30-أكتوبر-2022
جنود فرنسيون يفتشون مواطنين جزائريين (الصورة: Getty)

جنود فرنسيون يفتشون مواطنين جزائريين (الصورة: Getty)

يعود مرة أخرى الجدل حول تفاصيل دقيقة من تاريخ الجزائر ومرحلة الاستعمار الفرنسي الذي عمّر لأزيد من 130 سنة، كما تعود "العبارات المسيئة" لوصف الثورة التحريرية الجزائرية، من مصطلحات وكلمات ونعوت، ونمطية في التعبير عمّا حدث في مختلف مراحل الاستعمار  الطويلة والعصيبة والعنيفة، فما هي خلفية حرب المصطلحات التاريخية بين الجزائر وفرنسا؟

الباحث شويتم أرزقي:  بالرغم من غزارة الكتابات التي خصصت لتاريخ الجزائر، فإن التركيز فيها كان على بعض الجوانب منه دون غيرها

في هذا السياق،وجد باحثون في التاريخ الجزائري "ثروة حقيقية" من الأحداث والتفاصيل التي لا يمكن المرور عليها دون توقّف، أو حتّى الرجوع لها دائمًا لأنها لم تأخذ نصيبها المهمّ من البحث والتحري وتسجيل الشهادات وتوثيقها، وإعادة ترميم الوثائق وقراءتها وتفسيرها وربط ما يتشابه فيما بينها ببعض.

مرّة أخرى وليس أخيرة، طغت الرواية الأخرى، أو الرواية المغايرة للواقع التاريخي الجزائري، فالحكم على سياق تاريخي في قرن فائت يستوجب الكثير من " الرّحمة" كما يذكر ذلك الكثير من الباحثين في التاريخ ممن تشربوا الفعل التأريخي على قلتهم ومحاولة تأطيره بالكثير من الحذر، خصوصًا وأن ما اقترفته الآلة الاستعمارية في الجزائر كانت جريمة إنسانية، فالأحداث التي تواترت منذ وطأة الاستعمار الفرنسي تنبئ بجرائم وهضم لحقّ الأرض لا غير.

هناك روايات تبنى على أساس سياسي وأيديولوجي وعلى لغة العقل بدل التثبّت من الوقائع، وإعادة قراءة التاريخ من عدة زوايا دون المساس بحق الشعب في احترام حقيقة الذاكرة الجماعية ولتضحيات أكثر من خمسة ملايين شهيد طول مدة الاستعمار، من بينهم مليون ونصف شهيد في فترة الثورة التحريرية، والمساس أيضًا بالإنسان الجزائري، واغتصاب أرضه وممتلكاته وتهجيره وتقتيله.

قضية الجماجم

الجدل يعود ولن يتوقّف، مثلما نشرت "نيويورك تايمز" حول مسألة الجماجم، فالإعلام الأجنبي دائمًا تتحكم فيه ثنائية الحدث الماضي في الزمن ولغة أو مصطلحات لا تخرج عن خلفيات التأطير الإعلامية، أو بالأحرى، تنميط اللغة المستعملة والكلمات التي تصف الأحداث والأبطال والأشخاص والجرائم ومحاولة تبسيطها أو تسطيحها، بما يوائم الرواية الفرنسية، لأسباب كثيرة ولكن، من النّاحية التّاريخية فالمدوّنة الاستعمارية ماضية في تثبيت مصطلحاتها فماذا نحن فاعلون؟

في مسألة جماجم المقاومين الجزائريين التي تسلمتهم الجزائر في يوليو/ تموز 2020، والتي أثارتها الصحيفة الأميركية، معتبرة أن عدد منها كانوا "لصوص وقطّاع طرق" نفى وزير المجاهدين العيد ربيقة، ما تمّ تداوله في وسائل الإعلام، وهي أخبار عارية من الصحة، مشدّدا على أنّه "قبل نقل الجماجم إلى الجزائر، تمّ تحديد هويتها وفق المعايير العلمية المتعارف عليها وعلى أعلى مستوى"، كما لفت إلى أنّ "المغزى من إثارة هذه المواضيع يستهدف الدولة الجزائرية".

وفي انتظار تقديم تفاصيل أوْفى كما تعهّد الوزير الجزائري بخصوص هذه القضية، نجد كثيرًا من الأطروحات التي تناولها الإعلام مازالت تثار في كلّ مرة حول الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وهو ما وصفه المتابعون لمثل هذه القضايا بأنّها نقاط ظلّ وجب التّعريج عليها في كتابة التاريخ.

وقال الباحث في التاريخ الجزائري شويتم أرزقي إن المؤرّخين الغربيين اهتموا في دراستهم اهتمامًا خاصًا بتاريخ الجزائر، مؤكّدًا على أهمية دراسة "المصطلحات والمفاهيم الواردة في المصادر الغربية حول تاريخ الجزائر"، وعزا دوافع العناية بتاريخ الجزائر حسب إفادته إلى "أغراض سياسية تخدم مصالح المحتل".

وأشار إلى أنه بالرغم من غزارة الكتابات التي خصصت لتاريخ الجزائر، فإن التركيز فيها كان على بعض الجوانب منه دون غيرها، كما أنه لاحظ أن "الموضوعات المدروسة كان الغرض منها تبرير الاحتلال الفرنسي للجزائر من جهة، وتعزيز ظاهرة الاحتلال من جهة أخرى".

وبذلك فإن اعتبار الجماجم التي استرجعتهم الجزائر "لصوصًا وقطاع الطّرق" بحسب زعم الصحيفة الأميركية، أمر يحتاج إلى معالجة.

أُريكُم ما أريد

من خلال التمعّن في الدراسات وتمريرها على منظار التحليل والتمحيص والتدقيق، توضح للباحث شويتم أنها" دراسات تعوزها الموضوعية العلمية" حدّ تعبيره، إذ هي "تعكس وجهة نظر أصحابها ومواقفهم، وما يوكّد ذلك تلك المصطلحات والمفاهيم التي وظفوها في تناولهم لبعض القضايا المذكورة".

ووفقًا لما ذكره سابقًا، ألح الباحث على أن "هناك حاجة مُلحّة لإعادة قراءة ما كُتب عن تاريخنا، قصد تصحيح المصطلحات والمفاهيم التي وظّفها الغربيون في دراساتهم، وذلك حتى ننطلق في كتابة تاريخنا على أسس سليمة"، إضافة إلى "تعزيز ما كتبناه نحن".

من هذا المنطلق أيضًا، يمكن العودة لما ذكرته الصحيفة الأميركية، إذ لا يعدو إلا أن يكون وسيلة لتمرير قراءات مستجدة، تبعًا للمصالح التي لا تقبل إلا الرواية الرسمية التي تبتغيها المدونة الكولونيالية.

مدونة استعمارية

يختلف المؤرّخون والكتاب حول توصيف ما حدث في الجزائر، وإن يمكن التسليم بأن هناك ثلاثة نقاط مهمة في تدوين التاريخ وقراءته بمنظار الحاضر، ففي القاموس الداخلي الجزائري تعتبر أولا؛ تجربة ثورية وتحررية مختلفة في سياقها وفي أدواتها وفي أدبياتها هذا من الجانب الأول، وبالتالي فهي مختلفة تمامًا عن الطرح الكولونيالي، إذ لا يمكن استيعاب هذه التّجربة الممتدّة في الزمن بالمفاهيم التي استخدمها الاستعمار الفرنسي، حتى ليومنا هذا.

ومن هذه الزاوية، تشير بعض الكتابات إلى أن الرّؤى الاستعمارية، مازالت تحافظ على خطّ واحد، في نظرتها للمستعمرات القديمة، وخاصة ما تعلّق بفرنسا في الجزائر، مثلما يؤكد الباحث في التاريخ محمد بلعالي من جامعة الجزائر لـ"الترا جزائر"، لافتًا إلى أن اختلاف النظرة والرؤية يجعل كتابة التاريخ من حيث المصطلحات " صعبة المنال" للجانبين الجزائري والفرنسي.

وأضاف بلعالي في هذا الإطار، أنّ "كلّ يدافع عن وجهة نظره"، أو بالأحرى "عن تلك القراءة المتأنية لما حدث بالفعل"، مستطردًا: "نحن ننظر لاستعمار اغتصب الأرض والعرض وأرهب الشعب الجزائري وأخذ حقه ونكل بشعبه، ولا يمكن أن ننظر له بغير هذا المنظور".

أما من النّاحية الثّانية، فإذا كانت التجربة تختلف من حيث المعنى والأسباب والدوافع، فإن المدرسة التاريخية الجزائرية أو مدرسة كتابة التاريخ يجب أن تكون مختلفة ومستقلّة تماما عن مدرسة التاريخ الاستعمارية الفرنسية وهذا يعني أن المدرسة الجزائرية يجب أن تستخدم مصطلحاتها ومفاهيمها الخاصة.

ومثال على ذلك كلمة "شهيد" المدرسة الكولونيالية لا تستوعبها، ولا تعتبرها جائزة البتة في قاموسها الحالي اذ تستعمل فرنسا الضحية، وهنا نلمس بوضوح الفرق في المعنى والمبنى والفرق في الروح وفي القيمة.

وتعتبر كلمة شهيد في السياق الجزائري لها صلة مباشرة بالمرجعية الأساسية من مرجعية الثّورة ومرجعية المجتمع وهو الدّين، وبشكل أوضح أضاف: "الشّهيد لهُ معنى وطني ومعنى ديني ومعنى انساني ضحّى على بلده والحرية ومن أجل الذُّوذ عن قِيمه الدينية، ولأجل الآخرين".

ثالثًا، طرح المهتمون بدراسة الحقبة الاستعمارية، بأن العديد ليسوا مقاومين بالمفهوم الثّوري للمقاومة ولكنهم يدافعون عن حقهم في العيش والأرض والعرض خاصة في سنوات العجاف أو ما يوصف آنذاك بـ"الحملة التدميرية" نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مع عشرات الآلاف من المهجرين من أراضيهم في إطار سياسة الأرض المحروقة، ومذابح في حق 12 ألف شخص في العام 1832.

نافذة على ملفات عالقة

من خلال هذه النافذة التاريخية، لا يجب قبول المدونة الاستعمارية، إذ هي من منظور جزائري " لا تعنينا كجزائريين" فبمنطقهم الذي يسمي المجاهد بـ"الإرهابي"،والذي يريد العيش في أرضه وسقي محصوله بعدما قطعت عنه فرنسا الماء  فهو لصّ يعاقب بقوانين اللصوص، لذا يعتقد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة باتنة محمد غيموز بأنه لا يمكن أن نستسلم لما يسمى بـ"الذاكرة المشتركة" لأنه بمصطلحاتهم "حرب الجزائر" هي "ثورة تحرر بالنسبة لنا"، فالحرب يواصل محدث "الترا جزائر" في الاستعمال العام تعني معارك بين جيشين نظامين وبالتالي سيكون فيها ضحايا ومعتقلين وسجون ومعذبين، ولكن بالنسبة لنا "كنا في ثورة تحرير ندافع فيها عن الأرض والعرض والعيش".
 

وبالإضافة إلى كون أن الحرب تقوم بين جيشين نظاميين، فإنه من الواجب أيضًا أن تقع عليهما الاستحقاقات القانونية نفسها، مثل قانون الأسرى ولكن لم نكن جيش بل حركة تحرر التي لا تملك القوة الانضباطية وبالتالي مجموعتها تتصرف وفق ما تستدعيه حركة التحرر ووفق ما ينطبق عليها الميدان وما يمليه عليها الواقع والظرف وبالتالي لا توجد ذاكرة مشتركة.

وبالرجوع الى دوافع ممارسات فرنسا الاستعمارية للأرض والانسان ببنما دوافعنا لتحرير الأرض وبالتالي ليس لنا المدونة نفسها للتعليق أو لمحاسبة التاريخ وسياقاته بالمصطلحات نفسها.

ما تدين به فرنسا للجزائر أكبر من جماجم تضعهم في متحف كأية تحفة مادية أخرى

قضية الجماجم، تبقى "الشجرة التي تغطي الغابة"، بحسب الأستاذ غيموز، فما تدين به فرنسا للجزائر أكبر من جماجم تضعهم في متحف كأية تحفة مادية أخرى، وهو في حدّ ذاته جريمة مرتكبة في حق الإنسان، لافتًا في الأخير إلى الكثير من الملفات الواجب فتحها بجدية بين الجانبين الجزائري والفرنسي، ولا يمكن كتابة تاريخ دون اعتراف واعتذار وتعويض.