14-أكتوبر-2023
 (الصورة: Getty)

مقال رأي

قبل ربع قرن من الزمن، وبالتحديد في السابع من شهر تموز/جويلية سنة 1998، غادرت الفلسطينية رائدة أبو دراز  الجزائر، وودعت أصدقاءها وكل زملائها في مستشفى مصطفى باشا الجامعي بقلب العاصمة الجزائرية، بل أقبلت على تقديم حلويات فلسطينية فرحًا بالعودة إلى بلدها،وامتنانًا للرفقة الطيبة خلال دراساتها للطب في الجزائر "لابيرين" سابقًا.

طريقها لم يكن مفروشًا بالورود، فرغم الفرحة بالتخرج، نالت كغيرها من العشرات من الفلسطينيين الكثير من التشجيع والتحفيز، وسط عائلتها التي سبق أفرادها بالعودة تدريجيًا، فرائدة آخر فرد من العائلة التي رجعت إلى الأرض الأم والموطن الأصلي بفلسطين، وبالتحديد رجعت إلى قرية عبسان بمنطقة  خان يونس في مدينة غزة.

لا يمكن للجزائريين نسيان الوالدة أم وسام، كيف لا وهي التي تدرج تحت قيادتها العشرات من التلاميذ في إحدى متوسطات ذراع بن خدةّ

يعود الرقم سبعة مجددًا، من تاريخ العودة لعدد أفراد الأسرة المكونة من ثلاث أولاد وأربع بنات، وأسماؤهم كلها مرتبطة بذهنية العائلة الشرقية، احتضنتهم الجزائر منذ 1983، وكانت منطقة ذراع بن خدة بولاية تيزي وزو شرق الجزائر ملاذهم في تلك الفترة، من ثمانينيات القرن الماضي.

لا يمكن للجزائريين نسيان الوالدة أم وسام، كيف لا وهي التي تدرج تحت قيادتها العشرات من التلاميذ في إحدى متوسطات ذراع بن خدةّ، حيث امتهنت التدريس لأزيد من 15 سنة في تخصص اللغة العربية، بينما تفرغ الأطفال وقتها للدراسة منهم في المدارس الابتدائية والبقية في الثانويات إلى غاية نيلهم جميعًا شهادة الباكالوريا ثم التخصص في تخصّصين اثنين لا ثالث لهما: الهندسة والطب، وجميعهم نالوا شهاداتهم العليا وتخرجوا في الجامعات الجزائرية، سواءً بجامعة تيزو وزو أو جامعة الجزائر.

ضحّت الوالدة بالكثير من أجل أبنائها خاصّة وأن والدهم كان ممنوعًا من مغادرة غزة، بأوامر عسكرية من جنود قوات الاحتلال بل وتعرض للتضييقيات الشديد والسجن أيضًا. وبحسرة شديدة تتحدث الأم دومًا عن غزة، وكل أملها بـ"العودة إلى الأرض الأم فهي العرض"، كما تقول أم وسام.

للأمانة، عاشت العائلة في بيتها بمنطقة القبائل الكبرى وكأنها في فلسطين، من حيث حب الجيران، وتضامنهم فيما بينهم، ومشاركتهم للمناسبات أيضًا، فضلًا عن تقاسمها معهم فن الطبخ الفلسطيني والعادات والتقاليد التي كانت تميزهم كثيرًا، ولكنها في المقابل من ذلك تشبه كثيرًا العادات الجزائرية، لونًا ورائحة.

من كان يدخل بيتهم يشعر أنه في غزة، بتوزع خرائط فلسطين وشعارات المقاومة، والعلم الوطني، فضلًا عن الكوفية، وللكوفية حكاية أخرى سنسردها لاحقًا.

في مدخل شقة أسرة أبو دراز السابقة بالجزائر، وُضعت صورة كبرى لخريطة فلسطين وكانت دائمًا تطلعني على مكان منطقتها وطبعًا شعور لا يمكن وصفه ممزوج بالفرح و الحزن، ولكن جانبه الحزين أقوى بكثير فمن منا لا يتأثر عندما يحنّ الى أسوار بيته وأرض أجداده، ذلك البيت الذي ربما بقيت فيه سوى الحيطان أو ربما أصبح اليوم مجرد تراب.

تقول أم وسام: "الجزائر لمت شملنا واحتضنتنا بعدما تشتتنا"

في المقابل تتشبث عائلة أبو دراز" ببلد الشهداء الجزائر، البلد الذي أعلن فيه قيام الدولة الفلسطينية في يوم 15 تشرين الأول/نوفمبر 1988، وهي الذكرى العالقة في ذهن تلك الأسرة ولكن للأسف الأسرة تشتت بعد خروجها من وطنها الثاني لعدة أسباب.

تقول أم وسام: "الجزائر لمت شملنا واحتضنتنا بعدما تشتتنا"، فشقتهم المتكونة من ثلاثة غرف بمنطقة القبائل ورغم مساحتها المحدودة، كانت عبارة عن متحف للذكرى وللاستمرار والعزيمة، إحيث تخلّد الكثير من الذكريات المؤلمة والمفرحة أيضًا، فالجدران حملت صورًا كثيرة عن الانتفاضة بل ولم تتخلّ هذه الأسرة عن عاداتها المترسخة وارتباطها الوثيق بتعاليم الدين الإسلامي وإيمانها العميق أنه سيأتي يوم وترجع إلى حيها وقريتها عبسان بمنطقة خان يونس "في غزة المغتصبة.

واحتفظت العائلة قبل مغادرتها للجزائر، بعنوان الحي التي ولد فيه أقرابهم بقرية عبسان، وكانت تحتفظ أيضًا بصور قديمة لتلك المنطقة التي ربما اليوم وأنا أخط هذه السطور لا وجود لها بعد قصف الغارات الإسرائيلية.

لقد عاش الجزائريون معهم أيضًا لحظات الألم عندما يسمعون ويشاهدون في التلفزيون قصف منطقة واستشهاد إخوانهم في فلسطين، وعاشوا معهم أيضًا لحظات الحلم بالعودة إلى غزة وتحرير فلسطين، فكيف لهم اليوم أن يستجيبوا لدعوات الاحتلال بالخروج منها؟

هدية غزة للجزائر هي "كوفية غزاوية" ومصحف للقرآن الكريم وزربية صلاة فلسطينية

هدية غزة للجزائر هي "كوفية غزاوية" ومصحف للقرآن الكريم وزربية صلاة فلسطينية، صار عمرها اليوم ربع قرن، فضلًا عن قارورة فيها تراب غزة.. هذا ما احتفظ به اليوم من ذاكرة العائلة الغزاوية، فضلًا عن وشّاح لجدتها رحمها الله برسم مسجد القدس.

في كل بيت جزائري توجد فلسطين إن كانت عبارة عن صور أو علم البلد أو كتاب يروي نضالات هذا الشعب، الحاضر دوما في قلوبنا، بحضور فلسطين الدائم، فهي تشبه العضو في الجسد الواحد، إذا تألم الجسد كله وسهر بالحمى، وسيجد أيضًا من يواسيه ويجبر بخاطره. أجمل ما في فلسطين أنها حكاية رويت ولازالت كما أن القدس فينا جميعًا، لكنها تظل أعذب تجربة علمتنا العثور على كنوز الدنيا في التحدي والصمود. 

في لحظة وداع رائدة وأخوتها والدتها بمطار هواري بومدين لم تكن لدي فكرة عن معنى وداع أشخاص ربما لن ألتقيهم مرة أخرى

في لحظة وداع رائدة وأخوتها والدتها بمطار هواري بومدين لم تكن لدي فكرة عن معنى وداع أشخاص ربما لن ألتقيهم مرة أخرى بالرغم من إيماني بالقدر الذي له تصاريف كثيرة وإيماني أيضًا بالمثل الشعبي القائل " غير الجبال اللي ما تتلاقاش "

استقتر الوالدان بغزة، أما بقية الأخوة غادروها إلى بلدان أخرى.