واستقلّت رسميًا في العام 1975، عقب صراع دام 11 سنة، مضيفة أن "بييرا معناه بالبرتغالية الحدود، إذ تتواجد المنطقة في حدود بحرية للبلد الأفريقي وتربط عديد الدول بمينائها التجاري المهم جدًا، وللتاريخ جزء فيما نحن عليه الآن، ولكنه في المُقابل صُنَع من توأم روحي.. هي أنا اليوم".

قصّة هذه السيدة، كانت من بين أجمل التّجارب الإنسانية في بلد أوروبي له تاريخ وجغرافيا ممتدّة بين الحضارات، وله تجارب في احتلال الدول الأفريقية فيه التقيناها في أحد شوارع مدينة لشبونة، في يوم من أيّام الشّتاء البارد، تُشرف على جمعية خيرية أطلقت عليها تسمية "نور فاطمة". للأمانة اسم الجمعية المكتوب على سيارة بيضاء وعلى مختلف الصدريات التي يرتديها المتطوّعون هو الذي لفت انتباهنا، حيث استوقفنا الاسم أوّلا والشعار أيضَا. توقّفنا لدقائق لنلاحظ ذلك الطّابور الذي يوزّع فيه الوجبات السّاخنة على العائلات والفقراء وعابري السبيل.

الاسم والهدف

فضول الاسم وفضول الموقِف الإنساني جعلنا نتوقف لساعتين، لنلاحظ العمل التطوّعي هنا، وفضول الصحافي جعلنا نشيح بأسئلتنا؛ بادرتها بالحديث: "السلام عليكم ( ...) "، ابتسمت نورجاها ابتسامة عريضة وردّت بالقول: "وعليكم السلام .. عرب أنتم مسلمون؟" سألتنا وهي تبدي فرحًا بلقائنا، قلنا: "نعم نعم الحمد لله"، كأنها اكتشفت إبرة في كومة قشّ، بدأت تسرد علينا حكايتها وحكاية الجمعية، باللغة الانجليزية قليل بالفرنسية حتى تواصل الحديث معنا، فالجمعية تحمل ذاكرة والدتها فاطمة، وتؤصل للعمل الخيري للجميع.

قالت: "جروح الذاكرة السّحيقة تؤرق الكثيرين، فقط بي المسلم والمسيحي وغيرها من الديانات شعرة فقط، البعض جعل منها مِعولًا للأعمال الخيرية والسّعي لترسيخ الهوية التي يتوافق فيها الجميع، وتركيز الأفعال الجميلة والمبادرات النافعة لبني البشر، في النهاية كل واحد واقف في هذا الطّابور ممن ينتظرون وجبة ساخنة في هذا البرد يملِك قصته حزينة على الأرجح، ولكنّه معها يملك تجربته، فلا فرق بينهم سوى أنّهم في حاجة ما، ونحن أيضًا في حاجة لسعادة ونماء الخير، فوظيفتنا المساعدة، ونحن بحاجة لمن يبتسم لنا ويفرح بسببنا، لا تهمّ أصولنا ولكن الأهمّ أفعالنا وما نجني منها". ودّعتنا وهي تقول:" أنا هنا يوميًا، مرحبًا بكم، فلتأتوا معنا"

مشهد وذاكرة

لم تذهب "نور فاطمة" من ذاكرتي لحدّ اللحظة، طريقة تسييرها للجمعية، وخطواتها نحو العائلات المعوزة والفقيرة، لقد جابت رفقة أعضاءها كلّ البرتغال في النّوائب والكوارث الطبيعية والأمراض، حضورها قوي، وخاصّة في الأزمة الصحية التي يعرفها العالم، حيث تقدّم المعونة للمشردين مخافة الإصابات بوباء "كوفيد 19". الجمعية اليوم يؤطرها متطوعون من مختلف الأعراق والديانات.

"عندما تتفق أفكار البشر على تحقيق هدف واحد والخوض في معركة كبرى، مكافحة الفقر والأمراض وتقديم المساعدة للمحتاجين، ليست هيّنة، فالنهاية المرجوة ستأتي، إشاعة الخير في أي مكان كان بالأفعال والمساهمة في تقليص عذابات الناس" على حد تعبير غابريال، أحد المتطوّعين في جمعية "نور فاطمة".

تاريخيًا، بين بييرا ولشبونة سنوات طويلة من الصّراع، فالماضي له صفحات تُطوى ولا تُنسى، يمكن تجاوزها ولا يمكِن اختزالها، ويبنى من خلالها الحاضر والمستقبل.

أما جغرافيا؛ فبين ميناء بييرا بالموزمبيق شرق القرن الإفريقي و"لشبونة" عاصمة البرتغال جنوب غرب أوروبا، أكثر من 11 ألف كيلومترا من مسافة اختزلتها أيادي التطوع الإنساني في كلمتين: "نور فاطمة".

اليمين المتطرّف في أوروبا غالبًا ما يغذّي حضوره بخطابات الكراهية والعنصرية ضدّ المهاجرين الأفارقة 

ما جعلني أتذّكر هذه القصّة، هي تركيز وسائل إعلام غربية على ربط صورة المهاجرين بالإرهاب والتطرّف والعنصرية، إضافة إلى الاستغلال السياسي لهذه التوصيفات من طرف الأنظمة الغربية وأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا، والذي غالبًا ما يغذّي حضوره بخطابات الكراهية والعنصرية ضدّ المهاجرين الأفارقة والعرب والمسلمين خاصّة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

بنجامين ستورا: ماكرون يريد تسوية ملف الذاكرة مع الجزائر