01-فبراير-2024
المواد الاستهلاكية

الجزائر عرفت مؤخرًا استقرارًا في أسعار ووفرة بعض المواد الاستهلاكية بفضل الإنتاج المحلي (الصورة: Getty)

أخذت الحكومة ملف تصنيع المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع على محمل الجد في السنوات الأخيرة، من خلال إطلاق مشاريع محلية توقف التبعية للخارج وتقلص تكلفة الاستيراد، وبالخصوص الحدّ من حالات الندرة والمضاربة في الأسعار التي تظل مشاكلها ترهق السلطة رغم الإجراءات المختلفة التي اتخذتها سابقًا.

أستاذ الاقتصاد فارس هباش لـ "الترا جزائر": إطلاق المشاريع لإنتاج المواد الأساسية يُعتبر خطوة حاسمة نحو تعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق الاكتفاء الذاتي

ورغم أن قطاعات إنتاج هذه المصانع كانت في السابق حكرًا إمّا على المؤسسات العمومية أو على رجال أعمال من ذوي الحظوة الخاصة، إلّا أنّ الأزمات المتتالية التي تحدث جراء الندرة في المواد الأساسية كالسكر والزيت وبعض الحبوب جعل الدولة تفتح المجال للاستثمار في هذا الميدان حتى وإن يظل محدودًا.

مشاريع محلية

في 25 كانون الثاني/جانفي الماضي، وقّعت مؤسسة "تافاديس" المتخصصة في تكرير السكر في الجزائر والتابعة لمجمع مدار الحكومي مذكرة تفاهم مع المؤسسة الأميركية "رياسول"، تهدف إلى تطوير مشروع مندمج لصناعة السكر، في صفقة تخرج التعاون بين البلدين عن قطاع المحروقات.

وحسب بيان لمجمع مدار، فإن هذا التوقيع سيضع أُسس شراكة إستراتيجية بين شركة "تافاديس" و"رياسول" الناشطة في منطقة تكساس في مجال الصناعة الغذائية.

ويتضمن المشروع المشترك زراعة الشمندر السكري "على نطاق واسع" وتحويله صناعيًا من أجل إنتاج "سكر أبيض جزائري 100% وفقا للمعايير الدولية".

ولا يقتصر هدف المؤسسة الجزائرية الحكومية على تلبية الطلب المحلي، إنّما أيضًا الولوج إلى أسواق تصدير جديدة وخاصة السوق الأميركية، بما أن التصدير خارج المحروقات يشكّل أولوية للبلاد، حسب تصريحات مختلف المسؤولين الحكوميين.

ويعدّ هذا المصنع من ضمن مشاريع أخرى تتعلق بالمواد الغذائية الأساسية ذات الإستهلاك الواسع، ففي 2021، تم استرجاع المؤسسة العمومية "محروسة" لصناعة الزيوت الغذائية الموجود مقرها بالعاصمة والمنتج لعلامة "صافية" للزيوت، حيث تم تحويلها إلى المجمع العمومي للصناعات الغذائية "أغروديف".

وينتج المصنع في مرحلة أولى 130 طنًا في اليوم، ليرتفع إلى 400 طنًا يوميًا بعد الانتهاء من أشغال التوسعة.      

وبما أن زيت المائدة من المواد التي عرفت ندرة واسعة، وبالخصوص خلال جائحة كورونا، فقد تم إطلاق مشاريع أخرى لخواص في مقدمتهم مجمع "سيفتال" الذي يحتكر هذا المجال منذ سنوات، لكن هذه المرة بإجباره على إنجاز مركب جديد لسحق البذور الزيتية محليًا أنجز بمحاذاة ميناء بجاية، بدل استيرادها من الخارج.

وتقدر طاقة معالجة مركب "سيفيتال" المملوكة للملياردير يسعد ربراب 22 ألف طن يوميًا من البذور الزيتية، منها 11000 طن من الصويا و6000 طن من عباد الشمس و5000 طن من بذور السلجم الزيتي أو الكولزا.

وتنتظر الحكومة أيضًا استلام مشروع المصنع التابع للمؤسسة العمومية الاقتصادية "كتامة أقروفود" لإنتاج الزيوت النباتية الخام بميناء جن جن ببلدية الطاهير، بجيجل، في الثلاثي الأول من العام الجاري، وهو المشروع الذي كان  يتبع لعائلة كونيناف قبل مصادرته، بعد إدانة أفراد من العائلة الثرية في قضايا فساد.

وتبلغ الطاقة الإنتاجية الإجمالية لمصنع كتامة 66 ألف طن في اليوم، ما يعادل 2.16 مليون طن سنويان منها 20 % زيوت نباتية خام و80 % أعلاف حيوانات ستساهم في رفع الإنتاج الوطني من اللحوم التي تظل أسعارها مرتفعة حتى اليوم جراء استيراد الأعلاف من الخارج.

وبالنسبة لمادة الحليب التي رغم استقرار العرض الخاص بها في الأشهر الأخيرة والحد من الطوابير الطويلة، إلّا أنها تظل مهددة بالندرة، وذلك من خلال المشروع الذي ستطلقه شركة "بلدنا" القطرية لإنتاج الحليب بالمزرعة النموذجية بمنطقة بوقطب في ولاية البيض.

إعادة نظر

أجبرت جائحة كورونا الجزائر كغيرها من عديد الدول المستوردة للمواد ذات الاستهلاك الواسع على تغيير رؤيتها لتحقيق أمنها الغذائي، حيث لم تستطع مليارات الدولارات التي تملكها البلاد من عائدات النفط أن تؤمن ضروريات الجزائريين مثلما كان يتم في السابق جراء الإغلاق العالمي الذي حدث، وتقييد الدول المصدرة للتوريد تجنبًا لحدوث حاجة داخلية.

وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة سطيف، فارس هباش لـ"الترا جزائر" إن "جائحة كورونا وما أفرزته من تذبذبات وتقلّبات وحتى صراعات على المستوى الدولي شكّلت منعطفًا هامًا في إعادة النظر في العديد من النقاط والمواقف والاستراتيجيات، ولعله من بين أهم الدروس التي ينبغي على أي دولة الاستفادة منها، هو ضرورة الاعتماد على مقدراتها المحلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، خاصة على مستوى المواد الغذائية الأساسية لكي تكون في منأى عن أي صراع أو مساومات كون أن الغذاء أصبح سلاحا في حد ذاته".

ولفت هباش إلى أنّ هذا الوضع جعل "الجزائر تُباشر العديد من الخطوات الإستراتيجية لضمان تغطية السوق بالمواد الأساسية المنتجة محليًا، ومن ثم ضمان أمنها الغذائي، واكتساب العديد من الفرص والمزايا التنافسية لتكون لها القدرة على الولوج إلى الأسواق الأجنبية وخاصة الأفريقية ".

وأوضح أستاذ الاقتصاد أن "إطلاق المشاريع المحلية لإنتاج المواد الأساسية على غرار الزيت والسكر يُعتبر خطوة حاسمة نحو تعزيز الاقتصاد الوطني، حيث تلعب هذه المشاريع دورًا حيويًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على واردات السلع الأساسية".

ويرى المتحدث أن أهمية هذه المشاريع  المحلية تكمن أيضًا "في تعزيز استقلالية البلاد في مجال الإنتاج والتصنيع، فعندما تكون الدولة قادرة على إنتاج موادها الأساسية بشكل ذاتي، تتقلص حاجتها للاعتماد على الواردات الخارجية، مما يحقق توازنًا في الميزان التجاري ويقلل من تأثير التقلبات العالمية".

أبعاد متعددة

يُشكل تحدي تقليص البطالة، وبالخصوص لدى الشباب رهانًا كبيرًا للحكومة، لذلك سارعت إلى إعادة بعث المشاريع العالقة، والتي من بينها المتعلقة بتصنيع المواد الأساسية واسعة الاستهلاك محليا، فعلى سبيل المثال مصنع كتامة للزيوت بجيجل يوفر على الأقل 350 منصب عمل مباشر.

وبين الدكتور فارس هباش في حديثه مع "الترا جزائر" إلى  أن" إطلاق المشاريع المحلية معناه اقتصاديًا خلق فرص عمل بالبلاد، حيث يتطلب عمل هذه المشاريع توظيف العمالة المحلية، مما يعزز مستوى الدخل ويقلل من معدلات البطالة، بالإضافة إلى ذلك، يتم تحفيز الابتكار وتنمية المهارات في مجتمعاتنا المحلية".

ويرى هباش أن تشجيع التصنيع محليًا يلعب "دورًا في تحسين جودة المنتجات المحلية، باستخدام التكنولوجيا الحديثة وتبني معايير الجودة الدولية، مما يمكن للمشاريع المحلية تحقيق تميز في الإنتاج، ويعزز سمعة المنتجات المحلية على المستوى الوطني والعالمي".

الخبير هباش: إطلاق المشاريع المحلية معناه اقتصاديًا خلق فرص عمل بالبلاد وهو ما يعزز مستوى الدخل ويقلل من معدلات البطالة

ويعتقد هباش أن الوصول لتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال هذه المشاريع يتطلب صبرا وتدرجا في البداية، بالنظر إلى إنه "رغم أهمية هذه المشاريع الإستراتيجية في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيزه مستقبلًا، إلا أن قدراتها الإنتاجية لا تغطي احتياجات السوق على المدى القصير، حيث تشير التقديرات الإحصائية على سبيل المثال إلى أن واردات  الجزائر من السكر الأحمر والمواد الأولية والمدخلات ما بين مليون و1.5 مليون طن، وتقديرات حاجيات السوق ما بين 2.2 و2.5 مليون طن، مع مستويات استيراد تقارب مليار دولار، أي هناك عجز إنتاج محلي تقريبا بحوالي مليون طن".

وبالنسبة لفارس هباش، فإن ما يبعث على التفاؤل هو إرفاق هذه المشاريع بتدابير وإجراءات لضمان توفير سلسلة الإنتاج بجميع حلقاته، بداية بزراعة المادة الأولية إلى غاية التحويل والإنتاج، ضمن إستراتيجية تهدف إلى تقليص الفجوة بين حاجات السوق المحلية وقدرة البلد لإنتاج هذه المواد محليًا، خاصة أنه "توجد العديد من التحفيزات لتشجيع المستثمرين على الولوج للاستثمار في هذه المنتجات الغذائية الأساسية، حيث تمنح قروض تصل إلى 90% للراغبين في الاستثمار في هذا المجال، ناهيك عن الامتيازات الكبيرة التي يمنحها قانون الاستثمار الجديد والتحسن التدريجي لمناخ الاستثمار في الجزائر مما يشجع على التوجه نحو التصنيع والتقليص من الاستيراد تدريجيًا".

تصدٍّ

 في 2011، عاشت الجزائر احتجاجات عارمة بعدة ولايات فيما عرف وقتها بـ"احتجاجات السكر والزيت"، وإن كانت التحقيقات المختلفة تضاربت حول أسباب تلك الاضطرابات التي عرفتها البلاد، إلّا أن الجميع اتفق على أن ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية  أو ندرتها قد يحدث أزمة في البلاد من الصعب التصدي لها وتجاوزها.

وما عزز هذا التخوف هو ما حدث خلال جائحة كورونا، حينما بلغت الندرة في مواد السميد والزيت والحليب إلى مستويات قياسية شابهت فترة التسيعينات، صاحبتها مضاربة كبيرة في الأسعار لم يستطع القانون الردعي الذي شُرّع من أجل ذلك في الحدّ منها إلّا بعد التعافي العالمي من الجائحة، وعودة النشاط الاقتصادي للدوران.

وفي هذا الشأن، يرى أستاذ الاقتصاد فارس هباش أن "هذه المشاريع الحيوية والإستراتيجية سيكون لها دورًا كبيرًا جدًا في التقليل من حالات الندرة والمضاربة في المدى القصير، ثم القضاء على مثل هذه الظواهر نهائيًا في المدى المتوسط والطويل، حيث تعمل هذه المشاريع على توفير المنتجات بشكل سلس ومدروس حسب احتياجات السوق كما تضمن متابعة مستمرة لحالات العرض والسوق من جهة".

الجزائر عرفت خلال فترة كورونا نُدرة في المواد الاستهلاكية ومضاربة كبيرة في الأسعار  لم يستطع القانون الردعي الذي شُرّع من أجل ذلك في الحدّ منها إلّا بعد التعافي العالمي من الجائحة، وعودة النشاط الاقتصادي للدوران

 وتابع هباش أنه "يمكن تفادي مشاكل ارتفاع الأسعار العالمية وانقطاع سلاسل التوريد العالمية بفضل هذه المشاريع، بالنظر إلى هذه المشاكل كثيرا ما أدت إلى حالات انقطاع المخزون وارتفاع قياسي في الأسعار، الأمر الذي يغذي ويشجع على المضاربة، إذ أن المنتج الذي يصنع محليا من السهل التحكم ومراقبة كل عمليات الإنتاج والتوريد الخاصة به، بالإضافة إلى التحكم الكلي في سلسلة التوزيع التي كثيرا ما شكلت ضغوطا حول الأسعار بالرغم من توفر المنتوج".

وبالنسبة لهباش، فإن "العالم يشهد اليوم عديد التحديات والرهانات في ظل التجاذبات والصراعات الإقليمية، لذلك لعل أحد أهم هذه التحديات هو تحقيق الأمن الغذائي الذي يعتبر مدخلًا رئيسيًا في تحقيق الاستقلال الاقتصادي ومن ثم السياسي، ومنه فإن هذا التوجه الاقتصادي الاستراتيجي الرامي إلى تلبية احتياجات السوق الوطنية من المواد الغذائية الأساسية انطلاقًا من الإنتاج المحلي يعتبر خطوة رئيسية في تحقيق الأمن الغذائي ومن ثم تعزيز موقف الدولة اتجاه أي صراعات أو تقلبات مستقبلية على مستوى الاقتصاد العالمي".

وإذا كان الجميع يتفقون على جدوى وأهمية التصنيع المحلي للمواد ذات الاستهلاك الواسع، فإنهم يربطون نجاحه بالجزائر بالتخلي عن العقليات القديمة المثبطة للاستثمار المحلي وعدم  التهاون مع بعض رجال الأعمال الذين يحاولون استعمال احتكارهم لإنتاج بعض السلع لأغراض سياسية بعيدة عن الحاجة الاقتصادية التي منحت لهم بسببها هذه المشاريع.