ما من أحد من سكان المدينة أو الولايات المجاورة يجهل هذا المكان الزاخر بألوان التوابل، والعَبِق بروائح البهارات الشرقية النفّاذة، إذ تجلب تفاصيله الصغيرة السياح، ويعود إليه المغتربون لمقيمون خارج الديار، ليس فقط استجابة لسردية نوستالجية لتنشق "رائحة البلاد"، كما يُقال، ولكن لملء حقائبهم بالتوابل المهربة إلى غربتهم المطبخية بفرنسا وإيطاليا وكندا.
يذكر بعض السكان القدامى المقيمون خلف سوق الرحبة بأن التجار كانوا يتخلون سابقًا عمّا تعسر تسويقه للفقراء وصدقات للمحرومين
فهو سوق إذن، يقصده المسكونون بمتلازمة الحنين للتداوي من فخ الذكريات، فيتذكرون الطفولة، والآباء والأجداد الذين ما انفكوا يملؤون، على مدار عقود مديدة، الطناجر والقدور، بأعشاب هذه السوق العريقة طلبًا للنكهة العالقة بذاكرة اللسان، أما إذا حلّ رمضان فتغدو سوق الرحبة كعبة ربات البيوت، بحثًا عن الخلطات اللازمة لمائدة الإفطار ونكهة الفريك الباتني الشهير.
من التمور إلى العقاقير
نشأت الرحبة في مكان آخر غير الذي هي فيه الآن، فقد تأسّست بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في الموقع الذي بني فيه مقر بنك القرض الشعبي بَحْذَاءَ "جامع اليهود"، فاختص أول وهلة كوكالة للبلح والتمور المجلوبة من بسكرة وطولقة، ثم ترسخ العام 1953 سوقًا عامة، احتوت إضافة إلى التمور والغرس، الخضار والفواكه والتوابل.
يذكر بعض السكان القدامى المقيمون وراءه في شارع الأوراس بأن التجار كانوا يبيعون ما تيّسر لهم بيعه طوال النهار، ثم يتخلون عمّا تعسر تسويقه تُركةً للفقراء وصدقات للمحرومين.
خلال السبعينيات، انتقلت السوق من موقعها الأول إلى رحبتها الحالية، بنفس التجار بيد أنها توطّنت في الأعشاب والبهارات والتوابل، وهي العادة التي لم ينقطع عنها السوق الواقع اليوم ما بين المسرح الجهوي المدشن العام 1899، ومحلات الفوّالة، وما بين نهجي غومبيطا، وفيكتور هوغو العامرين بالمارة.
ولأنه المكان الأكثر شرقية في عاصمة الشاوية، فحتمًا سيكون بحوانيت متقابلة تبلغ 43 دكانة، موزعة على رواقين منفصلين. مساحة المحل الواحد ستة أمتار مربعة، ويفصل بين كل رواق ردهة ضيقة قد لا تتعدى خمسين متر طوليًا.
يذكرك هذا بأسواق دمشق والقاهرة وتونس. ولأن زيارة "الترا الجزائر" كانت في يوم بارد ومثلج فقد استقبلنا جمال سكوب قائلًا: "أتذكر كما لو أنها البارحة، قبل أن أتسلم العمل في محل أبي العام 1983، كنت أساعده في الخامسة من عمري، وأذكر أننا كنا نتدفأ بالحطب والفحم الحجري الذي نشعله في بطن قصعة معدنية، يومها لم يكن الغاز قد وصل إلى هنا".
البردقوش و المردقوش
في واقع الحال كل المحلات هنا تدار من قبل عائلات معروفة منذ القدم، سرسار وكاشا وبوضياف وڨوطاي ولبعل وعباس، وقواسي، و الساسي، و عيلي، وغيرها كثير.
فضل الأبناء الأحفاد الاستمرار في مهنة التوابل والتمور والقشقشة، فلا تسمع منهم غير مفردات بعضها مألوفة كالفريك والكركم والسكنجبير و القزبر و حبة حلاوة و المرمز و راس الحانوت، و أخرى غريبة مثل البردقوش و المردقوش و حبة الوسواس، و هي نباتات طبية وعطرية شاعت لدى الإغريق كنقوع لعلاج آلام المعدة والدورة الشهرية و تنظيم الدورة الدموية.
يتفنن التجار العارفون بأسرار العقاقير في وضع البضاعة أمام المارة، كما لو أنك في أسواق نيودلهي وطهران، مرددين عبارات ترحاب طريفة وهم يمدون لك حبات الدقلة: "حلوي باش تولي"، فيقع الزوار في فخ الألوان الحارة والروائح العبقة، أو في أغراء الأدوات التقليدية المعلقة، ملاعق خشبية، و بنادير وشكوات و طواجين الطين و قدور الفخار وقفف الحلفاء.
الشراهة لبنّة الطعام تخلف ازدحامًا كبيرًا إذ قد لا تعثر قدم على موطئ لها خلال شهري شعبان أو رمضان. سألت "الترا جزائر" السيدة الخمسينية حورية، والتي قدمت تبحث عن عولة رمضان المفضلة لديها فأكدت أن المطلوب رقم واحد على رأس لائحة المشتريات هو "بلا منازع الفريك الباتني، لا أقصد مكانًا آخر غير الرحبة لشرائه، دأبت على ذلك منذ الطفولة حيث كنت أجيء هنا مع جدتي ووالدتي رحمهما الله. لا يحلو شهر رمضان دون طبق الجاري المطبوخ بالفريك الباتني".
وتضيف محدثة "الترا جزائر": إنه يبدو أن الرحبة صارت جزءًا من تاريخ ذكرياتي يكفي فقط أن أجيء لأشتري قطة نعناع أو دبشة أو معدونس وأطوف به ليتعدل مزاجي، كما لو أني أشم رائحة أمي الزهرة أو " نانا" كوكا، كلما تجولت بين دكاكينها المضاءة بالمصابيح المعلقة صرت أكثر تصالحًا مع الذات".
أما السيدة صونيا، الستينية، فأوضحت: "أغلب رواد الرحبة نساء، أتولى التسوق من هنا لأن زوجي لا يفقه كثيرًا في الخصائص الدقيقة للتوابل، هذا شأن نسائي خالص، ثم إن التجار لهم خبرة كبيرة، هذا يسهل عملية التفاهم حول النوعية المرغوبة خاصة إذا ما تعلق بنوعية الفريك فهناك الرقيق والخشن".
رحلة الفريك الباتني
بلغت شهرة الفريك الباتني باقي الولايات، حيث يجمع الباعة على هذا، منذ عقود طويلة، ولا يخالفهم في هذا أحد، يقول حسام بوضياف، تاجر في العشرينيات، في حديث إلى "الترا جزائر" إنه "ورثت المحل عن والدي شعبان الذي تعلم عن جدي. منذ 12 سنة وأنا أبيع كل التوابل، لكن الفريك الباتني هو نجم الرحبة، حيث يقصدنا زبائن من العاصمة وتيزي وزو ووهران وتيبازة ومن 58 ولاية لاقتنائه، وهو فريك لا يعتمد على الصبائغ بل طبيعي وهو من القمح الخالص لا الفرينة، ولذلك يخلف مذاقًا أصليًا في شربة الجاري بالفريك الذي يبقى سيد مائدة رمضان بلا منازع".
إيغالًا في خصائص الفريك الباتني يضيف حسام: "حافظ تجار الرحبة على الفريك بخصائصه المعروفة، فهو يجلب قمحًا من مكان واحد لا غير، مصدره من زريبة الوادي بولاية بسكرة، نجلبه من هناك حَبًا ثم نقوم بتصفيته، قبل طحنه بأنفسنا في مطاحن خاصة، بمدينة عين ولمان بسطيف. نقوم برحيه في مطحنة خاصة به، دون غيره من التوابل الأخرى، لا يمكن مثلا أن نطحنه في رحى الكسبر كي لا يختلط برائحته. هكذا تعلمت الطريقة من والدي الذي نقلها عن جدي، ولهذا السبب لا يعلى على الفريك الباتني في الشربة. فهو لا يتلكز ولا يتعجن".
صُنع في الجزائر
أما الشيخ أحمد كاشا وهو واحد من أقدم التجار فيقول لـ "الترا جزائر" إنه "كل ما يلج القدر يخرج من هنا، منذ 1964 وأنا أشارك الناس طعامهم، كل أصدقائي الذين كانوا يبيعون معي توفوا، فخلفهم أبناؤهم أو أحفادهم، الرحبة صارت عائلة تربط بالبهارات عائلات بثلاثة أجيال. سابقًا كنا نجلب بعض البهارات من خارج البلاد من تونس على سبيل المثال، اليوم جل التوابل ذات تربة محلية خالصة، وبعضها تتفوق على البهارات المستوردة من شرق آسيا".
ويعاضده العم لبعل في الرأي قائلًا "رغم أني مريض ومتقدم في السن، ولا أكاد أقوى على الوقوف، فقد آلفت الأخلاط والروائح، صارت هويتي التي لا أعيش دونها.جربت أن أبقى في البيت وأرتاح لكني ما استطعت، أشعر بالفراغ خارج هذه السوق. كما أن التجار يتضامنون فيما بينهم ففي حال غياب أحدهم أو مرضه يتولى آخرون بيع منتجاته التي صارت محلية أكثر من ذي قبل".
يتولى الخمسينيان، كمال نايلي ونبيل قوطاي، تسيير محلاتهما منذ نصف قرن، مكنهما من قياس المتغيرات، بعدما عاشرا من خلف محاسبهما إخوتهم وأباءهم لعقود، كما خبروا رغبات الزبائن، فيتفقان على ما يلي: "جل العقاقير أصبحت جزائرية، فحب القمح المخصص للفريك يجلب من سيدي حامد بزريبة الوادي، أما الكروية وحبة حلاوة فتشترى من مدينة بوسعادة، أما الكسبر أو القزبر فيأتي من أولاد عمار بالجزار قرب ولاية بريكة المنتدبة جنوب ولاية باتنة، أو من عين ولمان، و دون منازع فإن كسبر عين ولمان هو أجود الأنواع و هو يتفوق على أقرانه في العالم. كذلك البسباس والكمون والفلفل الأسود، فكلها توابل نقتنيها من مناطق جزائرية أخرى ومن الصحراء".
ويضيف حسام " كل المبيوع هنا صنع في الجزائر، عدا الزبيب والفواكه المجففة مثل المشماش والكيوي وعين بقرة التي تستعمل في تحضير أطباق الطاجين الحلو أو شباح الصفراء القسنطينية، فهي مستوردة من خارج البلاد".
وطبعًا تستشف من تأكيداتهم المتعلقة بتسويق المنتج الوطني معلومة غاية في الأهمية، قد لا يلتفت إليها أحد، وهي أن هذا السوق يلعب دورا حيويا في حماية تلك المنتجات المحلية من خلال منحها فرصة البقاء والانتشار ونقلها لزبائن من مناطق أخرى في البلاد يقصدون الرحبة على الدوام، بحكم السمعة التاريخية التي تحظى بها.
قشقشة العرائس
الانتقال الجيلي لتسيير المحلات، من الأصول إلى الفروع، خلف نقلة نوعية في النشاط وأنتج ديناميكية جديدة تختصرها تفتح الشبان الجدد على متطلبات الزبائن دون التفريط البتة في هويته الأصلية، يقول عبد الجليل عباس، الشاب العشريني، الذي ورث الصنعة عن جده لألترا الجزائر :" يمكن القول أن الشبان الذين يشرفون حاليا على بعض محلات الرحبة أدخلوا منتجات أخرى تماشيا مع تطور ذهنيات المجتمع الجديد دون المساس بالوظيفة الأساسية لهذه السوق رافعة لواء البهارات في المنطقة، قديما كان التجار يبيعون الكليلة و الفرماس و الأعشاب.
لكن مع جيلنا الجديد، يستطرد المتحدث، أدخلنا بعض التطويرات، فصرنا نبيع الزيوت العطرية و المساحيق و مراهم التجميل والزينة، سواءً المخصصة للجلد أو الشعر، و كذا أغذية التسمين، ومختلف أنواع البقسماط أو " لاشابيلير" المستخدمة كمساحيق لمختلف أنواع الكعك، "إنه نوع من أنواع التلاؤم مع الوقائع الجديدة للحفاظ على الرزق المتوارث، فمن لا يتقدم إلى الأمام يتراجع إلى الخلف، التجارة كائن معنوي يشبه الإنسان و الحيوان، فإذا لا يبدي مرونة في التكيف مع تغيرات المناخ فإنه ينقرض".
ولكيلا تنقرض هذه الحوانيت، يبدو الشبان أكثر رغبة في اقتراح خدمات جديدة تماشيًا مع رغبات الزبائن والزبونات، فعلى سبيل المثال يضيف الشاب الحيوي عبد الجليل بحماسة: "طورنا مثلا قشقشقة العرائس، في السابق لم تكن تتكون سوى من الفول السوداني (الكاوكاو) و حلوى الدْرَاجِي أي الحلوى الملبسة، أما اليوم فصارت أكثر تنوعًا بحلوى أخرى و بمكسرات متنوعة، و نحن نبيعها بمبلغ 400 دج للكيلوغرام الواحد، و نخصص لها قففا تقليدية مصنوعة من الحلفاء وهي تلقى الرواج و الإقبال الكبيرين".
يحرص تجار الرحبة اليوم، رغم تراجع المدخول تبعا لتقلبات الحالة الشرائية للمواطنين، المتضررة هذه السنوات تبعا لمرحلة كورونا وارتفاع أسعار المواد الغذائية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، على البقاء والتطور والفرصة الذهبية كما يقول كلهم هي بركة سيدنا رمضان، حيث لا تتوقف الحركة به، ففي الشهر الفضيل يمكن جبر خواطر الأشهر الماضية، وهو فرصة الاستمرارية، كما لو أن هذه السوق هي روح عاصمة الأوراس التي تأبى الفناء.
تطورت مبان كثيرة في الجوار بحكم أزمات العقار لكن سوق الرحبة بقيت هي الرحبة
تطورت مبان كثيرة في الجوار بحكم أزمات العقار، لكن الرحبة بقيت هي الرحبة، والدليل أنها أغلقت خلال أزمة كورونا مدة عامين كاملين خضعت فيها لترميمات وصيانة، لكنها عادت كما كانت وكأن شيئا لم يكن.