ربما تكون الجزائر حالة استثنائية في العالم العربي من حيث الانتماء الثقافي واللغوي، بوصفها أيضا دولة استقلت حديثًا عن سلسلة تاريخية من الاستعمارات، لتجد نفسها عبارة عن تشكيل سياسي موحد بهجنة ثقافية متنوعة.
تنكرت دولة الاستقلال للتنوع تحت مسمى "الشعب الواحد" معتقدة أن صهر التنوعات في تشكيل سياسي واحد يجب الهوايات المحلية
قامت الثورة التحريرية على فكرة الشعب الواحد، لتتجاوز التقسيمات العرقية واللغوية التي قام عليها النظام الاستعماري. لكن الدولة المنبثقة عن الاستقلال تنكرت لذلك التنوع، باسم مقولة "الشعب الواحد"، مُعتقدة أنه يمكن إلغاء تلك التنوعات وصهرها في تشكيل سياسي واحد، يجبُّ الهويات المحلية، تحت شعار الأمة والدولة الوطنية.
اقرأ/ي أيضًا: الحراك الجزائري حصاد تراكمي.. لا شيء من العدم!
لكن ذلك الاعتقاد لم يصمد طويلًا، ابتداء من 1980، حين انفجر الربيع الأمازيغي، مطالبًا بالاعتراف الرسمي بالهوية الأمازيغية، ثم توالت مطالب مشابهة.
اليوم وبعد قرابة 40 سنة من ذلك الحراك، تعيش الجزائر حراكًا أكثر جذرية وأوسع شعبية. ورغم أن الحراك الحالي وطنيّ، يمس كل المناطق، إلا أن الهويات المحلية ظهرت فيه أكثر جلاءً وإلحاحًا، إلى درجة أن النظام السياسي نفسه وجد فيها مطية وحيلة لتقسيم الحراك.
وهذا ما يضع الآن التغيير بين أولويتين إحداهما تؤجل الأخرى، بل قد تلغيها: بقدر ما يصر المتظاهرون على مطلب إعادة الاعتبار للهويات الثقافية والقطع مع الممارسات الشمولية للنظام السابق، بقدر ما يجد عرابو النظام في ذلك مطية للتخويف من أخطار تهدد الوحدة الوطنية يحملها هذا الحراك.
تاريخيًا، ومنذ 1949، ظل مطلب الهوية الثقافية مؤجلًا بحكم أولوية تصفية الاستعمار الخارجي. وبعد الاستقلال مباشرة، قُمع المطلب ودعاته من طرف الجيش الذي استولى على السلطة، وتبنى مباشرة القومية العروبية كأيديولوجيا جاهزة للدولة الفتية.
ورغم تنازلات السلطة قبل سنوات باعترافها باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية، إلا أن الحراك الأخير كشف أن الأمر أكثر تعقيدًا من الحلول الشكلية التي تقترحها السياسة. فالحراك نفسه ورث تلك المناورات والتلاعبات التي ظلت السلطة تعتمدها في فرض نفسها كبديل يحقق التوازن بين الجهات والمناطق.
في الجزائر ومنذ مئات السنين، تتعايش مجموعات بشرية متعددة الثقافة واللغة: العرب والقبائل والشاوية والطوارق وبني مزاب، تتعايش جغرافيًا واقتصاديًا، لكن لم يحدث أن تشكلت بينهم دولة مركزية واحدة بالحدود الحالية إلافي العهد الاستعماري الفرنسي، كما أن توحدها المؤقت لطرد المستعمر حول حدث الثورة، لم يكن مهيئًا لبناء "أمة واحدة" بشكل ديمقراطي، لهذا فقد تعطل المشروع الديموقراطي بتعطل مشروع الأمة، وظل النظام يمارس نفس الممارسات الاستعمارية في توظيف التعدد كنعرات بدل الاعتراف به كثراء ثقافي تجابه به رياح العولمة والشمولية.
ففي كل المجتمعات يُعتبر التعدد الثقافي واللغوي صمام أمان ضد الأنظمة الشمولية، وضد الهيمنة العالمية للثقافة الواحدة، لكن طبيعة النظام الجزائري المنغلق على نفسه، جعلته يوظف التعدد للهيمنة الشمولية وفتح الباب أمام التيارات الإسلاموية لخنق هذا التعدد.
لهذا، يمكن القول الآن إن التحدي الذي يواجهه الحراك الديمقراطي مزدوج: بقدر ما يجب الاعتراف بهذا التعدد وإثرائه ثقافيًا، بقدر ما يجب التمسك بوحدة الصف سياسيًا بين كل المناطق، حتى يقطع الطريق أمام توظيف السلطة له لخنق الحراك.
فمنذ بدء الحراك، لم تتوانى السلطة في اللجوء إلى التعدد لإثارة النعرات الجهوية والعرقية والثقافية في وسط المتظاهرين عبر توجيه الشعارات والرايات المحلية، وتوظيف الأبواق الإعلامية في بث الخطابات الجهوية والعنصرية.
إن فشل كل تلك المساعي، لحد الآن، هو ما يجعلنا نطرح أسئلة سياسية وأنثروبولوجية، حول مدى واقعية تلك التمثلات العرقية والعنصرية التي حافظ بها النظام السياسي على وجوده كل هذه المدة، وكيف استطاع الشعب الجزائري لأول مرة في تاريخه أن يسقط تلك المخاوف والتمثّلات في ظرف شهرين، ويكتشف نفسه ووحدته؟
تتوحد الشعوب وتتجاوز خلافاتها الداخلية حين يكون الخطر جسيمًا، والإهانة تمس الجميع، وهذا ما شعر به الجزائريون حين أعلن الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة نيته للترشح لعهدة خامسة، وانبطح لذلك كل زبائن النظام. الوحدة كانت سريعة بما يمليه الظرف الطارئ، لكنها كانت مدهشة. وينبغي على علم الاجتماع الكشف العلمي عن السر والأسباب التي لا يمكن إلا أن تكون سيرورة تراكمية، وتحوّل خفي وبطيء، كان يعتمل منذ سنوات.
أسباب تتعلق أساسًا بتحول مجتمع ريفي وزراعي إلى مجتمع المدينة والتجارة والصناعة، كما تتعلق بالدروس التي يمكن تتراكم من المحن التاريخية والحرب الأهلية.
أما الدرس الأساسي الذي ستكشف الأيام القادمة مدى رسوخه في الوعي الشعبي، فهو درس الديمقراطية بوصفها الطريقة الوحيدة للحفاظ على وحدة الصف من جهة، والاعتراف بالتعدد والتعايش معه من جهة ثانية.
فالمجتمعات المتأخرة ديمقراطيًا، لا تزال تفهم حكم الأغلبية السياسية كتهديد للأقليات اللغوية والدينية والثقافية، بينما الديمقراطية بالأساس نظام يحمي حقوق كل الأقليات، لأنه يقوم على فكرة أن الأغلبية السياسية تتشكل من أقليات كثيرة، ويعطي حق التمثيل السياسي لكل مجموعة وطنية، ويقضي على المركزية السياسية باقتراح تمثيليات جهوية أو تنظيم فيدرالي للدولة.
كان الكلام عن الفيدرالية قبل الحراك محرمًا بسبب الخطاب المركزي للنظام، والآن صار محل نقاش كحل ديمقراطي لواقع ثقافي ولغوي متعدد
وفي الجزائر كان الكلام عن الفيدرالية، قبل الحراك الأخير، محرمًا بسبب الخطاب المركزي للنظام. أما اليوم فصار محل نقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، بوصفه حلًا ديموقراطيًا لواقع ثقافي ولغوي متعدد، وبوصفه بديلًا جذريًا عن الممارسات السابقة للنظام المركزي. وبقدر ما تسقط المخاوف والتمثّلات المسبقة داخل الحراك بقدر يظهر الاعتراف بالتعدد والاختلاف طريقًا أمثل نحو نظام ديموقراطي حقيقي.
اقرأ/ي أيضًا: