لم يكد يمض أسبوع عن تهنئة الرئيس عبد المجيد تبون لمُسيّر مجمع "سيفيتال"، مليك ربراب، عن تدشينه لأوّل مصنع في الجزائر لسحق البذور الزيتية (بولاية بجاية)، وهو المشروع الذي يرتقب أن يلعب دورًا هامًا في رفع إنتاج زيت المائدة محليًا، حتى أعلنت الشركة العمومية القابضة "مدار" عن مشروع مماثل بولاية جيجل عبر فرعها "كتامة".
رئيس المنظمة الوطنية للأمن الغذائي لـ"الترا جزائر": سحق البذور غير كافٍ لتحقيق الاكتفاء الذاتي من زيت المائدة، فالأولى إقامة زراعة للبذور الزيتية وتنويعها
ونشر البنك الخارجي الجزائري، وهو الممول الرئيسي للمشروع، تفاصيل عن الوحدة الإنتاجية الجديدة عبر صفحته الرسمية بالفايسبوك بتاريخ 8 حزيران/جوان 2023، مؤكدًا: "أشرف الخميس المدير العام للبنك الجزائر الخارجي لزهر لطرش على مراسيم التوقيع على اتفاقية قرض استثماري مشترك طويل المدى لفائدة شركة كتامة افري فود أحد فروع مجمع مدار هولدنغ".
وتضمن منشور البنك أيضًا: "مراسم التوقيع التي حضرها رئيس مجمع "مدار هولدينغ" عمارة شرف الدين ومدير مجمع كتامة، إلى جانب إطارات من الطرفين، حيث يمول بنك الجزائر الخارجي بصفته البنك الرائد إلى جانب 3 بنوك عمومية شريكه مجمع درس البذور الزيتية بطاقة إنتاجية تقدر بـ 1,6 مليون طن سنويًا."
ودعا تبون مطلع حزيران/جوان 2023 المتعاملين الاقتصاديين إلى إنجاز مشاريع مماثلة لإنتاج الزيت وحتى السكر، وهما المادتين اللتين كانتا محلَّ مضاربة واحتكار وإلهاب الأسواق وإشعال فتيل الاحتجاجات طيلة السنوات الماضية في الجزائر، أشهرها احتجاجات سنة 2011.
وتحوّل منذ ذلك الوقت الزيت والسكر إلى "صداع" يؤرق الحكومات المتوالية على رئاسة الجهاز التنفيذي في البلاد، رغم كثرة المنتجين وتوفر الإمكانيات لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
وأمر الرئيس مطلع السنة الجارية المتعاملين الاقتصاديين بتحقيق الوفرة لهاتين المادتين ووقف استيرادهما من الخارج، كهدف مُسطَّر خلال سنة 2023، مع توفير السكر من الحقل إلى المستهلك وإنتاج الزيت محليًا، فهل تنجح السلطات في هذا التحدي؟
غير كاف..
ويرى رئيس المنظمة الوطنية للأمن الغذائي، كريم حسن، في تصريح لـ"الترا جزائر" أن سحق البذور غير كافٍ لتحقيق الاكتفاء الذاتي من زيت المائدة، فالأولى إقامة زراعة للبذور الزيتية وتنويعها، والتعاقد قبل الزراعة مع المصانع التحويلية، بحكم أن تنويع الزراعات الزيتية العامل الأول المحقق للاكتفاء الذاتي.
وتستورد الجزائر أكثر من 98 بالمائة من حاجاتها من البذور الزيتية، على غرار "الصوجا"، التي تعد الأكثر طلبًا للإنتاج الصناعي والأكثر استهلاكًا لدى الجزائريين.
ومعلوم أن تطوير المحاصيل الزيتية من الأصناف الاستراتيجية يتطلب كفاءة عالية في الانتاج واكتساب خبرة من التجارب السابقة، كزراعة السلجم الزيتي، التي شهدتها الجزائر بداية من سنة 2021، في حين لم يتعاقد المنتجون حتى مع مؤسسات التخزين والتحويل، ولم يخضعوا للمسار التقني المفروض عند الإنتاج، وهو ما أدى إلى تعفن البذور بسبب زيادة كمية السقي قبل الحصاد، وتكبد هؤلاء خسائر باهظة.
ويجزم المتحدث أن "المرافقة والإرشاد ضروريان لأي زراعة جديدة بمنطقة ما، حيث لا يمكن التخلي عن تكوين المزارعين، لبلوغ هدف تنويع مصادر الزيوت من الصوجا والسلجم الزيتي وعباد الشمس والفول السوداني، وهي زيوت كلها أساسية واستراتيجية لإنتاج زيت المائدة، وبالأخص الصوجا."
ويرى كريم حسن أن "الاكتفاء زراعيًا من هذه المواد، حُلم يجب تحقيقة في الجزائر، وهي الخطوة التي ستغني الحكومة عن الاستيراد وتمكن السلطات من توفير زيت المائدة بأسعار مناسبة محليًا"، وهذا لن يتحقق، حسبه، دون الاهتمام بالمحاصيل غزيرة الانتاج وذات الاحتياج المائي المنخفض، والتي يسهل استخلاص الزيوت منها عن طريق التعاقد مع مصانع الصناعات التحويلية، كما دعا إلى الإفراج عن النصوص التطبيقية الممكنة لإنجاز هذه المصانع على المستوى الولائي.
واعتبر محدث "الترا جزائر" أن التوجه إلى الزراعات الواسعة الاستراتيجية على غرار "الصوجا" وعباد الشمس والسلجم الزيتي، سيكون ذو نتائج ملموسة، باعتبارها أصنافًا أثبتت التجارب أنها ذات إنتاجية عالية، إذا ما توفرت عدة عوامل، وهي الاستعانة بالمهندسين ومنح المنتجين أراضي فلاحية مناسبة، بحكم أن الانتاج يفرض التحكم في المسار التقني لهذه المحاصيل والاستفادة من البحوث والتجارب، والتوجه نحو تفعيل أوامر رئيس الجمهورية أيضا، والقاضية باستغلال المناطق الصناعية الخاوية لحد الساعة، لإنجاز هذه المصانع ومنح المستثمرين عقارات مناسبة.
الأولوية للفلاحة
أما الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش، فيرى أن الأولوية في الجزائر خلال المرحلة المقبلة لقطاع الفلاحة وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ليس فقط في مجال إنتاج الزيت والسكر.
ويقول بريش في تصريح لـ"الترا جزائر" أن القطاع الفلاحي يحظى اليوم بأولوية كبيرة في برنامج الرئيس تبون، وحضور بارز في أغلب اجتماعات الحكومة ومجالس الوزراء، سواء عبر سن قوانين جديدة أو تقديم توجيهات أو توقيع المراسيم التنظيمية، وهذا دليل على أن إصلاح القطاع يحتل أولوية خاصة لدى الرئيس.
كما أن جل الرهانات والتحديات بعد بداية تلاشي جائحة كورونا، تفرض توجه الحكومة نحو تحقيق الأمن الغذائي وكسب هذا الرهان من أجل ضمان الأمن القومي.
وحقق القطاع الفلاحي في الجزائر خلال الـ3 سنوات الأخيرة نتائج هامة، مكنته من بلوغ 14,7 بالمائة من الناتج الداخلي الإجمالي ورقم أعمال بلغ 35 مليار دولار مع تشغيل 2,5 بالمائة من اليد العاملة في الجزائر، وهو القطاع الثاني الأكثر مساهمة في تحقيق القيمة المضافة الاقتصادية الوطنية بعد المحروقات.
كما تتمتع الجزائر بقدرات وطنية تؤهلها لإنتاج جميع الخضر والفواكه وتغطية الاحتياجات بنسبة 75 بالمائة وتفوق هذه النسبة أحيانا في بعض الخضروات والفواكه مع تسجيل فائض يوجه للتصدير رغم عدم التحكم لحد الساعة في القدرات اللوجستكية للتخزين وغيرها من المستلزمات التي تعزز عملية تصدير المنتجات الفلاحية الطازجة.
وبخصوص إنتاج البذور الزيتية في الجزائر، يقول البروفيسور بريش أن الجزائر في الطريق الصحيح لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتقليل من حجم الواردات، حيث تدخل هذه المواد في صناعة زيت المائدة ويمكن التوجه مستقبلا نحو التصدير.
كما أن تدشين مصنع لسحق البذور الزيتية مؤخرًا من شأنه أن يعزز من سلسلة القيمة في إنتاج البذور الزيتية وسحقها وإنتاج الأعلاف، فإنتاج الزيت محليا في حد ذاته مكسب مهم، حسب بريش، بحكم أن فاتورة استيراد المواد الغذائية بمختلف أصنافها تقدر سنويا بـ8 مليار دولار، وتقليص استيراد الزيت سيخفف العبء على الخزينة.
الوجه الجديد للصناعة الغذائية
وتسعى الجزائر لتقليص فاتورة استيراد الغذاء من خلال تعزيز القدرات الوطنية للمتعاملين الجزائريين ودعم الإنتاج المحلي، وهو ما تم لمحه في معرض الصناعات الغذائية "جزاڨرو" في طبعته العشرين بالجزائر العاصمة بين 5 و8 حزيران/جوان الجاري، حيث تم الوقوف على التطور غير المسبوق الذي شهده الإنتاج الغذائي والفلاحي في الجزائر، يقول رئيس الغرفة الوطنية للفلاحة، يزيد حمبلي.
وأكد حمبلي لـ "الترا الجزائر" أنّ تطور الصناعة الغذائية هدف إستراتيجي للجزائر خلال المرحلة المقبلة، والزيت والسكر أحد فروع هذه الصناعة، بدليل خطوات توفيرهما في السوق ووقف استيرادهما من الخارج، بداية بزاعة المنتجات الزيتية والبنجر السكري محليا، خاصة بولايات الجنوب.
وثمّن رئيس الغرفة الوطنية للفلاحة "توجّه الحكومة إلى توفير امتيازات لمزارعي هذه الأصناف وإدراجهما ضمن خانة الزراعات الإستراتيجية"، خاتما حديثه بالقول: "لا وجود لمستحيل في الجزائر، فقد نتحول خلال بضعة سنوات إلى مصدرين للزيت والسكر".