يتقصّد كثير من الجزائريين في سهراتهم بالمدن الكبرى، حوانيت "الشاي الصحراوي"، ليس لأن هذه النبتة تزرع في الجنوب الجزائري أو تُستقدم من هناك في رحلة قد تزيد عن الألف كيلومتر، ولكن كل السرّ في براعة أهله في طهي الشاي بأيديهم التي تتفنن في وضع مكوناته على نار هادئة، هدوء سكان الجنوب الجزائري، فقد أصبحت أغلب لافتات باعة الشاي تُشير إلى ذلك بوضوح بعبارة "شاي تيميمون" أو "شاي الصحراء" أو "شاي أدرار".
توجّه كثيرٌ من الشباب إلى الشمال حاملين معهم مهاراتهم المتوارثة، التي أتقنوها منذ الصبى دون الحاجة إلى شهادات أو تدريب مسبق
محلّات كثيرة في المدن الكبرى أصبحت تعتمد على عمال من الداخل الجزائري ومن أقصى الجنوب تحديدًا، ولن تكون بحاجة إلى فراسة حاذقة، لتعرف أنهم من سكان الجنوب الكبير، من أحاديثهم وملابسهم وأزيائهم وثقافتهم، حيث أصبح نشاط بيع الشاي في المدن الكبرى عامل جذب لأعدادٍ متزايدة من أبناء الجنوب على اختلاف فئاتهم العمرية.
توجّه كثيرٌ من الشباب إلى الشمال حاملين معهم مهاراتهم المتوارثة، التي أتقنوها منذ الصبى دون الحاجة إلى شهادات أو تدريب مسبق. هذا النشاط لا يمثل لهم مجرّد حرفةٍ، بل هو امتداد لتراثهم الثقافي. ومع تزايد الطلب على الشاي في المدن الكبرى وخاصة الشمالية منها، باتوا يضفون لمساتهم الخاصّة في كل كوب، مما يعزّز من حضورهم الثقافي ويضيف طابعًا مميزًا إلى هذا المشروب.
من جهة أخرى، لعب التغير في النمط الاستهلاكي للجزائريين دورًا محوريًا في انتشار ظاهرة بيع الشاي؛ فقد دخلت عادات غذائية جديدة إلى المجتمع، منها الإقبال المتزايد على الحلويات الشرقية والمكسّرات، والتي لم تعد مقتصرة على شهر رمضان أو الأفراح فقط بل أصبحت جزءًا من الحياة اليومية.
هذا التغيير أدّى إلى ارتفاع استهلاك الشاي بشكلٍ ملحوظٍ، حتى أنه بات ينافس القهوة من حيث الشعبية، ورغم أن الشاي كان في الماضي حكرًا على أبناء الجنوب أو أولئك الذين اختلطوا بهم في الجامعات والثكنات إلا أنه اليوم أصبح مشروبًا مفضلًا لمختلف الفئات الاجتماعية.
تعزّز هذا الاهتمام بالشاي مع حملات الترويج المكثفة التي ركزت على فوائده الصحية المتعددة؛ فالشاي الأخضر القادم من الصين أصبح يُعرف بأنه ليس مجرّد مشروب منعش يشرب ساخنًا، بل هو أيضًا منشط طبيعي، ومنبه يُضفي طاقة وحيوية على الجسم. كما يُعتبر مساعدًا على الهضم ووسيلة فعالة للتحكم في الوزن والنحافة، كما نال مكانة خاصة في ثقافة الاستهلاك اليومية كبديل طبيعي للعلاجات التقليدية أو الطب البديل.
هذا الإقبال المتزايد لم يعزّز فقط مبيعات الشاي، بل أثّر إيجابًا على مجموعة من الأنشطة التجارية المرتبطة به. فقد ازدهرت مشاريع تعبئة وتغليف الشاي المستورد لتلبية الطلب المحلي، وانتعشت تجارة المكسرات التي تُستهلك معه، مما خلق فرص عمل جديدة.
كما أن هذا الازدهار في الحركة التجارية شمل أيضًا تأجير المتاجر الصغيرة في عديد الأحياء وخاصة الشعبية منها، التي أصبحت محاور حيوية لتجارة الشاي والمكسرات، كما ساهمت تجارة الشاي في زيادة الإقبال على الحلويات التقليدية مثل "قلب اللوز"، التي كانت في السابق تطفئ أفران طهيه بمجرد توديع شهر رمضان المبارك.
إلى هنا، يرى رئيس المنظمة الوطنية لحماية المستهلك، مصطفى زبدي، أن "انتشار تجارة بيع الشاي الصحراوي في المناطق الشمالية، خاصة في المدن الكبرى، طبيعي نظرًا للطلب المتزايد عليه من قبل المستهلكين".
وتابع: "إنه يتناغم مع موضة العادات الاستهلاكية الجديدة". وأوضح زبدي في تصريح لـ"الترا جزائر" أن "موجة الرغبات الاستهلاكية تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن فترة زمنية إلى أخرى، أو كما يمكن وصفها بـ"الموضة الاستهلاكية التي قد تستمر لسنوات أو تتلاشى خلال فترة قصيرة".
وذكر أن "نشاط بيع الشاي الصحراوي والمكسرات يشهد إقبالًا كبيرًا من الجزائريين، خاصّة سكان المناطق الشمالية"، مشيرًا إلى أن "هذا النشاط ليس الأول من نوعه، حيث شهدت السنوات الماضية انتشارًا واسعًا لما يُعرف بالخيمات في المدن الكبرى، بما في ذلك الأحياء الراقية".
وأشار إلى أن هذه الخيم تعد بمثابة مطاعم متنقلة، حيث توفر أكلات تقليدية مثل "الشخشوخة" و"الزفيطي"، إلى درجة أن لا منطقة حضرية تخلو من مثل هذه الخيم والمحلات المتخصصة في بيع المشروبات والأكلات التقليدية، والتي تحمل أسماء مناطقها، مثل "شاي تيميمون"، "شخشوخة بسكرية"، أو "زفيطي بوسعادي".
وعزا البرلماني عفيف إبليلة، عضو البرلمان عن ولاية أدرار، الإقبال على الشاي الصحراوي إلى طريقة إعداده ونوعية الأوراق المستخدمة في تحضيره. وقال لـ"الترا جزائر": "طريقة التحضير التي تختلف عما يعده أصحاب المقاهي، والذوق الخاص به، منحا 'لاتاي' رواجاً منقطع النظير".
واستدرك، ردًا على سؤال حول ظاهرة إقبال شباب مناطق أدرار وعين تيميمون على هذا النشاط إلى درجة يمكن اعتبارهم مختصين فيه، بالقول: "شجع الإقبال على الشاي أبناء هذه المناطق على إنشاء نشاط تجاري والاسترزاق منه".
وربط البرلماني بين غياب فرص العمل والإقبال على هذا النشاط التجاري، وقال: "إن تزايد حجم الاستثمارات في قطاع المحروقات بالجنوب لم ينعكس إيجابياً على جميع أبناء هذه المناطق الساعين للحصول على منصب عمل قار ومُدرّ للثروة، وفي ظل كذا الظروف لم يكن لهم سبيل إلا العمل في ما هو متاح، ومن ذلك تجارة الشاي".
رقابة
وفي هذا السياق، ذكر عبد الله، الذي يشتغل في هذه المهنة، أن "تجارة الشاي بدأت كنشاط موسمي صيفًا، خصوصًا في الشواطئ والساحات العمومية والأسواق، ومع زيادة الإقبال عليه، تحول إلى نشاط دائم وشجع الشباب على البحث عن فرصهم".
ولاحظ أن "العمل في هذا المجال لم يعد حكرًا على محترفيه، حيث بدأ يستقطب أبناء المدن الشمالية"، مشتكيًا من ظاهرة "المعاندة"، أي تمركز الناشطين من أبناء منطقة واحدة في هذا المجال بجوار بعضهم البعض.
واشتكى أيضًا من ظاهرة غلاء أسعار الكراء وما يرافقه من ابتزاز يمارسه ملّاك المحلات لزيادة قيمة الإيجار مما يضطرهم في الغالب إلى الرحيل. وأشار إلى أن عددًا من معارفه اضطروا للتخلّي عن عملهم بسبب تقلب أهواء أصحاب المحلات.
يتعرض هذا النشاط لرقابة من أعوان الجودة والنوعية التابعين لقطاع التجارة، حيث يتم التفتيش الدوري والفجائي كأي نشاط تجاري والتدقيق في صلاحية المشروبات، المملّحات، والحلويات المعروضة للبيع. وذكر عبد الله أنه أجبر على سحب مشروب "تاكروايت" العشبي المنشط من التداول بأمر من أعوان التجارة، دون أن يحصل على تفسير رغم السماح ببيع منتجات منشطة أخرى.
الغلبة للقهوة
وفي دراسة للأستاذ حشلافي محمد بعنوان "الشاي في الصحراء الجزائرية: المشروب الأكثر شعبية وجمالية"، أشار إلى أن اكتشاف الشاي في المنطقة المغاربية جاء متأخّرًا عن القهوة، ويرجع الفضل في دخوله إلى الاستعمار الأجنبي الذي أوصله إلى أعماق الصحراء، حيث تبنته كواحد من المشروبات الأكثر استهلاكًا.
كما أورد إحصاءات تعود لفترة الاستعمار الفرنسي تُظهر أن استهلاك الشاي في تونس كان أكثر من الجزائر، ففي عام 1937 بلغ استهلاك تونس 1895 طنًا، بينما كان في الجزائر 1494 طنًا فقط. أما المغرب، فقد كانت تتفوّق على تونس باستهلاك 8320 طنًا من الشاي.
رغم زيادة عدد مستهلكي الشاي في الجزائر، إلا أن البلاد تبقى خارج تصنيف أكبر الدول المستهلكة له إقليميًا أو دوليًا
ورغم زيادة عدد مستهلكي الشاي في الجزائر، إلا أن البلاد تبقى خارج تصنيف أكبر الدول المستهلكة له إقليميًا أو دوليًا، بعكس القهوة. فقد أفادت إحصاءات اللجنة الدولية للشاي عام 2018 أن حصة الفرد في الجزائر من الشاي نصف كيلوغرام سنويًا، بينما تبلغ حصته بـ1.6 كيلوغرام من القهوة حسب تقديرات المنظمة الدولية للقهوة.