23-فبراير-2024
(الصورة: فيسبوك) جعفر ثامر

منذ ثلاثين سنة خلت، وجعفر ثامر، يداوم على الخروج باكرًا من بيته الواقع بالشارع السياحي ببوسعادة، قاصدًا سوق الصناعات التقليدية في شارع البلاطو قبالة فندق كردادة – ترانزلانتيك سابقًا-، شاكرًا أجداده الذين وهبوه حرفة فذّة، مكّنته من افتتاح دكّانه الخاص العام 1994، ثم النجاح في صناعة قطع غيار السيارات، ولوازم مختلف الأدوات الكهرومنزلية، عبر قوالب من الرمل المحلّي، ثم استنساخها سواءً عبر البلاستيك أو النحاس أو الألمنيوم، بيد أن اللافت في ورشته هو التخصّص في ضرب النح.

تورد الثقافة الشعبية الشفوية بخصوص آلة النح عدة قصص تدور حول أنها ذات رسائل صوتية مشفرة

الشيفرة الصوتية

وحذار فإنّ الضرب هنا بمعنى الطرق، وليس المقصود به الصمت مثلما يقول المثل الشعبي الصميم "أضرب النح"، بمعنى تكتم في الأمر، وإن كان التأويل هنا يقرب بين فعل نح حسب معجم اللغة العربية، بمعنى تردّد صوته في جوفه، وبين استعمال هذه الأداة لطرق الباب، والتي لا تستلزم من مستعملها الكلام أو الإفصاح عن هويته، فوحده صوت الضرب يُبين هوية الطارق، سواءً أ كان رجلًا أو امرأة أو طفلًا أو وافدًا من الخطاب.  

تورد الثقافة الشعبية الشفوية بخصوص آلة الطرق هذه، عدة قصص، تدور على أنها ذات رسائل صوتية مشفرة، تراعي حرمة البيوت والأعراف والنمط الحياتي، فالطرق بتلك القطعة الحديدية أو النحاسية على الجزء العلوي للباب بدقات معينة يعني أن الزائر رجل، فينهض لاستقباله رجل، أما إذا كان الطرق أسفلا فتنبيه على أن الضيف امرأة، يستوجب أن تتولى النساء فتح الباب لها، أما إذا كان الطرق بالنح على الجانب فيعني قدوم الخطاب.

جعفر ثامر هو واحد من بين آخر الصناع القلائل لهذه التحفة في بوسعادة، الواقعة على مسافة 240 كلم جنوب الجزائر العاصمة، بل في سائر مدن البلاد، الذين لا يزالون يضربون هذه القطعة في ورشهم، محقّقين سمعة واسعة تضاهي صناع الموس البوسعادي الذي طوّح شهرة مدينة السعادة في الآفاق.

النح

حرفة الجدين

لا ينطبق المثل الشعبي القائل "يفنى مال الجدين وتبقى حرفة اليدين" تمامًا على جعفر، ذلك أنه ورث الحرفة التي تدر له المال من أحد جديه، جده من أمه، لخضر الدفي، الذي كان حرفيًا مختصًا في الحدادة، وعلى يديه تعلم مهارة الطرق والضرب والصقل، يقول لـ"ألترا اجزائر" ضاحكًا: "كنت أجلس لساعات في محل جدي من أمي، سي لخضر لأراقب بعيني حركاته ومهاراته، وكان أحيانًا يأمرني بجلب مفكٍ، أو قالبٍ، أو قطعة نحاس، ثم صار يكلفني بصناعة أشكال بسيطة، ومعقدة، كي أتلقّن المهنة على أصولها.

وهكذا ترسخت في ذهني، ثم شيئًا فشيئًا نجحت في عمليات إتقان تلك المعمولات اليدوية، ومع مرور السنوات اكتسب خبرة تفوق اليوم ربع قرن، صار فيها المحل وجهة مشهورة في مدينة بوسعادة التي تظلّ واحدة من المدن الجزائرية الأكثر إلمامًا بالأدوات التقليدية نظرًا لأهميتها السياحية منذ القدم".

النح

في رفوف محلّه تزدحم خردوات وقطع حديدية وصنابير مكسرة، وأفران، وقوالب، هي كل أسلحته التي يربح بها قوت يومه وعياله، ويشكّل بها قطع غيار جديدة صالحة للاستعمال، يوضح قائلًا " كل ما تراه العين في المحل من قطع جاهزة، هي نتاج المواد المرسكلة، فأنا أصنع بعض قطع غيار السيارات مثل المقابض والأجهزة الكهرومنزلية والإلكترونية، من المواد المسترجعة، يأتيني زبون سيارة المرسيدس لاستنساخ مقبض، كما يجيئني صاحب سيارة بيجو 404 لأصنع له مقبضًا، وقد يقصدني زبائن لتجديد رزة الثلاجة أو الغسالة المتكسرة، فأنتج له واحدة شبيهة من الألمنيوم أو النحاس أو البلاستيك، بسعر لا يتعدى 600 أو 700 دج، بدل أن يشتريها جديدة بثمن 2500 دج".

في رفوف محلّ جعفر تزدحم خردوات وقطع حديدية وصنابير مكسرة، وأفران، وقوالب، هي كل أسلحته التي يربح بها قوت يومه وعياله

سرّ التُرْزُق

"النح له حكاية أخرى"يعقب جعفر متهيئًا لشرح أسرار صناعته التي ازداد عليها الطلب في الأعوام الأخيرة، جراء عامل أساسي هو عودة الناس إلى النمط الإسلامي الشرقي في بناء الدور والفيلات، ما خلق سوقًا لقطعة النح لارتباطها بالأبواب القديمة المتناسقة مع هذا النمط، وما تفرضه من زخارف ومطارق برونزية، لكن تلك الصناعة، تمر بعدة مراحل.

النح

يسرد جعفر هذه المراحل فيقول إن "أولها البحث عن تراب من نوع خاص نقوم بالحفر عنه في بوسعادة، وهو رمل يسمى التُرزق، و هو مقاوم للحرارة حتى الألفين درجة، و ثانيها، دقّ ذلك التراب ليغدو أملسًا وخلطه بزيت الزيتون كما في الماضي، أو بالزيت العادي مثلما يجري العمل به اليوم، حتى يصير قابلًا للتطويع على نفس شكل القطع المراد نسخها، بالنسبة للمقابض أو أقفال قطع غيار المركبات أو الأدوات المنزلية أو للنح المطلوب".

و في مرحلة تالية يضيف "نقوم بوضع القالب في أفران النار ليجف قليلًا، بالموازاة مع ذلك نقوم بتذويب النحاس الذي نحصل عليه من الصنابير المكسرة في أكواب فضية حتى درجات مئوية بين 1200 إلى 1400 درجة، ونسيله في القالب الساخن للحصول على خام النح".

وإلى ذلك تنتهي المرحلة الأخيرة كما يشير"ننزع النح المتشكل حين يبرد القالب، تمهيدًا لصقلة وترطيبه ليأخذ شكله النهائي الجاهز للتسويق".

تتراوح كلفة النح حسب الشكل والحجم بين أسعار زهيدة تترواح ما بيم 4000 دج إلى 6000 دج بالنسبة للأنواع البسيطة، التي لا تستغرق، في العادة غير يوم واحد، أما الأشكال المعقدة التي يبلغ ثمنها 11.000 دج، فتتطلب تقنية خاصّة قد تدوم ثلاثة أيام أو أسبوعًا كاملًا".

منبر الجامع الأعظم

الشهرة التي نالها الرجل في هذه الصناعة تجلب له سياحًا جزائريين وأجانب، بينهم كما يوضح "ووزراء وسفراء دول الاتحاد الأوروبي الذي يفضّلون التبضع سواء في بوسعادة أو في المعرض السنوي الذي تقيمه البعثة الأوروبية كل عام بالعاصمة، كما يتقاطر سياح جزائريون وفرنسيون وأمريكيون وإسبان وصينيون على دكانتي لهذا الغرض".

تتراوح كلفة النح حسب الشكل والحجم بين أسعار زهيدة تترواح ما بيم 4000 دج إلى 6000 دج بالنسبة للأنواع البسيطة

لا يتوقّف رزق الرجل هاهنا، فحسب، بل تعداه للاشتغال في ورشات كبرى وهامة كانت سبب سعادته، وتوضيحًا لذلك يقول: "الحمد لله عملت بنصيحة الأجداد في الإقبال على العمل وإتقانه والإخلاص فيه، وعلاوة على أني أعيش وضعًا اجتماعيًا وماديًا مستقرًا، فقد فتحت لي مهنة صناعة نح الأبواب باب أرزاق معنوية أخرى لا تقدر بثمن، حصل لي شرف المشاركة في أشغال تزيين زخرفية لمنبر الجامع الأعظم في العاصمة، الذي ستقام فيه الصلوات قريبًا بدءًا من رمضان المبارك، عبر مهمات كُلّفت بها من مؤسسة حازت الصفقة وطلبت خدمتي بعد اطلاعها على سيرتي المهنية ونماذجي".

النح

ويستطرد ضارب النح، أنه شارك في عمليات تزيين ضمن ورشات ترميم بتلمسان وقسنطينة، وعنابة وفي القصبة بالجزائر العاصمة، حيث توليت مهام تزيين وصناعة النح لأبواب القصور القديمة والعمائر العريقة، خاصّة تلك التي تعود للفترة العثمانية قبل ثلاثة قرون".

إن ثقل الرسالة المعنوية، في نقل تراث الأجداد إلى الأحفاد أصبح الشغل الشاغل لجعفر، بعد نجاح تجاربه، لذا فهو يحرص الآن، في مرحلة نضجه الخمسيني، على أن يلعب دور ناقل الذاكرة للأجيال الجديدة في كل ما يتعلق بقولبةوإذابة النحاس، وصناعة النح.

جعفر ثامر لـ "الترا جزائر": ما يهمني ليس اسمي بل خلود حرفتي ولهذا السبب شرعت منذ فترة في تلقينها للشبان اليافعين

يختم محدّثنا: "صحيح أنها مورد رزقي، وصحيح أن هناك عدد قليل من ضاربي النح، وبما أني ربما أشهر حرفي يصنعها بهذه الفرادة الفنية والشكلية، فإن ما يهمني ليس اسمي بل خلود حرفتي، ولهذا السبب شرعت منذ فترة في تلقينها للشبان اليافعين الراغبين في اكتساب مهنتي وللإبقاء عليها، حتى يوصلوا مشعلها كما بلغني عن جدي، إلى الأبناء والأحفاد، فالبقاء سر الخلود الوحيد ".