رغم تأكيد الحكومة الجزائرية في أكثر من مناسبة أنها أعدت العدة وأحبكت التخطيط لتفادي تكرار سيناريو حرائق 2021 بتيزي وزو وبجاية ومنطقة القبائل، إلا أن الأمور سارت خارج السيطرة بداية من 15 آب/أوت الجاري، حيث غطت ألسنة النيران ولاية الطارف ومناطق أقصى شرق البلاد، في مشاهد حمراء، كأنها مسربة من فيلم رعب يثير هلع كل من يلمحه.
المعلومات المتوفرة لدى مديرية الغابات تفيد أن أشخاصًا كانوا يرغبون في توسيع مساحتهم السكنية فلجأوا إلى حرق الغابات
في هذا السياق، قال وزير الداخلية والجماعات المحلية كمال بلجود في تصريح للتلفزيون العمومي مساء الأربعاء 17 آب/أوت إن "السلطات الجزائرية تحاول السيطرة على الحرائق، لكن درجات الحرارة والرياح تصعبان المهمة".
واتهم وزير الداخلية أطرافًا لم يحددها، بافتعال بعض الحرائق مشددًا على أنه تم تجنيد آلاف العناصر من الحماية المدنية والجيش لإطفائها، واعترف بالمقابل بحدوث عطل بالطائرة الروسية المستأجرة وذلك خلال أدائها مهامها في واحدة من الحرائق منذ ثلاثة أيام.
أطراف مجهولة؟
وأثارت تصريحات وزير الداخلية الحيرة في أوساط مواطني المنطقة، كما يتساءل خبراء عن مدى استفادة السلطات الجزائرية من تجربة نشوب النيران السنة الماضية، ولماذا لم يتحقق مشروع اقتناء طائرات متطورة لإطفاء الحرائق؟
إلا أن السؤال الأبرز الذي يتداوله الجميع، ما علاقة الفعل الإجرامي بحرائق الطارف وولايات شرق البلاد؟ وهل هنالك أطراف دفعت إلى إشعال النيران؟ ومن كان يقصد وزير الداخلية في اتهاماته؟
من "الماك" إلى الفعل الإجرامي؟
واذا ارتبطت حرائق صيف 2021 باسم تنظيم "الماك" المصنف في خانة الإرهاب، وهي الحركة الانفصالية الداعية لانفصال منطقة القبائل، حيث أفادت التحقيقات الرسمية وقتها بضلوع بعض عناصره في تدبير مؤامرة بتيزي وزو، فإن حرائق 2022 مرتبطة بجرائم من نوع خاص.
ويكشف مدير الوقاية من الحرائق على مستوى مديرية الغابات رشيد بن عبد الله عن أسباب نشوب النيران بعدد من ولايات الوطن الشرقية خلال الساعات الأخيرة، قائلًا إن ارتفاع درجة الحرارة بشكل مفاجئ وعلى مدار أسبوع تسبب في لهيب حرائق كبرى، لاسيما في الولايات الشرقية، إلا أنه عاد ليؤكد أن العنصر البشري يبقى دائمًا مصنفًا ضمن أحد أسباب نشوبها حتى وإن ساهمت الحرارة والرياح في انتشارها بشكل سريع.
محدث "الترا جزائر" يجزم أن التحقيقات الأولية التي أجرتها مصالح الدرك الوطني أثبتت أن العنصر البشري متورط في العملية، إذ تم خلال الأسبوع الماضي إلقاء القبض على بعض المتورّطين بعد ورود معلومات من قبل السكان.
وحسب المعطيات المتوفرة لدى مديرية الغابات، فإن الفعل الإجرامي كان وراء الحرائق المسجلة بالطارف وولايات أخرى، فهناك أشخاص كانوا يرغبون في توسيع مساحتهم السكنية فسولت لهم أنفسهم إضرام النيران، كما أن هنالك من كان يرغب في تجديد الغطاء النباتي، إلا أن كافة هذه التجاوزات غير مبررة، وتصنف ضمن خانة الجرائم الكبرى غير المغتفرة، وفق المتحدث.
ويقول رشيد بن عبد الله إن مصالح الغابات تلقت خلال آخر أسبوع العديد من المكالمات الهاتفية من أشخاص ومواطنين يبلغون عن تورط بعض جيرانهم في إشعال النيران، لاسيما وأن هؤلاء عانوا الأمرين خلال حرائق السنة الماضية، ويرفضون أن يتكرر السيناريو.
ويندد النائب بالمجلس الشعبي الوطني من شرق البلاد هشام صفر بإضرام هذه الحرائق ويعتبرها تجاوزات خطيرة لا تغتفر، ويدعو السلطات إلى تطبيق أقصى العقوبات على كل من تورط من قريب أو من بعيد في مثل هذه التجاوزات.
ويشدد صفر في تصريح لـ "الترا جزائر" أن إضرام النيران وسط الغابات والغطاء النباتي جريمة ضد الإنسانية تسببت في مقتل 26 شخصًا شرق البلاد، وهو ما يدعو الجهات الأمنية والقضائية إلى التعامل بحزم مع هؤلاء وألا يمسهم العفو ولا الرحمة.
400 حريق التهم الأخضر واليابس
وحسب مدير الغابات فإن حرائق سنة 2022 "كانت منتظرة، لكن ليس بهذه الحدة، فرغم التنسيق الكبير بين مديرية الغابات والحماية المدنية والجيش الوطني الشعبي وحتى المواطنين، ورفع نسبة اليقظة إلا أن الأمور ازدادات سوءًا خلال الساعات الأخيرة التي شهدت نشوب حرائق الطارف وسوق أهراس.
ويكشف بن عبد الله عن تسجيل منذ بداية شهر جوان/حزيران 2022 400 حريقا، وخلال شهر آب/أوت لوحده سُجّل 170 حريقًا.
ورغم أن مديرية الغابات أعدت مخططات دقيقة لمواجهة الحرائق قبل بداية موسم الاصطياف، بالتنسيق مع القطاعات المعنية، إلا أن الأمور شهدت خلال الأسبوع الثالث من آب/أوت منعرجًا خطيرًا بعد توسع دائرة الحرائق.
وسارعت حركة مجتمع السلم إلى التنديد بهذه الحرائق، ويقول رئيسها عبد الرزاق مقري في بيان تلقت "الترا جزائر" نسخة عنه، "تتابع حركة مجتمع السلم ببالغ الاهتمام هول الحرائق التي خلفت ضحايا بشرية وخسائر مادية فظيعة، وخاصة في بعض ولايات الشرق وغيرها، وعليه فإن الحركة تدعو جميع السلطات العمومية المركزية والمحلية، وجميع القوى السياسية والمجتمعية إلى تظافر الجهود في محاصرة هذه الحرائق، وتجنيب المواطنين والممتلكات العامة والخاصة مخاطرها المحدقة".
ويضيف مقري "تضع الحركة جميع إمكاناتها البشرية والمادية، من مناضلين وهياكل ومؤسّسات تحت تصرف الجهات الرسمية لمواجهة هذه الحرائق، وتتقدم بأصدق التعازي إلى عائلات ضحايا هذه الحرائق، وتدعو بالشفاء العاجل للجرحى، كما تدعو إلى حملات التضامن الوطني مع المتضررين، وفتح تحقيق معمق لمعرفة الأسباب الحقيقية وتحديد المسؤوليات".
تسبيقات مالية للفلاحين المتضررين
ولا يخفى على أحد أن أكبر فئة من المتضررين في مثل هذا النوع من الحرائق هم الفلاحين والمزارعين والموالين، الذين تنحصر مهامهم في ضمان سلة غذاء الجزائريين.
ويقول الرئيس المدير العام للصندوق الوطني للتعاضد الفلاحي، شريف بن حبيلس، وهي أكبر مؤسسة لتأمين أملاك الفلاحين في الجزائر، أن التعويضات ستصل هؤلاء بمجرد تسجيل أنفسهم لدى المكاتب والمديريات الجهوية للصندوق في ظرف أسبوع أو 10 أيام على أكثر تقدير، مشددًا على أن مصالحه وموظفي الصندوق الذين تم منعهم من الخروج في عطلة متواجدين في الميدان ويعملون ليل نهار للوقوف إلى جانب هذه الفئة خلال هذه المحنة الصعبة، وللتمكن من تعويضهم في أقرب الآجال.
ويضيف بن حبيلس في تصريح لـ "الترا الجزائر" أن الأمر لم يقف عند تعويض الفلاحين، وإنما أيضًا منحهم تسبيقات مالية قبل صدور تقرير الخبرة أي بمجرد معاينة مكان الحريق لتمكينهم من إعادة بعث نشاطهم في أقرب وقت ممكن، خاصة وأن موسم الحرث والبذر يقترب، وانقاذهم من شبح الإفلاس الذي سيكون المواطن الجزائري ضحيته الأولى، فهؤلاء من يسهرون على توفير غذائنا.
حرائق الغابات أسوأ كوابيس الجزائريين خلال السنتين الأخيرتين حيث سجلت خسائر بشرية ومادية معتبرة
وفي النهاية تظل الحرائق أصعب كابوس جابهه الجزائريون خلال السنتين الأخيرتين، مسجلًا خسائر بشرية ومادية وبيئية، لا تنسى، فمتى ستتعلم السلطات الدرس وتدرك أن اقتناء عتاد متطور لرصد ومكافحة الحرائق بات أهم من الأكل والشرب؟