30-أغسطس-2023
 (الصورة: Getty) شباب في أحد الشوارع الجزائرية

(الصورة: Getty) شباب في أحد الشوارع الجزائرية

في مشاهد عاصمية، يجلس بعض الشباب في الواجهة البحرية يراقبون باخرة، وخلفهم مباشرة يرتفع مبنى المجلس الشعبي الوطني، منهم  من ظلّ سعيهم في الحصول على عمل وبات مجرد حلم فقط، وفي شارع حسيبة بن بوعلي بقلب العاصمة الجزائرية شخص يكلّم نفسه، يضحك ثم يطلب من المارة مالًا أو يشير بيده إلى فمه لحاجته لقهوة أو طعام،وحيث ينتهى هذا الشارع وصولًا إلى ساحة مستشفى مصطفى باشا الجامعي بالعاصمة، يجلس عشرات من النساء والكهول من المرضى لأخذ قسط من الراحة أو انتظار موعد الدخول، حيث أصبح هذا الصرح الطبي مأواهم وملاذهم

كثيرون يتوجهّون لدراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية  بسبب عدم تكافؤ معدلاتهم في شهادة الباكالوريا مع شروط الحصول على تخصصات أخرى

هي صور لعدد من الأشخاص ممن قذفت بهم الحياة إلى خارج أسوار البيوت، وكما يقال: "للبيوت أسرار"، ولكل وجه من تلك الوجوه حكاية ووراءها قصة، يمكن تفسيرها وعلاجها أيضًا.. من هم؟ ومن أين جاؤوا؟ ومن يتكفل بهم؟ وكيف يمكن إيقاف نزيف جراح البعض قبل أن يتحول إلى أورام خبيثة ينخر المجتمع؟

معرفة الإنسان

يتحدث البعض عن الحاجة إلى تفعيل وظائف التخصّصات الاجتماعية والإنسانية الجامعية، ما يطرح عدة أسئلة منها ما يتمحور حول فائدة هذه الدراسات، وأدوارها، وما هو انعكاس البحوث في هذه التخصصات على المجتمع الجزائري؟ وبعبارة أخرى لماذا " تُحتقر" هذه الفروع العلمية ويتهرب منها كثير من الحائزين على شهادة الباكالوريا؟ بل ومن ناحية أخرى لماذا يزج بالناجحين من أصحاب المعدلات المنخفضة أو الدنيا إلى هذه التخصصات وتوجيههم نحوها؟

اهتمام البعض بالظواهر الاجتماعية، نابع من الشغف والرغبة، إذ تقول الطالبة الجامعية (سنة ثانية ماستر تخصص علم النفس السلوكي) ليلى بوحاتم لـ"الترا جزائر"، إن توجه الكثيرين نحو هذه التخصّصات "مكرهين" وهو ما ينبئ بأنهم يدرسون ما لا يحبون، مشيرة إلى أنها اختارت هذا التخصص بناءً على ظروفها الاجتماعية في أسرتها أولًا ومحيطها ثانيًا وبيئتها ثالثًا، إذ تعرضت لعدة مشاكل نفسية مع أقرب الناس إليها ما جعلها تهتم كثيرًا بضرورة فهم ما يدور حولها والبحث عن حلول لإنقاذ نفسها وأخوتها أيضًا.

من وجهة نظر البعض فإن هذه التخصصات مازالت "دراسات فارغة من المعنى"، تقول الطالبة الجامعية رغم أنها أساس تطور المجتمع وضرورة ملحة لفهم الإنسان والعلاقات العائلية والاجتماعية والأفراد والجماعات والمجموعات والجهات وتذليل الكثير من العقبات وحلّ المشاكل.

معضلة معدل الباكالوريا

كثيرون يتوجهّون لدراسة هذه التخصّصات بسبب عدم تكافؤ معدلاتهم في شهادة الباكالوريا مع شروط الحصول على تخصص ما، بل والعائلة لا تشجعهم على اتخاذ هذه الخطوة، في مقابل ذلك، يرى البعض أن هذه التخصصات " دون فائدة " بعد التخرج، إذ يسيطر على المتخرجين معضلة العمل، فأغلبها لا تساهم إلا في تخريج "بطالين" على حد تعبير كريم موساوي الذي يدرس علم اجتماع العمران بجامعة سطيف شرق الجزائر.

رغم أنه من الناجحين في سنة أولى ماستر، لازال الحصول على عمل في أيّ مجال هو أكبر اهتماماته الحالية، بل اعتبر أن شهادة التخرج ماهي إلا ورقة يضمها لملف طلب منحة بطالة أو الحصول على عقد عمل في مؤسسة ما.

يقول كريم لـ" الترا جزائر" بأنه توقف عن نسج الأحلام منذ نجاحه في الباكالوريا، إذ اصطدم بالواقع داخل الجامعة، خصوصًا وأن العشرات من مذكرات التخرج التي تعالج عدة قضايا ومسائل متعلقة بالإنسان والمجتمع ستظل حبيسة الأدراج أو في رفوف المكتبات، مثلما حدث مع من سبقوه.

وأضاف بأن نتائج هذه البحوث لا يمكن إخراجها من أطرها الأكاديمية، واستثمارها في معالجة المشكلات، وعلى سبيل المثال ذكر محدث "الترا جزائر" موضوع "المدينة ومواكبتها للتغيير الاجتماعي، مع الحفاظ على الموروث العمراني"، لا يمكن لأي شخص عادي أن ينتبه إلى أهمية هذا الموضوع في الميدان، وتنفيذه على الأرض، بل ذاكرة المجتمع تبدأ من العارفين بأسس المجتمع وكيفية الحفاظ عليها.

ولكن ما نجده في الواقع يعتبر بعيدًا كل البعد عما تمت دراسته في الجامعة ومخرجات العشرات من البحوث في هذا التخصص، خصوصًا مع سرعة التحولات التكنولوجية وضرورات الحياة التي باتت تنشد حاجات الفرد في علاقة بتطور المدينة والنقل.

ضرورة في المجتمع

لا ينكر أغلب المعنيين بهذه العلوم، أن فهمها ضروري للأفراد، كما أنها تحرّك في الطلاب طرح الأسئلة من خلال معاينة الظواهر الاجتماعية، وأكثر الفروع ارتباطًا بالإنسان وتفسر مختلف مشاكله وتعطي لتحولات المجتمع خطوطًا وتقدم رؤى ومحاذير لتجنبها، وعلاجها أيضًا.

وافترض البعض من الدارسين مواكبة هذه التخصّصات للتحولات الاجتماعية، وربطها بالتجارب والسياقات التاريخية، إذ قالت أستاذة علم النفس نزيهة فردي إن هناك "شبه قطيعة واضحة بين الجامعة والواقع المعاش"، معتبرة القضايا المجتمعية مادة دسمة للدراسة وزاد الباحثين في التحليل الاجتماعي، مشددة في تصريح لـ"الترا جزائر" على أهمية تنزيلها إلى منزلة التغيرات الحاصلة في المجتمع ومواكبة تحركه.

هذه التخصصات هي من تحدد مصير الإنسان، لأنها تسير المجتمع، لكنها الأكثر هشاشة من حيث التأطير والتوجيه أيضًا، إذ يتحدث أستاذ علم الاجتماع البروفيسور عبد الرزاق أمقران عن ثلاثة أنواع من البحوث أهمها: (البحث التنظيري، البحث التطبيقي، البحث الموجه للمنتج)، كما دعا إلى إخراج التعليم الأكاديمي من أطره التخصصية إلى التخصصات البينية التي تحركها المشاكل المترابطة والظواهر.

ما نلاحظه في أقسام الجامعات، تجاهل حقيقة مؤداها أن المشاكل الملحة يفترض أن يساعد فيها البحث الجاد على الحل، وتكييف التخصصات الموجودة في الجامعة مع ما يقتضيه الوضع الراهن في المجتمع.وفسر البروفيسور أمقران ذلك بقوله: "الكثير من التخصصات اليوم والتي نجد فيها نوعًا من الإقبال لدى الطلبة سواءً بفعل الرغبة أو بفعل التوجيه على أساس المعدل، أصبحت غير قادرة على مجابهة التغيرات الحاصلة في العالم اليوم، و لا تزال معتمدة على نمط البيداغوجيا التقليدية التي مفادها "تعلم لتعرف". بينما الواقع يؤكد لنا يوميًا أن "التعليم يقع في صميم التنمية الشخصية والمجتمعية".

البروفيسور عبد الرزاق أمقران:  تحقيق التنمية يستدعي انفتاح هذه التخصصات على المجتمع

 

وأكد على أن تحقيق التنمية، يستدعي انفتاح هذه التخصصات على المجتمع، وضرورة الاستفادة من البحوث العلمية في مختلف المجالات، يحتم ربطها بمختلف المجالات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والثقافية.