03-سبتمبر-2020

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

يُعتبر الكشف عن تفاصيل التزوير المُسبق والتلاعب بقوائم المرشّحين والنتائج في الانتخابات التشريعية سنة 2017 أمام القضاء، خطوة لتوثيق عمليات تلاعب انتخابيّ كانت معروفة للعامّ والخاصّ. ولم تكن عمليات التزوير تجد الإقرارات اللازمة لإدانتها، ولم تكن تحتاج سوى اعترافات أسماء تداولت على الساحة السياسية في الجزائر، خلال فترة ما قبل الحراك الشعبي، وتُزيح الغبار المتراكم لسنوات من مسلسل "خداع الجزائريين من قبل نواّب الشعب"، وخاصّة من أتباع الرئيس بوتفليقة، سواءً من الأحزاب أو من منظّمات المجتمع المدني، والمحسوبين عليه من رجال المال والأعمال.

الرئيس تبون ملزم بتمرير الدستور على غرفتي البرلمان للمصادقة عليه قبل عرضه للاستفتاء

مَقعدٌ في المزاد

النائب البرلماني بهاء الدين طليبة، لدى إجابته على أسئلة القاضي بمحكمة سيدي أمحمد بالعاصمة مطلع شهر أيلول/سبتمبر الجاري، كشف عن تورّط جمال ولد عباس وأبنائه، ومدير جهاز المخابرات السابق بشير طرطاق، في قضية بيع قوائم الترشّح باسم حزب "جبهة التحرير الوطني".

اقرأ/ي أيضًا: موعد الاستفتاء على الدستور.. البحث عن شرعية سياسية وتاريخية؟

ما صرّح به النّائب بهاء الدين طليبة، في رده على أسئلة القاضي بمحكمة سيدي امحمد بالعاصمة الجزائرية، ليس إلا غيض من فيض، إذ كشف أن الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير جمال ولد عبّاس، كان "يتلاعب ببيع قوائم الترشّحات باسم حزب جبهة التحرير، حيث يدفع المتصدّر على رأس قائمة الانتخابية للحزب (الضامن للفوز بالأغلبية)، ما يربو عن 7 مليارات إلى 9 مليارات، أي ما يقارب 550 ألف إلى 700 ألف دولار أميركي.

تصريحات النائب طليبة ليست مفاجئة، ولا تخرج عمّا أسماه متابعون للشّأن السياسي في الجزائر بـ"التلاعب الانتخابي"، وهي عملية "غير مستبعدة حصولها، في الانتخابات الجزائرية خلال السنوات الأخيرة من فترة حكم بوتفليقة، التي بات فيها توظيف المال الفاسد في السياسة يأخذ أشكالًا مفضوحة، كما قال الباحث في العلوم السياسية مصطفى سدراتي من جامعة عنابة لـ "الترا جزائر"، موضّحًا أن التلاعبات تتلازم مع التمشّي السياسي العام آنذاك، خصوصًا أمام "تجبُّر الزمرة الحاكمة في مفاصل العملية السياسية، وأغلبهم من الموالين للحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني)، ولمن يتستّر بغطاء الحزب، من رجال أعمال ومسؤولين في الولايات، على حدّ تعبيره.

كما ذهب نجل الأمين العام للحزب العتيد اسكندر جمال ولد عباس، خلال محاكمته، إلى توجيه اتهامات الى شقيق الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ومستشاره الخاصّ السعيد بوتفليقة، بأنه كان يتحكّم في زمام القوائم الانتخابية، وكشف أمام القاضي أن شقيق الرئيس هو من كان "يتحكم في ترتيب قوائم مرشّحي جبهة التحرير الوطني، وتنظيم فوزها بحصّة أوفر لتتصدّر مقاعد البرلمان، كلّ ذلك بالتّنسيق مع كلّ من الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال، ووزير الداخلية نور الدين بدوي.

محاكمة النائب طليبة أثارت جدلًا واسعًا رغم أن الموضوع ليس بالخفي على الرأي العام، بأن هناك فساد كبير في العملية الانتخابية، خاصّة ما اتصل بمقاعد المجلس الشعبي الوطني، لما له من مزايا كثيرة، على منتسبيه، غير أن التصريح به من طرف نائب في السجن ترك الكثير من الانطباعات والآراء، فممثلو الشعب هم عبارة عن "أرقام ثمنها يساوي مليارات"، مثلما علقت النّاشطة إيمان عويمر في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك".

قديم جديد

الظاهر أن تصريحات طليبة، ماهي إلا تأكيد لمّا تم ترويجه في الحملات الانتخابية السابقة، خاصّة انتخابات (2012-2017)، حول قضية شراء المقاعد البرلمانية، والتي تزامنت مع فترة مرض الرئيس بوتفليقة، وهبوب رياح التغيير في البلدان العربية وتوثيقًا لما كان متداولًا منذ سنوات في الساحة السياسية الجزائرية، وهو أن شقيق الرئيس هو من يحكم من وراء الستار.

العدالة الجزائرية لم تتحرّك ولم تتدخّل لإيقاف الفساد خلال العهدتين النيابيتين الأخيرتين، وسبق لها أن غضت البصر عن حادثة إقرار التزوير الذي أعلن عنه رئيس اللجنة الوطنية السياسية لمراقبة الانتخابات السعيد بوالشعير في 2007، في رسالة قدّمها للرئيس بوتفليقة ونشرتها الصحافة، سارع وقتها وزير الداخلية السابق نورالدين زرهوني إلى نفيها، تحت مسمّى "معلومات مغلوطة تلقتها لجنة بو الشعير"، وهناك أعلن خبير القانون الدستوري بوالشعير اعتزال المشهد السياسي بسبب تحفظاته عن ما جرى في الانتخابات، وما تبعها من تعديلات الدستور التي أقرها بوتفليقة.

التّلاعب الانتخابي قرار سياسي

إخفاء التزوير أو الفساد بدأ مع تغوّل الجناح الأقوى في حزب جبهة التحرير، والتناحر بين الأطراف الحزبية سواءً في الخفاء أو العلن، من أجل إصلاح الجبهة، وانتهت حلقة الصراع إلى هدنة آلت إلى أيادي متحكّمة في عدة دوائر، وفي زمام وزارة العدل في شخص القاضي الطيب لوح، وهو أيضًا عضو سابق في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني (اليوم يقبع في السجن، وتحت طائلة المتابعة القضائية والمحاكمة).

في قراءة معمّقة لتصريحات النّائب طليبة، ونجل الأمين العام للحزب المتصدّر المقاعد البرلمانية، أمام المحكمة، تبرز عدّة مؤشّرات سياسية تعري واقع الانتخابات النيابية السابقة، أوّلها أنّ التلاعب الانتخابي، هو وجه من أوجه التلاعب الخطير بالمؤسّسات، كالمؤسّسة التشريعية -المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان)- وهي صورة لبرلمان يضمّ 462 مقعدًا، من بينهم 164 مقعدًا يعود للحزب "العتيد".

يتّضح أن هذا التلاعب قرارٌ سياسي بالدرجة الأولى، وبحماية من قبل مستشار الرئيس السابق ووزراء في حكومة سلال وأويحيى، وبرعاية من أعلى مؤسّسات الدولة وهي الرئاسة والحكومة ووزارة الداخلية.

توقيت سياسي

ومن المفارقات أن تصريحات طليبة عبر محاكمة كانت مبرمجة من قبل، تزامنت مع افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة (2020-2021)، وهي الدورة التي سيناقش فيها نوّاب الشعب بمن فيهم "الجبهاويين"، عدة قوانين أهمها مسودة الدستور والتصويت على مواده، وهو ما يعني أن "طليبة ونجل ولد عباس، أطلقا "رصاصة الرحمة" على البرلمان الحالي، وهو صناعة بوتفليقة ونتاج عهدته الرئاسية الرابعة، ويبدو أنها ليست الأخيرة، في انتظار ما سيصرح به الأمين العام السابق للحزب "العتيد" خلال محاكمته المنتظرة في التاسع أيلول/سبتمبر الجاري.

ثاني المؤشرات يتعلّق بمدى صدقية المؤسسة التشريعية الآن، أيّ البرلمان الحالي الذي سينظر في عدة قوانين وفي تفكيك مواد الدستور المنتظر وضعه أمام امتحان الاستفتاء الشعبي في الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، أما ثالثها فهو يتمحور حول سؤال جوهري: هل يملك نواب الجبهة الجرأة على تسليم مفاتيح مكاتبهم لرئيس المجلس والتخلّي عن المقعد الذي تأكدت الشكوك التي كانت تحوم حوله في السابق، بدلائل اعترف بها زميل لهم في قبّة البرلمان وفي التوجّه السياسي واللّون الحزبي؟

أما رابع المؤشرات، فهي تتصل بموقف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، اليوم، حيال التصريحات التي أدلى بها كل من طليبة وولد عباس، فهل تغيّر من نظرته لنواب برلمان بوتفليقة المشكوك في نزاهتهم؟

فضيحة وإحراج

سياسيًا،انتجت هذه التلاعبات مؤسّسة نيابية "فاشلة ومنقوصة المصداقية، سواءً في القوانين التي صادقت عليها أو المسارات التي دعمتها"، إذ يأخذ النقاش حول دور البرلمان في المصادقة على فصول الدستور المقبل مشروعيته من الفضيحة التي تم الكشف عنها، منحىً آخر، كما قالت الناشطة الحقوقية، سعاد بن طالب لـ "الترا جزائر"، بحيث يُصبِح من المحرِج للرئيس تبون السماح للبرلمان بمناقشة الدستور.

وتساءلت بن طالب، عن توقيت تحرّك العدالة لإدانة نواب الجبهة الحاليين؟ أليس أصل الفساد التزوير، والعدالة الجزائرية هي اليوم لازالت في بدايات فتح ملفات الفساد منذ أزيد من عشرة أشهر؟ خاصّة أن هناك ملامح رفض شعبي وسياسي وتجدّد المطالبات بحل البرلمان لأنه لم يبق له أي معني أو مصداقية، وتبين أنه كان نتاج تلاعب وليس له أي صدقية شعبية، تقول المتحدّثة.

هذه الأطروحات برأي المختص في العلوم السياسية محمد نطاش، بإمكانها أن تلعب دورًا أساسيًا في الاستفتاء الشعبي؛ إما بعزوف انتخابي على مسودة الدستور المقبل، بالنظر لتشكيلة البرلمان الحالي وبنيته الهشّة على أنقاض المال والبيع والشراء، أو بإقبال شعبي، إن تحرك الرئيس تبون واتخذ قرارات حاسمة حيال القضية، كما قال.

قانونيًا، من الناحية الإجرائية، فإن الرئيس ملزم بتمرير الدستور على غرفتي البرلمان للمصادقة عليه قبل عرضه للاستفتاء، وهذا سيضع الرئيس في حرج، ويفقد بذلك الرئيس تبون شعبية أخرى ومشروعية من الشعب، خصوصًا لوثيقة الدستور التي تعتبر في نظر المختصين في القانون "روح القوانين" والمخطط لمسار الدولة السياسي والتنظيمي.

لأجل "جزائر جديدة"

في المقابل من ذلك، كلّ التوقعات تؤكّد أن الرئيس سيكون ملزمًا بهذا الإجراء، وتمرير الدستور على غرفتي البرلمان، وهو ما صرح به كل من رئيس المجلس الشعبي الوطني سليمان شنين، ورئيس مجلس الأمة بالنيابة صالح قوجيل، اللذان أكدا أن الفاتح تشرين الأوّل/نوفمبر "بداية صفحة للجزائر الجديدة".

في قراءة أخرى، يرى البعض أنّ مناقشة الدستور من نوّاب برلمان فاقد لشرعية الانتخابات الشفافة، مرتكز مهمّ للسلطة السياسية، كما قال الأستاذ نطاش إذ تستفيد الأخيرة من طبيعة البرلمان الحالي وتركيبته الموالية لها، والذي لا يرفض لها أي طلب، لتمرير ليس الدستور فقط ولكن أيضًا قوانين الانتخابات والأحزاب والجمعيات والتي ستكون أساس لهندسة الخارطة السياسية مستقبلًا.

رئيس الجمهورية أمام فرصة إعادة ترتيب بيت مجلس نواب الشعب وتطهيره

على العموم، فإن مستجدات المحاكمات تطرح فرضية جديدة، تفيد أن الرّئيس تبون بإمكانه أن يكسِب نقاطًا أخرى، بعد أن قدّم وعودًا بمحاسبة الفاسدين والتحقيق في أيّ ملف فساد تمّ التبليغ عنه، وهو ما يفتح الباب اليوم أمام تكهّنات تقضي بأن رئيس الجمهورية أمام فرصة إعادة ترتيب بيت مجلس نواب الشعب وتطهيره، أو اتخاذ إجراءات قبل أن يفرِج عن مسودّة الدستور واسترجاع ثقة الشعب المفقودة منذ سنوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدستور الجزائري.. هل سيكون على مقاس تبون؟

مشروع تعديل الدستور ..هل يتنازل الرئيس عن صلاحياته؟