مع غروب الشمس، تشرئب أعناق سكان قرية الرواقد أولاد بوعون بمشتة طاقة، ببلدية سريانة، ولاية باتنة شرق الجزائر، وكل المداشر المتاخمة لها، صوب جبل مغارة ثاوريرت، وتعني الهضبة المتوسطة بالشاوية، لترقب رخصة الإفطار المتأتية من شعلة النار الملتهبة، التي يوقدها الصالح راقدي، 73 سنة، معلنًا حلول موعد كسر الصيام، لقرى المدينة العريقة سريانة، التي كانت تسمى "لاميڨيقا" في عهد الرومان، ثم اسم الطبيب الشهير باستور زمن الاستعمار الفرنسي.
ليس مألوفًا أبدًا أن يلجأ الرجل إلى طقس الشعلة الرمضانية في زمن التكنولوجيا والهاتف الذكي والثورة الرقمية
يداوم، الصالح راقدي، منذ سنوات طويلة على طقسه اليومي الذي لا يحيد عنه قيد أنملة، فقبل ربع ساعة عن موعد آذان المغرب، يخرج من بيته، الواقع بدوّار الرواقد بمشتة الطاقة، وحيدًا، أو رفقة أحد أبنائه، حاملًا معه تبنًا يتبرع به الفلاحون والأهالي، مداعبين إيّاه "اسرق لنا خمس دقائق من وقت الشرعي للإفطار يا أبا لهب"، فيمضي ضاحكًا من الدعابة، مستظهرًا مادة المازوت والولاعة وأعواد الثقاب. يصعد إلى هضبة جبلية تبعد عن الرواقد بزهاء الكيلومترين، وتهيمن على القرى من علو 600 متر. يراكم التبن على هيئة هرم، عند سفح المغارة، يراقب ساعته، ثم يشعل الموقد معلنا ساعة الإفطار.
يبدو، من غير مألوف البتة، أن يلجأ الرجل إلى طقس الشعلة الرمضانية في زمن التكنولوجيا والهاتف الذكي والثورة الرقمية، كما يبدو الأمر غريبَا نوعا ما فأغلب الديار تملك اليوم، الكهرباء والغاز ومسجدين يرفعان الآذان خمس مرات في اليوم، لكن الصالح راقدي يفصح إلى "الترا الجزائر: "بات هذا التقليد شخصيَا لي، وعائليَا لكل سكان الجهة، أفعل هذا طيلة أيام رمضان وفجر العيد، لأعلن للناس موعد الإفطار وقدوم عيد الفطر" أراجعه بأن هناك مساجد وتلفزيونات وهواتف نقالة فيرد باسمًا: "هذا صحيح، غير أن هنالك مناطق و مداشر وبيوت متفرقة، لا يمكن أن يصلها صوت المكبرات، كما تنقطع الكهرباء أحيانًا، وهذا يعني أن لهذه الطريقة البدائية ما برر ابتكارها، ويبرر استمرارها مع الزمن".
طبعًا يؤدي الصالح راقدي، رب عائلة تتكون من خمسة أولاد وثلاث بنات، والذي تقاعد منذ أربع سنوات من مؤسسة الإنجازات الصناعية، بسريانة، التي أنشأها وزير الدفاع الراحل خالد نزار، عرفانًا لتضحيات أبناء منطقته خلال الثورة، لتكون متخصصة في صناعة الذخيرة الحربية، هذا الوقف الرمضاني، منذ عقود طويلة، بمحبة وثقة وقناعة واطمئنان، وأكثر من ذلك فإن "النار المباركة" تتخذ لديه طابع "التركة العائلية" أو "تراث الأسلاف"، الواجب نقله للآخرين، ولأن ذاكرته خصبة فهو يحفظ كل ما يتعلق بتاريخ "الشعلة المقدسة" من لحظة الميلاد، دون أن يتمنى لها النهاية ولو بعد رحيله.
الميلاد: ثورة الأوراس
يضيف الصالح راقدي لـ"الترا الجزائر" مستجمعًا عصارة ذاكرته: " أول من بدأها هو جدي الشيخ راقدي محمد الطاهر، وكان معلم قرآن، بدأت كما يروى الناس في رمضان من العام 1916".
تزامن ميلاد هذه الطريقة مع ثورة الأوراس 1916 ضدّ الاستعمار الفرنسي الفرنسي، وقد هزت تلك الثورة ربوع المنطقة بعنف زعزع الكيان الاستعماري، سامحة بظهور رموز مقاومة مثل البطل الأسطوري عمر أو موسى بجبل مستاوة، وابن النوى زَرقُ العين، لكن ظهور الشعلة لم يكن متعلقًا بها، كأن تكون إشارة حرب مثلًا، بل كانت مجرد شيفرة نارية صامتة تعلن للناس دخول وقت صلاة المغرب.
يستطرد قائلاً: " في تلك الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى لم تكن ثمة وسائل اتصال أو تلفزيونات ولا هواتف، فلم يجد جدي من وسيلة لأعلام الناس سوى هذه النار، وهي طريقة لجأ إليها الشيخ محمد الطاهر من باب فعل الخير ومساعدة الناس خلال هذا الشهر الذي يحظى بقداسة دينية عظيمة لدى الجزائريين خصوصًا، والمسلمين عمومًا".
يصطلي موقع النار في هضبة، يطلق عليها "ثاوريرت" أو ياورير، وبالتالي فإن موقعها استراتيجي للغاية، إذ تبدو كما ظهر ديناصور ناتئ يتسنى رؤيتة من الديار المبثوثة في الكتلة السهلية المنخفضة، ففي حالات الصحو الظاهرة تتجلى الشعلة أو "المزهار" بلغة الناس المحكية على مسافات تقارب 20 كلم.
يشرح صاحب النار، التفصيل المهم: "من تلك الهضبة حيث غار ياورير، تُرى نار الإفطار من مناطق ممتدة من مدغاسن حتى زانة أولاد سباع حيث الآثار الرومانية لمدينة ديانا فيتيرانوروم، كما تشاهد، حتمًا، من المشاتي القريبة من مشتة الطاقة ببلدية سريانة، ولأنه كلما ارتقى الإنسان اتسعت زاوية النظر، فقد قمت بتغيير مكانها نحو موقع أعلى حتى يتسنى لعدد كبير من ساكني القرى أن يروها، وطبعًا ساهم لجوء الناس لزراعة الأشجار و مد البنيان في حجب الرؤية نوعًا ما، فشرّع تغيير مكانها مجال رؤيتها حتى جهة ذراع لقبور وثنية السدرة، و لازرو، التي تقابلها منطقة بئر الشهداء التابعة لأقاليم ولاية أم البواقي، لا يجب أن ننسى أيضًا أن هناك مداشر تابعة لولاية ميلة غير بعيدة عن نطاق الجهة".
سَنَدْ: وليّ العهد
قبل أن تنتقل هذه المهمة إليه، أشرف على هذه المهمة ثلاثة أشخاص من بعد جده، وهم مقواس مسعود و مقواس مرزوق و محمد بومجان، بمعدل عشرين عاما لكل واحد منهم، لذا لا يبدو الرجل مستعدًا البتة للتخلي عنها بعدما آلت تلك الرسالة المعنوية إليه. يقول إلى "الترا الجزائر": " مرت ثلاثون سنة عن أول شعلة أوقدتها، يمر العمر سريعًا، لكن ما أسعد من يفعل الخير. وما دمت قادرًا على صعود الجبل فلن أتوقف عن ذلك. في أول يوم من رمضان 2024، اصطحبت معي ابني سَند الذي يدرس في السنة الرابعة ابتدائي. لقد ساعدني في إشعال المزهار، بعدها سألني ببراءة " لا قدر الله إذا متّ يا أبت من سيتولى هذا العمل من بعدك؟ فأجبته وأنا أشير إليه: أنت ".
سألت ابنه كمال وهو مستثمر فلاحي ، 33 سنة، أنتج قبل أعوام بطيخًا ملونًا بسهل ملال، عن هذا التقليد الغريب، بما أنه كان يرافق والده مرارا عندما كان طفلا، في عمر سند، فأجاب ألترا الجزائر: " كنت وأنا طفل صغير أرافق أبي إلى هناك إلى غار جبل ياورير، نأخذ معنا شيئا من التمر أو حبة زلابية، يشعل والدي النار ثم يكسر صيامه ونعود قافلين للبيت مسرورين بما نفعل".
بشيء من الحسرة الممزوجة بالحنين يضيف: "في تلك الفترة كان كل الناس يترقبون نار مغارة ياورير، أما اليوم فقد تغيرت الأمور كثيرًا، لم تعد الشعلة تسترعي اهتمام الناس، فلديهم هواتف ذكية، تصور أفلامًا وتنتج مواد رقمية مذهلة، وتطلع الناس بمواعيد الصلاة وأحوال الطقس قبل أسبوعين، لذا لم تعد شعلة ياورير تحظى بمكانة الزمن الماضي".
كأنه يستذكر أمرًا مهما استرجع "على الرغم من ذلك فإنها تصنع جوًا رمضانيًا خالصًا، أمس فقط وأنا أتهيأ للدخول رأيت أطفالًا يرقبون موعد قدح النار، فعلمت أن والدي هناك رفقة أخي الصغير سند. عندما اندلعت ألسنة اللهب رأيت الأولاد يصرخون ويجرون مرحين نحو البيوت لتبليغ الأهالي: حان موعد الإفطار. حان موعد الإفطار. فابتسمت لأن ذلك ذكرني بطفولتي السعيدة وببركة رمضان في الأعوام الخوالي".
مائدة إفطار سنوية
فيما لا يزال العم صالح راقدي مواظبًا على عادته كي لا تنطفئ قصة تسليم الشعلة للأبناء والأحفاد، كما لو أنها شعلة الألعاب الأولمبية التي نشأت بجبل أولمب المقدس وظلت تنتقل من جيل إلى آخر، دون أن تخبو نارها، تساهم الحركة الجمعوية في الاحتفاء بذلك التقليد الرمضاني ولو من باب منحه بعدا احتفاليًا واجتماعيًا يتكرر خلال الشهر الفضيل كل عام.
يقول مراد بطّاهر رئيس جمعية فرسان الخير طاقة أولاد بوعون في حديث إلى "الترا الجزائر": "أصدرنا قبل فترة أفيشًا لمطوية كرّمنا فيها العم الصالح راقدي من خلال وضع صورة مكبرة له تكريمًا له على صيانة هذه العادة، التي تنم على الحرص على تقليد الجد الأول، وتشير لطيبته ومثابرته على خدمة الآخرين، فهو جّراء عمله الخيّر، آخر من يفطر في بيته وسط أسرته، عندما يعود من جبل ياورير يكون السكان انتهوا من مائدة الإفطار العائلية. لا يجب أن ننسى فضل العم صالح الذي أخرج هذه العادة من النسيان للعالمية فقد تقاطرت على قريتنا قنوات كبرى مثل الجزيرة والتركية وعدة مواقع إخبارية دولية".
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يعقب رئيس الجمعية الخيرية " كان الناس فيما مضى يصعدون رفقة مشعلي النار لمساعدتهم والإفطار سويًا عند المغارة، وجريا على المنوال، ننظم كل عام، وفي آخر يوم من رمضان إفطارًا جماعيًا يلتئم فيه العشرات من الصائمين حول تلك النار، فتكون المائدة جماعية، يحضر فيها كل فرد شيئا من طبيخ الدار لنتقاسمه، احتفاءً بتلك العادة التي بلغت هذا العام 108 أعوام، بالتمام والكمال، وتحقيقا لفضيلة التشارك، لأن رمضان هو شهر الرحمة والمؤاخاة الوجدانية والروحية".
الصالح راقدي لـ "الترا جزائر": في تلك الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى لم تكن ثمة وسائل اتصال أو تلفزيونات ولا هواتف، فلم يجد جدي من وسيلة لأعلام الناس سوى هذه النار
خلال رمضان الفارط 2023، اجتمع قرابة مائة نفر من سكان القرى الواقعة بدائرة سريانة في مدار جبل النار بمغارة ياورير، أما في هذه السنة، فقد عقدوا العزم على إعداد إفطار ضخم في آخر يوم من شهر الغفران كما جرت العادة منذ قرن وعقد من الزمن.