11-يناير-2024
(الصورة: فيسبوك)

من احتفلات آيراد بولاية تلمسان (الصورة: الشروق)

يحتفل العديد من سكان منطقة آيت سنوس ذوي الأصول الأمازيغية في تلمسان، شمال غرب الجزائر باحتفالية "آيراد" التي تتبنى طقوسًا خاصة بأهل المنطقة، كما تعد تسمية آيراد كلمةً أمازيغية تعني "الأسد"، وفي العادة، تمتد هذه الاحتفالية بين العاشر والثالث عشر من كانون الثاني/جانفي من كل عام، حيث ترتبط ارتباطًا وثيقًا باحتفالات رأس السنة الأمازيغية التي تعلن موسمًا فلاحيًا جديدًا كل عام.

يتكفل بعض الرجال في منطقة بني سنوس بولاية تلمسان بصناعة ألبسة خاصة بهذه المناسبة في مكان سري لا يطلع عليه السّكان كبيتٍ مهجور أو مغارة بعيدة عن الأعين

يتموقع سكان منطقة "آيت سنوس" أو"بني سنوس"  في "الغابة" الغربية، أي في كامل الهضبة الجيرية في أعالي تافنة الممتدة عبر الجنوب الغربي لتلمسان، وتمتاز هذه المنطقة ببيئة قاسية وباردة جدًا شتاءً، حيث تتساقط فيها الثلوج ويتشكل على أراضيها الجليد غالبًا خلال الشتاء، كما ينتشر النشاط الزراعي والرعوي في هذه المنطقة نظرًا لطبيعتها، وتمتاز أيضًا بمخزون جوفي كبير للمياه، ويحتفظ سكانها بطابعهم القروي وعاداتهم وتقاليدهم حتى مع وجود العديد من المناطق التي هُجرت وبقيت خالية من السكان.

 

التحضيرات الأولية قبل "آيراد"

 

مع اقتراب بداية العام الأمازيغي الجديد، تتكفّل نساء بني سنوس بتحضيرمختلف أنواع الطعام التي تعتمد أساسًا على خيرات الأرض، تمامًا مثلما يحدث في بقية احتفالات الأمازيغ عبر مختلف المدن الجزائرية، وتتفنن الأيادي الشابة والمُسنّة على حد سواء في فتل الكسكسي والبركوكس، فمع بداية الاحتفال، يتم ذبح دجاج من خم المزرعة، وبعض رؤوس الماشية، إضافة إلى توزيع الأطعمة المحضّرة واللحوم على الفقراء والمحتاجين، كما يجري تبادل هذه الأطباق بين الجيران والأقارب وعابري السبيل في مشهد تكافل اجتماعي كامل بنيت عليه عادات هذه العوائل منذ القدم، ويستمر تحضير ولائم العشاء بطهو "الثريد" و تزيين "الطّْبقْ" الذي يحتوي على مختلف أنواع المكسرات، الحلوى، التين المجفف والبيض المغلي والخبز، كما يتم في صباح العام الجديد تحضير البغرير والمسمن.

بعد ذلك، تتخذ طقوس "آيراد" منحى آخر، حيث يتحوّل الاحتفال إلى مشهد مسرحي كبير ركحه ساحة القرية ومنازلها، ويتم ابتداع لوحات فلكلورية في مظهرها وتكافلية في باطنها، حيث يولي سكان المنطقة اهتمامًا كبيرًا بكل تفاصيل"آيراد"، نظرًا لرمزيته التاريخية والاجتماعية والثقافية المتوارثة جيلًا بعد جيل، كما أنه يُعتبر فُرصة الجميع لإظهار التماسك والترابط بين أهالي هذه القرى، إضافة إلى إبراز العادات الحميدة التي يفخر بها الأمازيغ كمجتمع مصغر يمجد ممارساته الاجتماعية.

شخصيات "آيراد"

مع اقتراب العاشر من كانون الثاني/ جانفي، يتكفل بعض الرجال الذين يتراوح عددهم بين 7 و15 شخصًا بصناعة ألبسة خاصة بهذه المناسبة في مكان سري لا يطلع عليه السّكان، كبيتٍ مهجور أو مغارة بعيدة عن الأعين، حيث يبدع كلّ منهم في تزيين شخصيته المعروفة في هذه الاحتفالية، مستعينين في ذلك بخياطة بدلات تنكرية بسيطة من جلود الماعز وقرونها، إضافة إلى مسبحات خشبية في انتظار حلول أول ليلة من "آيراد"، أو "ناير".

قبل ذلك، يشارك الأطفال في عدة نشاطات تحضيرًا لـ "آيراد"، يطلق على نشاطهم هذا اسم"آيراد الأصغر"، وتليه مباشرة طقوس "آيراد الأكبر" التي يكون أبطالها أولئك الرجال الذين كانوا مجتمعين في مخبئهم.

يبدأ هؤلاء الأطفال نشاطهم خلال الليلة الأولى من "آيراد"، الموافقة للعاشر من يناير، حيث يحتفلون بالأغاني والأهازيج والأدعية التي يقلدون فيها الكبار وطرقهم في إلقائها، كما يطوفون ببيوت القرية راقصين وفرحين ومطبلين على آلة البندير، ويختارون توقيتًا معينًا عند الغروب لفعل ذلك، أي بين الليل والنهار، إضافة إلى أنهم يصنعون لأنفسهم أقنعة وملابس شبيهة بملابس الرجال الذين سبق ذكرهم، ويقصدون مختلف البيوت للحصول على الصدقات والخيرات إلى حين حلول الظلام وهروبهم خوفا من "آيراد الأكبر".

بعد ذلك، يتخذ الرجال أدوار تلك الشخصيات الغريبة، فتحسّ وأنت تشاهدها بأنك تشارك في مشهد مسرحي تلعب فيه كل منها دورًا مهمًا في إتمام هذه العادة، فنجد من بينها مثلًا الرجل الذي يتّخذ دور الأسد "آيراد"، حيث يكون ملثّم الوجه بقناع من جلد الماعز، يلبس المسبحة الضخمة حول عنقه، سترة و"بليغة"  تسمّى محليًا "بومنطل"، تكون مصنوعة من الجلد نفسه، وسروالًا بسيطًا وعريضًا من القماش، إضافة إلى حصوله على حزام منسوج من طرف نساء المنطقة من مادة الحلفاء، يلفه على خصره، أو يتم ربطه في بعض المرات بسلسلة من الحديد ليكون أكثر هيبة فيخافه السكان، ليمسك بطرفها شخص مرافق له يلعب دور "المقدّم"، أي المرشد.

طقوس ليالي "آيراد"

في ليلة العاشر من كانون الثاني/ يناير،  يجتمع هؤلاء الرجال في مكان سري آخر تفاديًا لفضول السكان، ويتم الاتفاق على الاجتماع في ساحة القرية التي تمثل لهم أوّل حقل كان يصلح للزراعة في قديم الزمان، أي أول مكان منح خيراته لأهالي الدوار، ثم يتسللون خفية إلى هناك، لأن من تُفضح هويته سيحرم من المشاركة في السنوات المقبلة.

يبدأ الناس في القرية بسماع ضربات البندير كإشارة على وصول الشخصيات و"آيراد"، حيث تجتمع كلها في مزار من مزارات الأولياء الصالحين في المنطقة، فيتحول المشهد إلى شبه ممارسة دينية مباركة يشارك فيها الجميع، بداية من هؤلاء الملثمين إلى بقية سكان القرية الذين يجتمعون حولهم مهللين وفرحين بقدومهم، وبحلول السنة الجديدة بكل خيراتها.

يتقدم بعد ذلك هؤلاء نحو البيوت وهم يرددون عبارات مثل"حلو بيبانكم رانا جيناكم"،  وعندما يجدون أي بابٍ مغلق، يستهجنون ذلك الفعل ويرمون الحجارة على مدخل البيت مرددين عبارات سيئة في حق صاحبته.

أما إذا كان الباب مُواربًا، فتدخل شخصية تمثل اللبؤة التي يطلق عليها اسم"البيّة"، ثم يليها مرافقوها ما عدا "آيراد" الذي يبقى خارجًا لبعض الوقت ليستمر الرقص، فجأة تسقط اللبؤة على الأرض ويلتزم الجميع الصمت.

هنا، يدخل "آيراد" غاضبا لوقوع "البية"، يقترب منها ويرش على وجهها مسحوقًا أبيض اللون، وحينما تنهض يعاود الجميع الرقص تحت أهازيج خاصة يردد فيها الحضور كلمات : "الشبلالك، الشبلالك" ما يعني "احمل محبوبتك وراقصها".

بعدها، يتقدم "آيراد" نحو ربة البيت ليحييها، فتضع بدورها ما جادت به من فواكه ومكسرات وحلويات وغيرها في "قلمون" أو "قبعة قشابية" المقدم، الذي يمنح بدوره دعوات كثيرة، لها ولأهل القرية ولكل ناس الخير، متمنيًا للجميع سنة من الخيرات والملذات، ثمّ يتكرر هذا المشهد مرات ومرات، وتمتد هذه الطقوس لثلاث ليالٍ متتالية، تنتهي بصلاة جماعية في آخر ليلة، يدعو الجميع فيها بحدوث لقاء جديد في العام المقبل.

"آيرادالتكافل الاجتماعي

رغم وجود بعض الأصوات الداعية لإلغاء مثل هذه الاحتفالات، تبقى طقوس"آيراد" عادات محليّة راسخة، وبعيدًا عن الفتاوى الدينية التي يُطلقها البعض من حين لآخر، تبقى هذه المناسبة، من أبرز التمظهرات التي تعتمد على مشاهد مسرحية ترفيهية ابتدعها الأجداد للترفيه عن أنفسهم ولتغيير مشاهد الصدقات والأعمال الخيرية إلى ما هو أحسن.

 كما أنه مناسبة يزدهر فيها التكافل الاجتماعي في المجتمعات الأمازيغية بكل جماله، إن "آيراد" هو تذكير سنوي مهم لكل سكان المنطقة ومختلف التجمعات البشرية باختلاف مواقعها الجغرافية، بضرورة الاستمرار في خدمة الأرض واستخراج خيراتها والاختفاء بما تجود به الأرض والطبيعة، ومشاركة هذه النعم مع كل محتاج وفقير.

يعتبر "آيراد" فُرصة لإظهار التماسك والترابط بين أهالي هذه القرى، إضافة إلى إبراز العادات الحميدة التي يفخر بها الأمازيغ

مثل هذه المناسبات، تدفع المجتمع الجزائري بشكل عام، والأمازيغ بشكل خاص دائمًا إلى البحث عن كل ما يربطهم ويجمعهم، بعيدًا عن طقوس "الفردانية" التي جاء بها العالم الحديث ليقضي بها على كل هذه المظاهر الجماعية الجميلة التي تكاد تندثر.