في ساحة "الموڨادور" وسط مدينة معسكر، الواقعة غرب الجزائر، ينتصب تمثال برونزي للأمير عبد القادر الجزائري ممتطيًا صهوة جواده، والمكان الذي شُيِّد فيه التمثال لم يُختر عبثًا، فهو يقابل دار قيادته. وإلى يمينه مقر محكمته، وخلفها مسجد مصطفى بن التهامي، المبني في 1747 والمسمى نسبة إلى أقرب المقربين إليه.
دار قيادة الأمير عبد القادر بها شواهد على فكر الدولة الجزائرية ولوحات تحفظ جهاده ضدّ المستعمر الفرنسي وعبق الصوفية
أمّا إذا عرّجت يسارًا باتجاه زقاق ضيق وتخطيت شارعًا طويلًا، فسيصادفك مسجد يسمى مسجد "البيعة"، الذي هبّ إليه العلماء وشيوخ القبائل لتكريس الولاء للأمير عبد القادر ببيعة رسمية تثبت بيعة غريس المعروفة ببيعة شجرة الدردار.
راية الأمير
للوهلة الأولى يدرك الزائر لدار القيادة الأميرية، التي أضحت اليوم متحفًا ومقرًا للدائرة الأثرية للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية لولاية معسكر، أنها ذات معمار عثماني صميم، فواجهتها تشبه إلى حد ما الحصون العثمانية على غرار القلعة 23 بالعاصمة الجزائر. أما الممشى المؤدي إلى وسطها فينطوي على أعمدة رخامية وصحن ونافورة وأقواس وزليج ونجوم ثُمانية الأضلاع، يجعلها لا تختلف في شيء عن قصر خداوج العمياء أو دار عزيزة بالقصبة في الجزائر العاصمة.
ولا غرو فهذه الدار كانت قبل الاحتلال الفرنسي مقر للبايات الذين اتخذوا معسكر عاصمة لبايلك الغرب الجزائري بعد سقوط وهران في يد الإسبان، لكنها شكلت خلال سنوات الأمير الأولى غرفة حقيقية للسيطرة على الدولة وقيادة جيوش المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.
كما أنها شكلت مسكنه، الذي يحوي أغراضه، خاصة سريره المعدني الذي كان ينام فيه، ورايته الخضراء والبيضاء التي تتوسّطها "يد الخامسة" التي ترمز لدولته التي رغب في تأسيسها هنا وفق نظرة تؤكد أنه كان رجل دولة لا رجل دين أو حرب فحسب.
والشواهد على فكر الدولة كثيرة، فثمة مجسمات للقلاع والحصون التي شادها الرجل، وتقسيمات إدارية بحتة تدل على براعة التنظيم.
العسكر المحمدي
تُعرض اللوحات المتراكمة في الطابقين الأرضي والعلوي هياكل الدولة التي ترأسها عبد القادر، فهو الأمير على رأس إمارة تضم 8 مقاطعات يسيرها خلفاء، تلمسان، ومعسكر، ومليانة، والتيطري (المدية حاليًا)، ومجانة، وبسكرة، وبرج حمزة، والمنطقة الغربية من الصحراء. ثم تأتي الدائرة التي يتولاها الأغا، فالقبيلة التي يرأسها القائد، وأخيرًا البطون والعشائر التي يقودها الشيوخ.
وعلاوة على ذلك يشرف الأمير على الجيش النظامي وغير النظامي وقوات القبائل، ويتكون الجيش من القوم والراكبون بقيادة قائد القوم والراكبون، والعسكر المحمدي الذي يسيره الأغا، أما فرق الحرس الأميري فيتزعمها سالم أغا زنجي، في حين يقود فرق الطوبجية أو المدفعية ابن الكسكسة.
ونظرًا لأهمية العسكر المحمدي المتكفل بمهام جيش المشاة، فإنه كان يتكون من عدة كتائب تضم كل واحدة منها 1000 جندي تحت لواء قائد، فيما تتشكل الكتيبة من 10 سرايا على رأس الواحدة منها سيّاف، وتتشكل كل سرية من مائة جندي، وينتهي التقسيم النظامي للجيش بفرق الخيم وهي أصغر الوحدات القتالية العملياتية.
رسالة حرب
لتدوير شؤون الدولة أدخل الأمير نظامًا ماليًا لجمع الأموال والتكفل بعلاوات الجنود ومعاش الرعايا، عبر نظام إيرادات يعتمد على جمع أموال العشور والزكاة والمعونة و"الخْطِيَّة" الغرامة. وبما أن ذلك يحتاج لعملات فقد كانت تُتداول عدة نقود مثل الفرنك والفرنكين والمحمدية والريال والنصفية والربع والدورو أو بومدفع الذي لا يزال اسمه دارجًا حتى الآن.
والمتجول في جنبات دار القيادة ستصادفه كتب ومؤلفات، أشهرها كتاب المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ولوحة أخرى تضم خطابه، ردًا على عرض قبائل غريس ليكون أميرًا. وحرّر عبد القادر تلك الرسالة يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1832 ميلادية، معربًا عن قبوله المسؤولية، تبعًا لاعتذار والده محي الدين عن تحملها جراء مرضه وتقدم سنه، ثم يفصح عن مشروعه بدعوة القبائل العربية والبربرية للحاق بركب الدولة لإعلان التحرير عبر الجهاد، وجاء فيها التالي:
"الحمد لله إلى قبيلة كذا. خصُوصها أشرافها وعلماؤها وأعيانها، وفقكم الله وسدّد خطاكم، وبعد، فإن أهل معسكر وغريس الشرقي والغربي ومن جاورهم واتحد بهم، قد أجمعوا على مبايعتي، وبايعوني على أن أكون أميرًا عليهم. وعاهدوني على السمع والطاعة، وفي اليسر والعسر، وعلى بذل أنفسهم وأولادهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله. وقد قبِلت بيعتهم ودعوتهم، كما أني قبلت هذا المنصب، مع عدم ميلي إليه، مُؤملًا أن يكون واسطةً لجمع كلمة المسلمين ورفع الخصام والنزاع من بينهم. ولتأمين السبل والعدل، نحو القوي والضعيف، فلذلك ندعوكم لتتّحدوا وتتفقوا جميعًا. واعلموا أن غايتي القصوى، اتحاد الملّة المحمدية والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله اتكالي في ذلك كله. احضروا لدينا لتظهروا خضوعكم، وتؤدوا بيعتكم، وفقكم الله وأرشدكم".
المسجد والمعلف
على مسافة قريبة من دار القيادة يقع مسجد، بناه الباي محمد بن عثمان الكبير ودشنه في العام 1791، وإلى جواره أنشأ مدرسة محمدية أوكِلت لرئيس مجلس شورى معسكر محمد بن عبد الله الجيلالي، وبمهمة خاصة هي تكوين نخبة من طلبة العلم.
ولحاجة في نفس الأمير عبد القادر، فقد قرّر أن يكون ذلك المسجد مكانًا لالتئام العلماء والأعيان والوجهاء الذين لبّوا نداءه، فحضرت وفود عظيمة من الشلف وسعيدة ومعسكر والبيض وتلمسان لإعلان البيعة التي ارتأى أن تكون عامة أمام رؤوس الأشهاد وذات امتداد أوسع النطاق من بيعة شجرة الدردار الخاصة.
ويومها أعلن الأمير المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي عارضًا خلفاءه، أعضاء حكومته ومجلس الشورى، ونظامه القضائي والعسكري، مقدمًا طرحًا عصريًا للدولة التي رغب في تأسيسها لتكون في مواجهة الدولة الاستعمارية، بمنطق دولة ضد دولة. ما كان سببًا في اعتبار الأمير، بحسب مؤرخين ومنظرين مؤسسًا للدولة الجزائرية الحديثة، بما أنه قدم مشروعًا مخالفًا لكل ما شهدته البلاد من أنظمة حكم سابقة ولاقترابه من الدولة الغربية الحديثة، مستنهضًا الهمم للدفاع عن حوزة البلاد، فسمي المسجد مسجد المبايعة.
وأما الغرض الذي أراده الأمير من عقد ذلك في هذا المكان بالذات، فلأنه كان فيما مضى مركزًا انطلقت منه وبأمر من بانِيه الباي محمد بن عثمان، حملة الجهاد ضد الإسبان لاسترجاع مدن الساحل وأهمها وهران التي أعيدت للبلاد الجزائرية، العام 1792، بعد معارك طاحنة استشهد فيها ما يربو عن 500 طالب من نجباء المدرسة المحمدية.
24 معركة
وتكشف الجدارية المقامة عند مدخل المسجد على أن الأمير أعلن جهاده في شهر رمضان الموافق لشهر شباط/فيفري من العام 1833، لتنطلق بذلك سلسلة معاركه الطاحنة ضد السلطات الاستعمارية، لكن احتلال فرنسا لمعسكر عجلّ بغلق المسجد في العام 1848، ليُمنح لليهودي جوزيف بن البردي جاعلًا إياه مخزنًا لبيع القمح للناس والعلف لخيول فرق الصباحية.
تُعرض لوحات مختلف المعارك الكبرى، التي خاضها الأمير عبد القادر، بين أعوام 1832 و1845 وعددها 24 معركة آخرها معركة عين تموشنت، قبل استسلامه في العام 1847، ونقله هو وحاشيته وحرسه في سفينة أسمودس الفرنسية صوب منفاه بأمبواز، قبل أن تلبي سلطات باريس رغبته التي نكثتها، فانتقل إلى بلاد الشام وتوفي بدمشق سنة 1883 مخلفًا وراءه هالة إنسانية عظيمة، لم تتوقف حتى اللحظة بما كان له من فضل حماية المسيحيين من هجمات مسلمين "متعصبين" في إبان فتنة 1860 التي عصفت ببلاد الشام، والتي كادت أن تنهي وجود نصارى الشرق بتلك الربوع.
الأمير عبد القادر كان له الفضل في حماية المسيحيين من هجمات مسلمين "متعصبين" في إبان فتنة 1860 التي عصفت ببلاد الشام، والتي كادت أن تنهي وجود نصارى الشرق بتلك الربوع
أما مسجد المبايعة الذي جعله الفرنسيون مخزن للأعلاف فقد قيض له القدر حفيده الأمير خالد، الذي أغتنم فرصة الحرب العالمية الأولى ليسترجعه مسجدًا، لم يتوقف فيه الآذان ولم تنقطع فيه الصلاة منذ 1919 ميلادية.