11-مارس-2024
قسنطينة

تعتبر الأسواق القديمة روح مدينة قسنطينة (الصورة: الترا جزائر)

يمكن اعتبار منطقة وسط مدينة قسنطينة بشكل عام فضاءَ تسوّقٍ مفتوح يتوسّط السّكنات القديمة والشوارع الضيقة التي تحكي كُلٌّ منها أساطير وحكايات لا تُحصى، إذ تتوزّع الأحياء والممرّات التي تختصّ في بيع العديد من السلع التي تجدها حصراً هناك، إضافة إلى أبرز الأسواق الشعبية المغطاة والمفتوحة التي تتوزّع عبر المدينة العتيقة.

مع حلول شهر رمضان، يزيد النشاط في أسواق قسنطينة، لأن الجميع يقصدون المدينة لاقتناء كل ما يميز شهر رمضان ومتطلباته، حيث يتمّ إحياء التقاليد والموروث الشعبي المتعلق بهذه الشعيرة الدينية التي يوليها القسنطينيون أهمية كبيرة

مع حلول شهر رمضان، يزيد النشاط وتكثر الحركة هناك، لأن الجميع يقصدون المدينة لاقتناء كل ما يميز شهر رمضان ومتطلباته، حيث يتمّ إحياء التقاليد والموروث الشعبي المتعلق بهذه الشعيرة الدينية التي يوليها القسنطينيون أهمية كبيرة.

فرغم وجود العديد من المولات الحديثة والأسواق الكبرى التي انتشرت بشكل كبير في ضواحي المدينة، تبقى هذه الأحياء والأسواق أكثر مكان يفضله محبو نكهة رمضان الفريدة، حيث لا يستغني الناس عن ارتياد "سوق العصر" و"السويقة"، "رحبة الصوف" و"رحبة الجمال"، إضافة إلى سوق "بومزو" في ساحة لابريش وسوق "بطو عبد الله" عند مدخل حي سان جان وغيرها من الأماكن التي تشعر فيها بحق أنك عدت بالزمان إلى سنوات طفولتك، وقت كُنَّا نستشعر تلك الحميمية و نشم "ريحة" رمضان ونحن نمشي في طرقات المدينة لنستمع إلى حكايات يقصها السّكان، وحتّى الجدران المهدمة التي تخفي كل منها قصّة ما عن تاريخ هذه المدينة.

سوق العصر

 يقع "سوق العصر" في المدينة القديمة بين ثلاثة أحياء، السويقة، حي تيار "الحي اليهودي" قديما (طاطاش بلقاسم حاليا)، وحي القصبة، حيث يقابله مسجد الكتانية وعدة منازل عتيقة، من بينها المنزل الذي ولد فيه العلامة عبد الحميد بن باديس.

يعدّ سوق العصر من بين أقدم الأسواق التي ما تزال نشطة في مدينة قسنطينة، كما يعتبر هذا المكان المفعم بالأصالة والمحافظ على شكله الأصلي منذ سنوات، من أقلّ الأسواق تكلفة، لهذا تقصده مختلف العائلات القسنطينية، خاصة المعوزة منها، قصد الحصول على مختلف المواد الغذائية والخضر والفواكه، وكل أنواع الحلوى التقليدية بمختلف نكهاتها مثل الجوزية والنوڨة واللّوزية، إضافة إلى المكسرات، ومختلف التوابل التي تستعمل في طهو أشهى الأطباق القسنطينية.

 هناك، تجد أيضاً محلات الأفرشة التي ما تزال تقدم خدماتها منذ عشرات السنين لتزيين الصالونات القديمة منها، وذات الطراز الحديث أيضا، حيث تتوفر على مختلف أنواع الأقمشة بداية من الجلود إلى "البروكار" مرورا بالستائر وكل ما يؤثث جلسات العائلات القسنطينية الدافئة حول صينية قهوة العصر خلال السنة، وكلّ ما يدخل في تحضير ولائم الإفطار العديدة التي تزين السفرة في كلّ يوم من أيام الشّهر الفضيل، وخلال  المواسم الدينية والمناسبات الاجتماعية التي توفر لها العائلة القسنطينية كل العناية والاهتمام.

حي السّويقة

سُمّيَ هذا الحيّ باسم "السويقة" ، وهو تصغير لكلمة سوق، ما يعني السّوق الصغير، وتعود نشأته إلى العهد العثماني، حيث يتوسط مثلثا مغلقا، يحده شرقاً وادي الرمال، ومن الجنوب الغربيّ جسر "سيدي راشد"، والطريق الوطني القديم شمالاً، وهو كأغلب الأسواق في المدينة، مخصّص للرّاجلين فقط نظرا لضيق طرقاته.

يمكنك ارتياد حي السّويقة من عدة مداخل، لكنّ من يريد ولوجه بشكل سلس، عليه أن يختار مدخل "الشطّ"، المحاذي لدار الإبداع أو " المدرسة" قديما، من هناك تبدأ رحلتك في التوغل نحو قلب المدينة القديم، حيث تقابلك في البداية محلات مغلقة وأخرى ما تزال مفتوحة، تقدم خدمات مختلفة قد يكون معظمها اختفى مع مرور الزمن في أماكن أخرى، كما أن هذا الحي كان يقتصر قديما على الرجال دون النّساء، إلا أنّه اليوم يجمع الجنسين مع تغيّر التّقاليد عبر السنوات.

عند التوغل في "السويقة"، تصادفك محلاتٌ عديدة على مدّ البصر، عند جانبي الحي الذي تتوسطه طريق ضيقة من الحجر الأزرق الذي ما يزال يقاوم كل الظروف المناخية والأذى البشري، فهناك من يبيع ألبسة مستعملة، وهنالك الإسكافي الذي ما يزال يرقّع الأحذية على الطريقة القديمة، محلاتُ تصليح المعاطف الجلدية، إضافةً إلى كُتّابٍ عموميين متفرقين عند الطريق المؤدية إلى حي "البطحة"، محلات البقالة التي تبيع كل ما هو نادر خارج السويقة، محلات التوابل ومشغولات خشبية وأخرى من الحلفاء، ومشاغل الخياطة القديمة التي تجد فيها بعض الشيوخ وأبنائهم الذين ما يزالون محافظين على مهنة آبائهم، بنظّاراتهم الصغيرة حاملين الخيط والابرة، حيث تعبق روائح زيت ماكنات الخياطة في مشهد نادر، وسط بيوت عديدة، تقع تحت رحمة أشغال الترميم التي ما تزال متوقفة منذ سنوات.

حين تصعد الدرج نحو "السويقة"، تصادفك مطحنة "الشطّ" أو "الرّحى"، أقدم مطاحن قسنطينة التي توفر طيلة السّنة مختلف أنواع الدّقيق والبسيسة والمكسرات، إضافة إلى توابل مختلفة، مع توفير خدمة الطحن في كلّ ساعات اليوم، حيث تقصده النساء خاصة خلال أواخر شعبان للحصول على مؤونتهن من "الفريك" ومختلف التوابل الطازجة التي تستحضر مع روائحها شهر رمضان.

عندما تستمر في المشي، تصادفك عدة طاولات لجزارين يبيعون مختلف أنواع اللحوم بأسعار منخفضة نسبيا مقارنة مع محلات الجزارة خارج السويقة، إذ يقصدها العديد من أرباب العائلات في أيام شعبان الأخيرة للحصول على اللحوم الخاصة بالجاري فريك والأطباق الحلوة المالحة التي تميز أولى أيام رمضان في المدينة.

يعد حي السّويقة من أقدم الأسواق الموجودة وأكثرها قداسة لدى القسنطينيين، ولعل هذا الحي هو أكثر مكان يحمل على كاهله ذاكرة قسنطينة المحكية أو المسكوت عنها.

رحبة الصّوف

سُمّي حي رحبة الصوف بهذا الاسم من طرف الأهالي قديما لأنه كان يضمّ سوقاً لبيع الصوف، كما أُطلِق عليه بعدها اسم ساحة الفطائر
 " la place des galettes" خلال فترة الاستعمار الفرنسي، حيث كان يحتوي حسب الروايات التاريخية على العديد من الأفران الحجرية داخل المنازل التي كانت تصنع الخبز التقليدي الساخن طيلة اليوم، مثلما ورد في شهادة الكاتب الفرنسي لوي ريجي في كتابه "قسنطينة، أسفار وإقامات، 1879، وقد شُرِع في تهيئة هذا الحي بداية من سنة 1857.

يعتبر حي رحبة الصوف منذ القديم وجهة النّساء المُفضلة منذ ساعات الصباح الأولى، كما أنه سوقهنّ الخاص الذي يلبي معظم احتياجاتهن، بما أن مساحات التّسوق الأخرى كانت غالباً حكرا على الرّجال، كما أنه يحتوي إلى غاية اليوم على محلات موزعة تباعا عبر طرقاته الضيقة، تبيع كل منها العديد من لوازم الخياطة والتطريز والحرج التي تستخدم في تجهيز العرائس وخياطة أفرشة الصالونات والستائر، وكل ما يهمّ النّساء لمشغولاتهن اليدوية.
هناك، تجد أيضا طاولات باعة البيتزا الشهيرة التي تطهى في الأفران الحجرية داخل البيوت، لتخرج ساخنة وسط رحبة الصّوف وتباع للمارة الذين يكونون في الأغلب نساء تعبن من التجوال والتسوق، فيلجأن إلى ذلك المكان للاستراحة والأكل.

 تصنع هذه البيتزا أيضا وبكميات كبيرة خلال أيام رمضان، حيث لا تخلو طاولات الافطار منها لنكهتها المميزة رغم مكوناتها البسيطة، ويرجح أنها تطهى في نفس الأفران التي كانت تصنع الخبز قديما، كما نجد أيضا في رمضان طاولاتٍ خاصة توضع بعد خلو الحي من الباعة اليوميين، تختص  في تحضير "البوراك" وبيعه من بعد صلاة العصر وإلى غاية آذان المغرب، إضافة إلى الحلويات المختلفة، حيث يقبل عليها الرجال قبل الافطار ويختار كل منهم محتويات "بوراكته" الخاصة.

في رحبة الصوف أيضا طاولات متوزعة وسط الحي لبيع مواد التجميل والعطور، وأخرى لبيع خبز الشريك المصنوع بماء الورد ، وحلوى الماكارون القسنطينية المصنوعة من الفول السوداني، إضافة إلى بعض الباعة الذين يفترشون الأرض ويبيعون ماء الزهر والورد المقطر وقارورات زيت الزيتون والعسل خلال مواسمهم.

رحبة الجمال

يمكن القول بأن هذه المنطقة هي الأكثر إثارة للجدل بين كلّ مساحات التّسوق في قسنطينة، لأنها بقيت محرّمة إلى غاية اليوم على نساء المدينة، فلا يدخلها إلاّ الرجال.

"رحبة الجمال" التي تقول الروايات التاريخية أنها اتّخذت هذه التّسمية لأنها كانت عبارة عن ساحة كبير تلتقي فيها قديما قوافل التجارة قبل الاستعمار الفرنسي، وهي الآن تُجاور مبنى المسرح الجهوي، ولها عدة مداخل، حيث تمتد من الساباط الأول أي "القوس" قدوما من "السيدة"، إلى غاية المدخل المجاور للمسرح، ولديها مخرج يؤدي إلى ما يسمى "الروايال"، وهو عبارة عن "بازار" كبير يضم الكثير من المحلات، كما يوجد مخرج آخر شبه خالٍ ومهدم يؤدي إلى باب الجابية، من جهة جسر سيدي راشد.

قسنطينة

تاريخيا، يعود وجود "رحبة الجمال" إلى القرن الخامس عشر حسب روايات عديدة، وتعني كلمة الرحبة" لغةً المكان التّجاري الفسيح، كانت قد منعت عن النساء - كما هو متداول-  لسمعتها السيئة التي تروي أن الاستعمار الفرنسي أقام فيها المواخير وبيوت الدعارة بعد احتلال قسنطينة، ما جعل الأهالي يمنعون ولوجها على نسائهم.

في "رحبة الجمال" تجد تقريبا كلّ ما يمكن أن يُباعَ ويُشتَرى، كما أنّها سوق "الزّوالية"، أي مقصد الفقراء الذين يجدون أفضل العروض والأثمنة لكل ما يمكن تصوره، من الألبسة والاكسسوارات، محلات بيع الهواتف المحمولة ولوازمها، إضافة إلى أنها وجهة الأطفال والشباب والشيوخ من أجل كسوة العيد، واقتناء الحلويات الرمضانية والعصائر، كما يوجد فيها أيضا الخياطون الذين ينشطون في سطح الفندق الموجود هناك، إضافة إلى باعة الأشياء القديمة.

تشتهر "الرحبة" ب "الحمامصية"، أي محلات طبق الحمص دوبل زيت الشهير، والمطاعم المتفرقة التي تقدم المشويات بكل أنواعها، والطبق الخاص الذي لا تجده خارج "الرحبة"، والذي يسمى "باناشي"، وهو خليط عجيب وغريب لكنه لذيذ، يتكون من عدة أكلات سريعة، منها صلصة الفاصولياء، البيض، البطاطا المقلية والشكشوكة.

سوق عبد الله بطو 

عند ولوج المدخل الرئيسي لحي سان جان “بلوزداد” حاليا، يقابلنا الباب الكبير  لسوق عبد الله بطو وابنه مبارك الشهير، والذي يعد من بين أكثر الأسواق التي توفر سلعا من نوعية جيدة، وأثمان مرتفعة بعض الشيء بالمقارنة مع الأسواق الأخرى.

يشتهر هذا السوق لدى كل العائلات القسنطينية التي تبحث عن جودة المعروضات والسلع، وخاصة النساء الحوامل اللواتي يعانين من الوحم ، حيث يمكن أن يوفر معظم أنواع الخضر والفواكه التي يصعب إيجادها خارج موسمها، كما تجد فيه دائما ما يتعذر وجوده في بقية الأسواق من سلع مستوردة، ولحوم وأسماك، وكل أنواع البقالة والتوابل، إضافة إلى تجار الأسماك الموزعين على زوايا السوق.

سوق عبد الله بطو
سوق عبد الله بطو 

يحتل سوق بطو موقعا استراتيجيا، كما أن له أربعة مداخل مختلفة، وعند كل مدخل تجد طاولات خشبية مزينة في كل مرة بسلع مختلفة، حيث يكتسب مع كل مناسبة حلة خاصة، فتجد عدة تجار هناك يغيرون نشاطهم وما يبيعونه حسب المناسبة، بين شهر رمضان والمولد النبوي والمواسم الدينية والمناسبات التقليدية، إضافة إلى وجود محلات خارجية ملتصقة بالسوق المغطاة، والتي توفر كل أنواع الألبسة الرجالية والنسائية، والأحذية ولوازم الصلاة والبخور والاكسسوارات.

 يتميز سوق “بطو” أيضا بعدد من النساء اللواتي يكسبن قوت يومهن من خلال بيع الأعشاب، حيث يفرشن ألبسة قديمة ويضعن طاولات أو موائدة صغيرة أو أكياس بلاستيك يضعن عليها كل أنواع البقدونس والكرفس والكزبرة والنعناع، إضافة إلى الليمون الطازج في مشهد لا تراه في أي مكان آخر.

سوق بو مزو

ليس بعيدا عن حي السويقة، وتحديدا تحت ساحة لا بريش بمحاذاة "دنيا الطرائف" يقع سوق "بومزو"، وهو سوق مغطى قديم يختص في بيع الخضر والفواكه، إضافة إلى بعض محلات البقالة وبيع مواد التنظيف ولوازم المطابخ، وقسم جانبي يبيع كل أنواع الأسماك والمأكولات البحرية.

في الماضي كان هذا السوق عبارة عن حديقة كان يقصدها السكان للتنزه، ثم قررت السلطات خلال فترة الاستعمار تحويله إلى سوق، ويقال أنه بعد عملية الحفر التي خضع لها أثناء البناء وجد فيه باب تاريخي وهو "باب سيرتا".

سوق بومزو في قسنطينة
سوق بومزو في قسنطينة

كان أغلب تجار "سوق بومزو" أثناء فترة الاحتلال من الأجانب واليهود، كما كانت تتم فيه عمليات بيع الخضر والفواكه بالجملة، أما بعد الاستقلال فأصبح سوق تجزئة، حيث نجد فيه مختلف أنواع المعروضات والسلع بأثمان معقولة نسبيا مقارنة مع سوق "بطو"، إضافة إلى أنه يتميز بمحلات لبيع الطيور والأسماك وغدائها ولوازم تربيتها أيضا، إضافة إلى مقهى صغير وحمامصي قديم يأكل عنده المتسوقون الذي يقصدون المدينة من أماكن بعيدة.
يعاني هذا السوق من تهدمات كثيرة في سقفه، كما أنه خضع للترميم بعد انهيار ساحة اول نوفمبر "لابريش" التي تعلوه، ويجاوره من الخارج العديد من التجار غير النظاميين الذي يفترشون الأرض طيلة اليوم عند مدخليه، ممن يبيعون الخضر والفواكه بأثمنة أقل نسبيا من أثمنة المحلات داخل هذا السوق.