يردد مسؤولون في قطاع التعليم العالي كل مرّة خطابات وشعارات تتعلق بتقريب الجامعة من الاقتصاد،وربطها بالمؤسسات الاقتصادية، وعالم الشغل، بالنظر إلى أهمية ذلك بالنسبة للطلبة للتشبث بحلمهم التعليمي والعملي، وكذا لأهميته الاقتصادية لتحسين مستوى اليد العاملة ورفع كفاءتها، فهل تحقق شيء من هذا الخطاب على أرض الواقع، أم بقي مجرّد توقعات فقط صعبة التحقيق؟.
الأستاذ فارس هباش لـ "الترا جزائر": التحديات البيروقراطية تعقّد العمليات التعاونية بين الجامعات والمؤسسات الاقتصادية
وإذا كانت الجامعات في العالم قد تحولت إلى مؤسسات تمول نفسها بنفسها نتاج الأبحاث والدراسات وبراءات الاختراع التي تجريها، فإن الأمر في الجزائر يبقى بعيدا عن هذا المستوى الدولي، بل إن اندماج قطاع التعليم العالي في ميدان المال والأعمال والصناعة يبقى يحتاج إلى جهد أكبر، برأي كثير من المتابعين.
أهمية
تنطلق السبت السنة الجامعية الجديدة، والتي يجب أن ينصب عمل مختلف مؤسسات التعليم العالي خلالها هذا العام على الانفتاح على قطاع الاقتصاد، وتكوين الطلبة لولوج ميدان الشغل بأسهل الطرق وأسرعها.
وفي هذا الإطار، كان وزير التعليم العالي كمال بداري قد أشرف في تموز/جويلية الماضي رفقة وزير اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمصغرة ياسين المهدي وليد على إطلاق 84 مركز تطوير للمقاولاتية عبر مختلف جامعات الوطن، في خطوة تشير إلى سهر مصالحه على ربط الجامعة بعالم الاقتصاد.
وقال بداري، إن استحداث مراكز تطوير المقاولاتية في الوسط الجامعي "سيتعزز باستحداث صفة الطالب المقاول وشهادة الطالب المقاول بغية توجيه خريجي الجامعات إلى عالم الشغل وتمكينهم من المساهمة في خلق الثروة".
وأضاف أن انتقال الجامعة من مرحلة نشر المعرفة إلى مرحلة المقاولاتية يتمحور حول "توعية الطلبة ثم تكوينهم في الوسط الجامعي"ـ وهي المهام التي ستوكل الى المراكز الجديدة بمرافقة وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمصغرة.
وتهدف هذه المراكز إلى "دعم المسار المقاولاتي بالوسط الجامعي من خلال توفير تكوين متكامل في ريادة الأعمال لأصحاب المشاريع, وفقًا لبرنامج مسطر تحت إشراف أساتذة جامعيين ومؤطرين من الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية".
وأشار الوزير وقتها إلى "تسجيل 730 مشروعًا محل دراسة على مستوى اللجنة الوطنية التنسيقية لمتابعة الابتكار وريادة الأعمال, وهو ما يسمح لحاملي تلك المشاريع بالاستفادة من مساعدات في إطار المُرافقة".
وقال أستاذ المالية والمحاسبة بجامعة قسنطينة الدكتور يزيد بن صويشة لـ"الترا جزائر" إن "انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي أمر حتمي فرضته مجموع التغيرات والتطورات الحاصلة في شتى المجالات"،بالنظر إلى أن "ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي سيعود بالنفع على الجانبين فلا وجود لنهضة اقتصادية بدون أساس علمي، ولن يكون هناك تطور علمي بدون تجارب تطبيقية ميدانية".
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف فارس هباش في تصريح لـ"الترا جزائر"، أن "عالم اليوم الذي تميزه التغيرات المتسارعة والمتنامية، أصبحت فيه الجامعات أكثر من مجرد مؤسسات تعليمية، حيث إنها تمثل محورًا مهمًا في تشكيل مستقبل المجتمعات والاقتصادات، فإذا تمكنت الجامعات من بناء جسور قوية مع القطاع الاقتصادي، يمكن أن يكون لديها تأثير عميق على التنمية الوطنية".
وبين هباش أن "هذه الروابط تتيح للجامعات فرصًا لتوجيه تعليمها وأبحاثها نحو القضايا والاحتياجات الفعلية في السوق، حيث تكمن أهمية هذا التوجيه في تأهيل الخريجين بالمهارات التي يحتاجونها للنجاح في سوق العمل المتطور والمتغير، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للجامعات أن تسهم في تطوير تكنولوجيا جديدة وحلول مبتكرة من خلال مشاريع البحث المشتركة، مما يعزز التنافسية الوطنية والقدرة على التحسين المستمر".
ويشير أستاذ الاقتصاد إلى أن "ربط الجامعة بالمجال والمحيط الاقتصادي يسمح للجامعة بتطوير برامج تعليمية تتوافق مع احتياجات الصناعة والأعمال، وذلك عن طريق الاستماع إلى متطلبات القطاعات الاقتصادية والتفاعل المستمر معها، إذ يمكن للجامعة ضمان توفير الخريجين بالمهارات والمعرفة التي تجعلهم جاهزين لسوق العمل، إضافة إلى إسهامه في دعم الابتكار وريادة الأعمال وتطوير التكنولوجيا مما يعزز النمو الاقتصادي، ويزيد من فرص العمل، بتوجيه مناهج وبرامج الجامعة نحو احتياجات سوق العمل المحلي".
نطاق ضيق
يؤكد الأستاذ فارس هباش، أن هناك مساعٍ من الجامعة الجزائرية للانفتاح بشكل أكبر على المحيط الاقتصادي، لتكون لها مساهمة فعالة وناجعة في تجسيد مختلف البرامج التنموية على الصعيد الوطني من خلال تقديم الحلول والمقترحات لمختلف القضايا والمشكلات الاقتصادية وتقديم يد عاملة مؤهلة لمختلف المؤسسات الاقتصادية من خلال مخرجات متخصصة وذات نوعية، وأحيانًا حسب الطلب خاصة في مجال البحث والتطوير والابتكار.
لكن هباش يقر أيضًا أن العمل على ربط الجامعة بعالم الاقتصاد "وبالرغم من أهميته، لم يعرف ذلك الزخم الحقيقي، وبقيت مساهمة الجامعة الجزائرية في المجال الاقتصادي محدودة في كثير من الأحيان، وعلى نطاقات جزئية فقط من خلال المخرجات من الإطارات التي تقدمها الجامعة للمؤسسات الاقتصادية بفتح عروض تكوين لتخصصات توافق واقع السوق".
وأضاف المتحدث أن "مساهمة الجامعة في البرامج الاقتصادية الكلية لا يزال مغيبًا، بالرغم من سعي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى ذلك من خلال تشجيع الباحثين على الانخراط في برامج بحث تخدم الإستراتيجية الاقتصادية الوطنية في عديد المحاور على غرار الأمن الغذائي والطاقوي..".
تكامل اقتصادي
من جهته، يرجع الدكتور يزيد بن صويشة، عدم تحقيق التكامل الكامل بين الجامعة وعالم الاقتصاد إلى "عدم دقة النظام البيئي والقانوني الذي يحدد ويسهل آليات التوافق والتفاعل بين مختلف الأطراف التي تشكل المنظومة الاقتصادية، رغم وجود العديد من المبادرات التي تسعى إلى إزالة هذه الحواجز والتي نعتبرها جيدة ولكنها تظل غير كافية".
وفي هذا السياق، يلفت الأستاذ فارس هباش في حديثه مع "الترا جزائر"، إلى أن من بين أبرز العوائق التحديات البيروقراطية التي تعقّد العمليات التعاونية بين الجامعات والمؤسسات الاقتصادية، إضافة إلى اختلاف أهداف الجامعات والشركات، وعدم التوافق بينهما في بعض الحالات.
وقال هباش إن "نقص التمويل من العوائق الكبيرة، حيث يتطلب العمل المشترك موارد مالية لدعم الأبحاث والمشاريع المشتركة، بالإضافة إلى المشاكل القانونية والأخلاقية، لأنه من الضروري مراعاة الأمور المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية والأخلاقيات في التعامل مع بيانات ونتائج البحث، كما أن نقص التواصل والتفاهم بين الجامعات والشركات قد يعرقل أيضًا التعاون الفعال."
ويطالب أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف بضرورة وضع إطار قانوني وتنظيمي محدد، وتعزيز ثقافة التعاون والشراكة بين الجامعات والقطاع الاقتصادي، وتخصيص موارد كافية والعمل على تعزيز تفاعل الجامعة ومحيطها الاقتصادي، والذين لن يتحقق إلا بوجود جامعة أكثر انفتاحا وأكثر اندماجًا وفق النظرة والأبعاد الاقتصادية التي تسمح لها بتحصيل موارد مالية ترفع من قدرتها على التمويل الذاتي لمختلف احتياجاتها، تكون رافدا ماليا مهما كمؤسسة خدمية".
ويرى هباش أنه على الجامعة الجزائرية أن تغير طريقة تفكيرها بالبحث عن طرق لتحصيل موارد مالية وفق نظرة اقتصادية، وأحد هذه الوسائل هو جمع الرسوم الدراسية من الطلاب، وتنفيذ مشاريع بحثية ممولة من قبل الحكومة أو القطاع الخاص، لجلب تمويل إضافي، وتطوير شراكات مع القطاع الصناعي لتمويل مشاريع بحثية، والبيع والتأجير العقاري للعائد المالي، وتقديم برامج صيفية وتعليمية متواصلة، واستثمار الأموال المتاحة، وبيع مواد تعليمية عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية.
تحسن
بالنسبة لأستاذ المحاسبة والمالية بجامعة سطيف يزيد بن صويشة، فإن ربط الجامعة الجزائرية بالمحيط الاقتصادي لم يبق مؤخرًا مجرد خطاب بل أصبح واقعًا ملموسًا، بعد سلسلة التغييرات الحاصلة في توجهات الدولة والجامعة، خاصة مع التقارب الكبير والاتفاقيات المبرمة بين وزارة التعليم العالي ووزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، حيث تم تنصيب اللجنة الوطنية التنسيقية لمتابعة الابتكار وريادة الأعمال الجامعية التي تشرف بشكل مباشر على الواجهات الجامعة الأربعة المستحدثة في كل مؤسسة جامعة وهي مكتب ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي، ومركز دعم التكنولوجيا والابتكار، وحاضنة الأعمال، ومركز دعم المقاولاتية".
وبدوره قال الأستاذ فارس هباش إن "المتتبع لتوجه الجامعة الجزائرية في السنوات الأخيرة يلاحظ مدى الإرادة الكبيرة من قبل الهيئات المختصة لدفع الجامعة بأن تكون قاطرة للاقتصاد الوطني، وذلك من خلال عديد القوانين والاصلاحات الرامية إلى تحقيق هذا المسعى مثل توجيه البحث في مختلف المخابر ووحدات البحث نحو البرامج الاقتصادية الوطنية، واستحداث تخصصات مهنية موجهة مباشرة لسوق العمل في إطار شراكات مع المؤسسات الاقتصادية المعنية".
الدكتور يزيد بن صويشة لـ "الترا جزائر": ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي لا يتحقق إلا بإرادة حقيقية ومتكاملة من جميع فواعل المنظومة الاقتصادية والجامعة
ورغم هذا التحسن الملاحظ مقارنة، بالسنوات الماضية، فإن الدكتور يزيد بن صويشة يؤكد أن ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي لا يتحقق إلا بإرادة حقيقية ومتكاملة من جميع فواعل المنظومة الاقتصادية والجامعة، لأن النجاح المحصود في هذا المجال يتطلب مساهمة الجميع دون إقصاء أو تغييب لأي طرف.