ماذا تفعل الكلمات الجارحة في نفوس الأفراد؟ وما هو أثر التنمّر وتوجيه سهام الانتقاد والاتهام في وجه أي إنسان؟ ربما قد يخلط البعض بين المزاح وبين إيذاء الآخرين، فبعض الملاحظات والانتقادات كثيرًا ما تُحدث "ندوبًا " في القلب وتؤثر على مسارات الأشخاص، خصوصًا إن كانت أمام الملأ، وأمام شاشات التلفزيون وفي وسائط التواصل الاجتماعي.
لا يمكن الجزم بقدرتنا في التخلص من التنمر، فبيننا آلاف الأشخاص ممن تعرضوا لما يسمى في علم النفس بـ "جِراح الطّفل الداخلي"
بإمكان أي عبارة أو رسالة أن تصنع مجدًا أو تهزم قلبًا وتبيد روحًا، فربما ما تعرضت له الملاكمة إيمان خليف وحدها ينسف نظرية: "التنمر القاصم للظهر" والقاطع لليدين"، فهي التي دافعت عن "إيمان الأنثى"، كما قالت عقب تجاوز عقبة التايلاندية شوانافينغ (23 سنة/ صاحبة المركز 8 عالميًا) مدافعة عن نفسها: "أنا أنثى ودافعت عن شرفي"، بل بكت بحسرة وذرفت دموعًا سخينة بسبب الاتهامات التي وُجهت لها من هيئة دولية للملاكمة، رغم أن الجزائر لا تعترف بها.
قضية إيمان، تبقى محطّ اهتمام صحف ووسائل إعلام محلية وعربية ودولية، والرقم واحد على منصات التواصل الاجتماعي لعدة ساعات، كما برز حضورها في أولويات غرف الأخبار، وأثارت ردود أفعال الجمهور في كل مكان في العالم. حرك مياه راكدة، لأسباب سياسية، حيث وقعت الملاكمة الجزائرية ضحية تصفية حسابات بين تيارات أيديولوجية وهيئات متصارعة على تسيير الملاكمة تارة، وأسباب ثقافية واجتماعية تارة أخرى.
قضايا كثيرة
خارج ما يقال في الفضاء الافتراضي، وعند إلقاء نظرة نحو الواقع، وكيف تتحول لفظة تنمّر أو كما تسمى بالعامية بـ"المعايرة"، إلى عبءٍ يسافر يوميًا مع صاحبه، بسبب الألفاظ المتداولة في الشارع التي تسقط في خانة التنمر من جهة، وفي خانة الوصم، أو الوصمة الاجتماعية، من جهة أخرى.
يتحفظ كثيرون على إلصاق تهمة، أو صفة أو نعت الآخر بأي شيء من قبيل الأحكام من خلال النظرة أو من خلال ما يعتقد تجاه الآخر، لأنها "مؤذية" في النهاية، خاصّة إن غابت حقيقة الأشخاص، وعدم الاطلاع على ظروفهم، فتتجلى مظاهر الأحكام كثيرًا عند إطلاق الكلمات المسيئة، التي تنمّي "مشاعر الكراهية".
تصف نورة بن عودة، وهي طالبة في كلية الطب بجامعة الجزائر، كل ذلك بـ"الشحن السلبي العاطفي"، قائلة إنّ "وصف الآخر من حيث المظهر والشكل والجسم واللباس، أمر مقلق".
وأضافت في تصريح لـ"الترا جزائر"، "مثلما قيل لوالدتها يومًا أنها غريبة عن العاصمة، "برانية" لأنها تزوجت خارج مدينتها الأصلية، فالأمر كثيرًا ما سبّب لها وجعًا بين العائلة.. ألم لا وصفة دواء له".
ألم نفسي
من وجهة نظر الأخصائيين الاجتماعيين، يمكن أن تلتصق أيّة بالشخص ربما طوال حياته، سواءً في بيته، وبين أفراد عائلته، وبين جيرانه وفي حيه، وبين زملاء المهنة.
إلى هنا، يقول أستاذ علم الاجتماع، محمد بلونة لـ" الترا جزائر" إنّ كلمات كثيرة تصبح "قبورًا" لأنها تقتل الإنسان يوميًا، حتى وإن كان الآخر لا يأبه لوقعها على نفسية الإنسان.
وأضاف أنه "الشخص في بيئته الصغيرة، كثيرًا ما يسبب له ذلك ألمًا نفسيًا واجتماعيًا،وهو ما حدث مع الملاكمة إيمان، التي لاقت الكثير من الانتقادات والإهانات بسبب طبيعتها الجسمانية، وبسبب لعبها للملاكمة التي يفترض ألا تلعبها أثنى، الأمر الذي جعلها تنتقل إلى بيت عمتها بالمدينة، لتواصل مشوارها".
مردفًا: "ربما يمكن للفرد أن "يحزم أمتعته ويغادر المكان، ويهجر محلّ إقامته، ويودع ذكرياته، إلا أنه سيحمل معه في حقيبته تلك الوصمة،والمعايرة".
وللخلاص من هذه المسألة، يؤكد الأستاذ بلونة في إفادته أن "التخلص منها يأتي عبر محاولة تغيير البيئة الذهنية التي يعيش فيها، بدءًا من الاشتغال على العامل النفسي والذهني، والخضوع لتدريبات تقوية العامل الذهني والنفسي، لتجاوزها".
ذاكرة جريحة
لا يمكن الجزم بقدرتنا في التخلص من التنمر، فبيننا آلاف الأشخاص ممن تعرضوا لما يسمى في علم النفس بـ "جِراح الطّفل الداخلي" وهذا الطفل يبقى مع الشخص بجراحه وآلامه مع الأفراد حتى وإن بلغوا من العمر عتيًا.
وفي هذا الإطار، تقول الأخصائية النفسانية، زهرة أعراب، في بأنّ جراح الطفولة مخفية في العمق الداخلي للشخص، "كل واحد فينا لديه من الجراح ما يكفي لمعالجة حالات عضوية نعاينها بسببها".
ولمعالجتها تقول في إفادتها لـ"الترا جزائر"، أي لفظ أو كلمة أو عبارة سيئة، أو سلبية توجه للآخر، هي جرح يقع في النفس والقلب والروح والعقل والذهن والذاكرة أيضًا، وتشيه في عملية محاولة العثور عليه حتى في سن النضج كمن يفتح دفترًا قديمًا غطاه الغبار لسنوات، أو تقشير حبة بصل كل قشرة تأخذك لقشرة أخرى".
لذا يمكن تسمية ذلك أيضًا بـ" الذاكرة الجريحة"، والبطولة هنا كيفية تحويلها إلى تحديات ونجاح وفوز، وهو ما لا حظناه على الملاكمة الجزائرية، التي حولته في لحظات إلى انتصار، دون أن " ننسى العامل النفسي للطاقم النفسي والبدني الذي رافقها، وتشجيع الجزائريين وتضامهنم معها".
تمييز وجانبان
عبارات التمييز العنصري، باتت أشكالاً نمطية لا يمكن الإغفال عنها خاصّة وإن كانت تتنقل بين جيل وآخر، فمن الأسهل نعت الآخر، والحكم عليه، فمثلما تقع الكلمات التي تفرق بين أبناء البلد الواحد، بين ابن الريف والمدينة، وبين الغني والفقير، وبين المتزوجة والعانس، وبين الأم والعاقر، وبين الوافد لحي جديد وأصيل المدينة، كذلك تقع كلمات التشجيع والتحفيز التي يلقاها الإنسان في رسالة ما، أو في تقدير وشكر ترفع من معنوياته.
قليلون من حوّلوا التنمّر إلى عامل نجاح، وحول ذلك، كثيرة هي المواهب التي ضاعت بسبب التنمّر و"جراح الطفولة"، وفقدوا معها الثقة في النفس والاستمرارية والمثابرة والنجاح، لأنه في مرة من المرات "وصفوا بعاهة فيهم، أو بلفظة شوهتهم من الداخل وفي العمق".
بالعودة إلى مشهد الملاكمة إيمان في منازلة النصف نهائي، يكشف أنها لم تكن تأبه لأي شيء، فهي "لا تملك ما تخسره"، حتى وإن خسرت الجولات الثلاثة والمنازلة، (فازت وتأهلت للنهائي بفوز ٍكاسح)، لكنها من زاوية لغة الجسد وإيماءات الوجه: "كانت تعدّ الثواني لأنهاء النزال في جولته الأولى لصالحها وفقط، للحفاظ على الجهد، وإبقاء البعض منه لجولتين قادمتين".
لم تكن إيمان خليف، تستمع حتى لما يجري حولها، إذ كانت تحمي وجهها جيّدًا، وتبتعد كثيرًا كي لا تتلقى لكمة، وسيرت بذكاء الجهد في المنازلة، وكأنها خارج الفضاء كله، المهم إنهاء الدقائق بفوز.
محاسبة
التنمر بمختلف أشكاله وألوانه، قد يحدث حتى في المكان الواحد، بين الزملاء في المهنة، لكن هناك منها ما هو في العلن وأخرى من وراء الستار، وكثير منها يكون مُضمرًا بين حواشي الكلمات غير المفهومة، وبعضها متخفي وراء عبارات تستعمل في إطار ضيق في الشارع أو كما يسمى بـ" العالم الأسفل"، قاموسه مشفر وجب فهمه تعلم طريقة تفكيك رموزه.
يطالب كثيرون بوضع قانوني يحمي الأشخاص من التنمّر، لأنّ البعض يستهين ببعض الكلمات التي قد تسجن إنسانًا في لحظة عابرة
من هذا المنحى، يطالب كثيرون بوضع قانوني يحمي الأشخاص من التنمّر، لأنّ البعض يستهين ببعض الكلمات التي قد تسجن إنسانًا في لحظة عابرة، وهناك من يتجاوز حدوده الممنوحة له في الفضاء العام.