23-فبراير-2021

اليسار الجزائري من بين القوى الفاعلة في المشهد السياسي (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

نشأ تيّار اليسار في الجزائر منتصف القرن الماضي، في سياق ميلاد الحركة الوطنية المعاصرة، حيث ارتبط  في البداية فكريًا وتنظيميًا بالحزب الشيوعي الفرنسي، ليتخلّص من التبعية وينشقّ عن التنظيم الأممي والفرنسي بعد صحوة الوعي الوطني، ويرفع مطلب الاستقلال في أدبيات الحركة الوطنية عمومًا، وحزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج على وجه الخصوص.

استطاع التيّار الوطني الاستقلالي احتواء إطارات الحزب الشيوعي ورحّب بمشاركتهم في الثورة التحريرية

وإن تَأخر التيّار اليساري في طرح مسألة الاستقلال الوطني و تبنيه قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة ومحاربة الإمبريالية، استطاع التيّار الوطني الاستقلالي احتواء إطارات الحزب الشيوعي ورحّب بانخراطهم ومشاركتهم في الثورة التحريرية.

اقرأ/ي أيضًا: الذكرى الثانية للحراك الشعبي .. معركة الحريات مستمرّة

كان للتيّار اليساري بعد الاستقلال محطّات ومسارات سياسية تأرجحت بين التحالف مع السلطة والمعارضة في إطار العمل السرّي، وبعد التعدّدية الحزبية سنة 1989، شهد التيار بمختلف ألوانه وتكتلاته ضعفًا في البنية التنظيمية والتيه الفكري، وعدم انسجام المواقف أمام الأحداث التاريخية والسياسية، وشكّل الحراك الشعبي مؤخّرًا، فرصة لإعادة ترتيب أوضاع قوى التيّار اليساري، إلا أن صدارة المشهد السياسي تبقى تحتكرها قوى التيّار الإسلام السياسي والتيار الوطني.

أسباب الإخفاق 

في سياق الموضوع يقول الباحث والإعلامي محمد بن زيان، إنه لا يُمكن استيعاب الراهن بدون اعتبار الخلفيات التاريخية، مؤكّدًا ارتباط الاتجاه الثوري باليسار الوطني. وأشار محدثنا أن مشكلة اليسار بمختلف اتجاهاته، تكمن في انفصاله عن المتغيرات ممّا جعله عاجزًا عن التجذّر اجتماعيًا، على حدّ تعبيره.

يضيف بن زيان، أن التيار الإسلامي الراديكالي هو المستفيد الأوّل من فشل التيار اليساري، أما أسباب الإخفاق التي يحصيها الباحث، فهي "نتيجة التغييب لاستيعاب خصوصيات المجتمع عند كوادر التيّار اليساري، واعتماده على اجترار براديغمات نمطية، كمثال على ذلك مقاربته للمسألة الدينية".

هنا، يعلّق المتحدّث أن الاجترار "أفقد اليسار القدرة على إبداع في الإستراتيجية والتكتيك، وأفقده القدرة على امتلاك آليات التجاوز للمأزق".

ملامح العجز تكمن، حسب بن زيان، في لغة التواصل عند اليسار، التي لم تواكب سيرورة التاريخ وانفصلت عن العمق المجتمعي، موضّحًا أن من بين انكسارات التيار، استنساخه لمنطق الأحادية واشتراكهم مع السلطة في الإرث اليعقوبي والشعبوي والسلطوي.

في مقابل ذلك، يبدي الباحث تفاؤله بمستقبل التيار اليساري، إذا تحقق تجاوز المرحلة وبلور الرؤية المحققة فعليًا، "إذ أن اليسار المنشود هو يسار إنساني واجتماعي. يسار يعيد تجديد النظر لمرجعياته والصياغة لآفاقه مآثر التيار اليساري".

من جهته، يتحدّث  المناضل السياسي عبد النور بكور في حديث إلى "التر جزائر"، عن تجربته النضالية وانتمائه اليساري، إذ يشدّد على الدور التوعي والالتزام السياسي والوعي الفكري والسياسي في أحضان اليسار، فقد ساهم انتماؤه الفكري والسياسي المبكّر إلى بلورة مفاهيم وقيم تتعلق بمفهوم الدولة، وممارسة النشاط السياسي، والعلاقة بالآخر، لتتعدى التجربة الإطار السياسي إلى الفضاء الحرياتي والشخصي والقيمي.

في هذا السياق، يقرّ محدثنا بضعف وهشاشة التيّار اليساري في الجزائر، متسائلًا في الوقت نفسه عن الأسباب ودوافع الفشل، مفترضًا: "عدم تجديد أدبيات الخطاب ووجود منظومة قيم اشتراكية عتيقة، واحتمال عدم قدرة استيعاب مجتمعي لمجموعة من الأطروحات والمفاهيم وبالتالي رفضها بشكل آلي".

يرفض بوبكر في مقابل ذلك، الطرح القائل إن أيديولوجية التيّار اليساري في الجزائر وراء عدم تجذره شعبيًا، إذ أن المعركة السياسية والميدانية هي أيديولوجيا، وهي صلب التجاذب والسجالات السياسية والثقافية والفكرية، على حدّ تعبيره

وفي تقدير المتحدث، فإن النضال من أجل المساواة الاجتماعية لم يبق حكرًا على التيار اليساري، حيث يتبنى التيار الإسلام السياسي الشعار والخطاب نفسهما بأسلوب دعوي وديني تعبوي فعال، ويتوقّع محدثنا أن تكون أهداف التيار اليساري وفق المتغييرات الإقليمية والعالمية تبقى بعيدة الإنجاز في ظلّ منظومة فكرية وسياسية قديمة، وفي مقابل حصيلة انجازات المجتمعات الليبرالية .

خريطة اليسار الوطني

من جانبه، يقول الباحث الاجتماعي والمحلّل السياسي لحسن خلاص، إن اقتفاء مسار تطوّر اليسار في الجزائر عملية معقّدة تتطلّب التمييز بين عدة متغيرات منهجيًا، هنا، يضع خلاص جدارًا فاصلًا بين اليسار كفكر وعقيدة، وبين التوجهات السياسية، موضحًّا أن ثمة فرق أيضًا بين اليسار النابت محليًا واليسار كامتداد للخارطة الأيديولوجية العالمية التي كرستها الحرب الباردة، والفرق بين اليسار المندمج واليسار الثوري المستقل، على حدّ قوله

وفي قراءة عن ظروف نشأة اليسار في الجزائر، يذكر الباحث أنه امتداد للصراع الايديولوجي بين الليبرالية والاشتراكية والشيوعية في العالم، مشيرًا أنّ اليسار في الجزائر هو ضمن فروع محلية لأمميات سادت لفترة ما بين العشرينات والتسعينات من القرن الماضي، ولا تزال بقاياها في جميع أنحاء العالم وقد تحوّل بعضها إلى ديمقراطيات اجتماعية وتخلّت عن نظرتها الشمولية

وعن مساهمات التيّار سياسيًا، قال المحلّل السياسي أن اليسار في الجزائر مارس دور الرقيب على سياسات السلطة التي تبنّت الاشتراكية واحتكار الدولة لوسائل الإنتاج، فتغلغل بعضه في المؤسّسات واختار البعض الآخر العمل في سرّية مثل بقية التيارات.

وبخصوص خريطة التيار اليساري في الجزائر، أشار خلاص أنها متعددة ومتنوعة، موضحًا أن بعض اليسار استظل بالعلمانية والتيار الثقافي الفرانكفوني والبربري، والبعض الآخر التزم بالبعد القومي العربي، ودخل في صراع مع التيار الإسلامي الذي ناهض الاشتراكية والقومية والعلمانية والبربرية.

منافسة التيار الوطني

ويعود إخفاق التيار اليساري حسب الباحث الاجتماعي، إلى الإطار النخبوي المتقوقع على نفسه رغم  أن خطابه يدّعي الانشغال بالطبقة العاملة. يقول المتحدث.

ويختم خلاص أن الحديث اليوم عن اليسار يعتبر جزءًا من ذكريات، إذا لا تزال المفردات اليسارية قائمة مثل التنادي بكلمة الرفيق ووصف المقاربة الديكتاتورية بالستالينية والحديث عن المكتسبات، على حدّ تعبيره.

ختامًا، يُمكن القول إن السياق التاريخي المتعلق بالفترة الكولونالية لم يبرز التيار اليساري-الشيوعي  كقوة راديكالية وثورية، تاركًا المجال إلى التيار الوطني الذي تبنى فكرة الاستقلال والتحرّر كقوة جامعة وإرث ومرجعية تاريخية، اكتسب التيار الوطني الشرعية السياسية.

إن الإخفاق التاريخي يُلقي بانعكاساته اليوم على التيار اليساري في البلاد

إن الإخفاق التاريخي يُلقي بانعكاساته اليوم على التيار اليساري في البلاد، الذي عجز وفشل في استقطاب الفئات الاجتماعية المحرومة أو حتى التمثيل العمالي والنقابي، لكن يبقى التيّار من بين القوى الحيّة الفاعلة في المشهد السياسي قصد المساهمة في البناء الديمقراطي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسيرات شعبية في عدّة ولايات.. هل هي عودة الحراك الشعبي؟

مسيرة شعبيّة في خرّاطة.. عودة الحراك؟