تقول إحدى أغاني فرقة تيناريوين "شربت كأس شاي واحد، فزال الظمأ الذي كان يسكنني". لقد ارتبط الشاي ارتباطًا وثيقًا بالفضاء الصحراوي في الجزائر وصارت صورة الرجل الصحراوي الملثم المتربع على الأرض وهو يحضّر إبريق "آتاي" على الرمل راسخة في المخيال الجماعي. ولقد أولى أهل الجنوب أهمية كبيرة للشاي لدرجة تقديسه، فهو المشروب الذي يقدم في مناسبات الحزن والفرح، وهو أول ما يشربه الضيف. إنه صديق الصحراوي في الحل والترحال، ذلك الرجل القادم من الأقاصي يحمل عالمه داخل إبريق، يرتاح حين يرتشف الجرعة الأولى، يحملق في السماء ويقول "الدنيا كاس".
لقد أولى أهل الجنوب الجزائري أهمية كبيرة للشاي لدرجة تقديسه فهو المشروب الذي يقدم في مناسبات الحزن والفرح وهو أول ما يقدم للضيف
منذ سنوات، شهدت عديد المدن الجزائرية توافدًا للشباب من الصحراء، صاروا يمتهنون تحضير الشاي وبيعه، إذ تكاد لا تخلو مدينة جزائرية أو تجمع سكاني أو مركز تجاري من بائع شاي. وغالبًا ما يحمل محل بائع الشاي اسم "شاي تيميمون"، نسبة للواحة الحمراء وعروس الصحراء مدينة تيميمون والمعروفة بجودة الشاي الخاص بها ومهارة أبنائها في تحضيره.
وقد دفع رواج هذا الاسم أحدهم كي يتساءل: "هل بقي في تيميمون رجل واحد يصنع الشاي لأهلها؟ لكن الحقيقة أن الاسم يعتبر "بريستيجًا" فقط فالكثير من الشباب قدموا من مدن مختلفة كأدرار وتمنراست. ولكن ارتبطت التسمية في ثقافة الجزائريين كما ارتبط لقب "التونسي" ببائع الزلابية والحلويات الشرقية.
لم يكن عبد الناصر يعلم أن قدومه في زيارة لقريبه في الجزائر العاصمة قد يقوده للمكوث فيها، كان ذلك قبل عشر سنوات حين مكث أسبوعًا بالإقامة الجامعية لباب الزوار أين قرر ذات ليلة أن يحضر الشاي على الطريقة الصحراوية في ساحة الإقامة. أعجب مسيّر مقهى الإقامة بطعم الشاي، الذي كان أصيلًا ويحمل عبق اللذة الصحراوية الخالصة، فتحول عبد الناصر للعمل داخل ذلك المقهى لمدة شهرين ثم التحق بباعة متجولين أخرين كانوا يحضرون الشاي في غرفة قاموا بكرائها ويتجولون بأباريقهم النحاسية الموضوعة فوق موقد من الجمر ليقصدوا الأسواق ومواقف الحافلات وفضاءات التنزه وكذا الإدارات العمومية والشركات.
وصار باعة الشاي وصيحاتهم الصباحية من أثاث المدينة، وصار شاي عبد الناصر برائحة النعناع علامة مسجلة في أحياء باب الزوار.
يقول عبد الناصر لـ"الترا صوت": "من هنا بدأت رحلتي حيث عرض علي شاب من العاصمة أن أدخل معه شريكًا في محل لبيع الشاي والمكسرات بمنطقة سعيد حمدين، لم أكن أملك مالاً لدخول مشروع كهذا مع غلاء تكاليف الإيجار في العاصمة لكن ذلك الشاب تكفل بتكاليف المشروع على أن أتكفل كليًا بالعمل فيه وتسييره، صرت أعمل لأزيد من 13 ساعة يوميًا خاصة في فصل الصيف أين يبلغ الطلب ذروته، كما قمت بجلب شباب من مدينتي أحضر لهم الشاي ويقومون هم بالتجول في الشواطئ أو في منتزه "الصابلات" العائلي لبيعه وأمنحهم راتبًا على ذلك".
ويضيف: "فخور جدًا أن بعض مرتادي المقهى قد غيروا عاداتهم الصباحية وصاروا مدمنين على كأس شاي مركّز ليبدؤوا صباحهم، إنهم يقولون دائما أن شاي أهل الصحراء يختلف كثيرا عما تحضره العائلات في المنازل أو ما ألفوا شربه في المقاهي العادية".
منذ سنوات، شهدت المدن الجزائرية توافدًا للشباب من الصحراء، صاروا يمتهنون تحضير الشاي وبيعه ويلقون إقبالًا واسعًا
الحديث مع عبد الناصر لخمس دقائق كان كافيًا لتكوين طابور من الزبائن الذين ينتظرون جرعتهم اليومية من الشاي، وغالبيتهم وجوه معتادة على المحل وهناك من طلبوا منه أن يحضر لهم شاي مناسباتهم العائلية، وهي خدمة يقدمها عبد الناصر لجني بعض المال خارج دوامه، فيأخذ عتاده ويحضر الشاي في دار العريس وفق طقوس خاصة.
الجزائريون اعتادوا على أسطورة الكؤوس الثلاثة للشاي الصحراوي، حيث يكون الكأس الأول أقل تركيزًا فيما يكون الثالث مركزًا لدرجة تجعلك مستيقظًا لليلة كاملة، إنه سر لا يتقنه إلا الرجال القادمون من الصحراء، كأس شاي أتى به خصيصًا من مدينته مع بعض التوابل الخاصة والنعناع الأخضر واليابس يتراوح ثمنه بين 25 و30 دينارًا (حوالي 0.25 دولار)، مع مزيج من المكسرات، بهذا نجح شباب الصحراء في نقل الخيمة والواحة ورائحة الصحراء إلى أفخم أحياء العاصمة والمدن الكبرى الجزائرية.
لقد أصبح الشاي منافسًا قويًا للقهوة في الجزائر، وصار باعة الشاي يفتحون محلاتهم في كل زاوية وهو الشيء الذي تفطن له أصحاب المقاهي مما جعلهم يخصصون زاوية داخل المقهى خصيصًا لأحد الشباب الصحراويين لتحضير الشاي وبيعه داخل المقهى كي لا يهجره الزبائن، وكذا لجلب المزيد من الأوفياء.
لقد فرض هؤلاء الشباب أنفسهم بفضل جودة خدماتهم وطيبتهم وكرم أهل الصحراء الذي يسكن أرواحهم، وحبهم لمهنتهم فتحضير الشاي أمر فطري عند سكان الصحراء يتعلمونه منذ الصغر، يقول عبد الناصر: "من المستحيل أن يمضي الصحراوي يومًا واحدًا دون شاي، فقد تعلمنا منذ الصغر أن أول شيء نحمله حين الترحال يكون كيس سكر وإبريق شاي".