15-يوليو-2019

مشهد من مسرحية "قالوفة" لـ تعاونية أصدقاء الفن (فيسبوك/ الترا جزائر)

رغم أنّ اختيار كلمة "القالوفة"، التّي تعني محشر الكلاب عنوانًا للعرض المسرحي، الذّي كتب نصَّه فاروق داودي، وصمّم رؤيتيه الإخراجيّة والسّينوغرافيّة ميسوم لعروسي، وأنتجته "تعاونية أصدقاء الفنّ" في ولاية الشّلف، قد يضع المتلقّي في مسار معيّن للتلقّي قبل حصوله، إلّا أنّه يجد نفسه، ما أن تنطلق أحداث العرض، أمام مفاجئات متتاليّة تؤدّي به إلغاء حاسّة التوقّع والغرق في التّفاعل مع اللّحظة المسرحيّة المقترحة، فيصبح شريكًا بالتّفاعل لا بالتوقّع.

العرض المسرحي كان يسير على وتيرة الكوميديا السوداء التي تدفعنا إلى الضحك على المآسي

ليست معظم اللّحظات، التّي شيّد عليها العرض نفسه إلا كوميديا سوداء تضع الفرد والجماعة معًا أمام عيوبهما ونقائصهما واختلالاتهما وتواطؤاتهما، لمواجهتها بالضّحك على الذّات، تمامًا كما يواجه أحدنا نفسه في المرآة، ثمّ يشرع في الضّحك عليها، في محاولة منه للتحرّر منها.

اقرأ/ي أيضًا: "بانتورا".. مسرحية تنتقد الشّعب والحكومة في الجزائر

في فضاء سينوغرافي واعٍ بدور عناصره في مرافقة الأحداث وتسريعها، وفق ريتم تصاعديّ لجعل معطى المفاجأة يخدم السّياق العامّ للتّلقّي، وهو في الحقيقة منزل ذو موقع استراتيجيّ تعود ملكيته لشقيقة مجاهد مهاجر منذ أربعين عامًا، يعود فجأةً فيكتشف أنّها ماتت في رحلة الحجّ، حسب رواية ابن عمّه، الذّي وضع عينه على البيت، بتواطؤ مع مجاهد مزيّف وإمام المسجد، حتّى يحوّلوه إلى ملهًى ليلي.

 

لقد كانت إدانة التّواطؤ الذّي حصل بين الشّرعيتين الدّينيّة والثوريّة، على مدار سنوات الاستقلال، في الفضاء الجزائريّ، واضحة ومدروسة. بحيث نأت عن التّقريريّة والمباشرة والابتذال والشّعبويّة، كما نجد في كثير من الأعمال الأدبيّة والفنّيّة، التّي تناولت هذه الموضوعة، من خلال اللّجوء إلى ادّعاء المجاهد العائد أنّه فقد بصره، حتّى تأخذ الذّوات الأخرى المتعاملة معه راحتها في التلوّن والتّحرّك بما يجعلها قادرة، حسبها، على أن تخدعه بجعله يصدّق رواياتها.

غير أنّ فطنة المجاهد العائد إلى الفضاء، الذّي ساهم في تحريره قبل عقود، جعلته يُعرّيها ذاتًا فذاتًا، ويضعها أمام حقيقة كونها خانت الإنسان والمكان، مقابل مصالحَ مادّيةٍ ومعنويّةٍ. وهي التّعرية التّي جعلت المتلقّي ينتبه، في غمرة الضّحك، إلى جملة الخرابات، التّي حصلت وتحصل في ظلّ حكم هذه الذّوات الخائنة والمتاجرة بالشّرعيات المختلفة.

في غمرة الأحداث، قادني فضولي إلى منح أذنيّ للممثلين وعينيّ للجمهور، فرصدت حيرةً لدى كثيرين بين أن يتابعوا المشهد/ اللّحظة/ اللّقطة فوق الرّكح، أو يتحدّثوا مع الجلساء المجاورين لهم بخصوصها، بما يشي بأنّها حفرت فيهم، بالنّظر إلى لغتها الشّعبيّة وهواجسها القريبة منهم، فكان لا بدّ أن يصدروا ردود أفعال.    

من هنا، كان المتلقّي شريكًا في الفعل المسرحيّ، على مدار ساعة وعشر دقائق. وقد كانت الشّراكة قابلة لأن تتوسّع لو تمّ كسر الجدار الفاصل بين الممثلين والجمهور نهائيًّا، في محاولة للانسجام مع لحظة الحراك الشّعبيّ القائم، الذّي مارس فعل التّكسير رمزيًّا لكثير من الجدران، التّي كانت تفصل بين الشّعب والفاعلين في المستويات العليا.

لقد بدأ تواطؤ الشّرعيات المزيّفة ضدّ الملكيّة الحقيقيّة للبيت (الوطن)، حين غاب محرّره الحقيقي. وبدأت خيوط الخيانة تتفكّك حين عاد، ثم سقطت تمامًا حين نزع النّظّارة السّوداء، وظهر أنّه كان يرى كلّ شيء على حقيقته. وهي مراحل يمكن إسقاطها على الواقع الجزائريّ، لندرك أنّ ما قامت به عصابات الحكم هو ثمرة لإيمانها بأنّ الشّعب فقدَ دوره في المراقبة والمتابعة والاهتمام بالمستقبل السّياسيّ للبلاد، ثمّ اندلع الحراك السّلميّ مفنِّدًا هذا الاعتقاد.

عرض "القالوفة" بات من العروض المسرحيّة التّي واكبت الحراك الشعبي وتعالت على الشعبويّة

سواء تمّت كتابة نصّ العرض قبل لحظة الحراك، الذّي انطلق يوم 22 فيفري/ شباط الفائت، كما أكّد لنا صاحبه ذلك، أو خلاله، فإنّ عرض "القالوفة" بات من العروض المسرحيّة، التّي واكبت الحدث وفق نظرة انتصرت للفنّ، وتعالت على الشعبويّة، ووضعت المتلقّي الجزائري أمام سؤال جوهريّ: هل ستستعيد البيت؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تونس-الجزائر: شراكة مسرحية

"الغلطة".. مسرحية التحولات الاجتماعية الجزائرية