11-أغسطس-2023
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty)

ما هي قصة المدفع القنصلي كما يلقبه الفرنسيون، أو مدفع بابا مرزوڨ كما يسميه الجزائريون؟ لماذا ما تزال السلطات الفرنسية تحتفظ بالمدفع رغم مطالبة الجزائريين باسترجاعه؟ ومن هو ميزو مورتو الذي يقف وراء هذه القصة؟

لماذا سارعت السلطات الاستعمارية الفرنسية في 23 تموز /جويلية 1833 بنقل مدفع بابا مرزوڨ من الواجهة البحرية للخليج الجزائر إلى مدينة بريست في شمال غربي فرنسا؟ وما قصة البطل الداي حسن ميزو الملقب بـ"مورتو"؟ ولماذا تمرد الداي حسن ميزو على الداي بابا حسن وأعاد النظر في الاتفاقيات مع السلطات الفرنسية؟

ألقى حسين ميزو  القبض القنصل الفرنسي جان لوفاشي رفقة 24 ممن كان معه من الفرنسيين بشبهة الجوسسة وأمر بوضعهم الواحد تلو الآخر في فوهة مدفع كبير يسمى مدفع بابا مرزوڨ

غدر لويس الرابع عشر

في عام 1680 وخلال فترة حكم الداي الحاج محمد التريكي (1672-1682) اشتد الصراع بين حكام إيالة الجزائر والحكومة الفرنسية حول معاهدة استرقاق الأسرى الفرنسيين والتجارة البحرية، حيث شنت القوات الفرنسية بقيادة الفريق أبراهام دوكويسن ( Abraham Duquesne) حملة عسكرية فاشلة على خليج الجزائر، تصدى لها الأسطول الجزائري بضراوة، واسفرت المعركة عن هزيمة القوات البحرية الفرنسية، حيث تكبدت خسارة 29 قطعة بحرية و300 أسيرٍ من البحارة.

في 1681 أعاد  أبراهام دوكويسن الحملة العسكرية، مُحاولًا الحصول على تَنازلات ومزايا بَحرية وجِبائية، فضلًا عن البحث والسيطرة على الممرات المائية والبحرية  وضمان إطلاق الأسرى الفرنسين، فهاجمت القوات البحرية الفرنسية أعالي الجزائر عبر سلسلة من القذائف البحرية، بعد حملة عسكرية دامت عامين بشكلٍ متقطع أُجبر فيها الداي بابا حسن (1682-1683) على التفاوض مع ملك فرنسا  لويس الرابع عشر حول تبادل الأسرى، وكما نصت الاتفاقية، أرسل الطرف الجزائري ما لديهم من الأسرى الفرنسيين إلى مدينة مرسيليا، في المقابل غدر الفرنسيون بالاتفاق ولم يتم التبادل من طرفهم.

مذفع

شخصية حسين ميزو 1683-1688

كان حسين ميزو المدعو "ميزو مورتو" ومعناه "نصف ميت" بالإيطالية، حيث تعود التسمية إلى أنه واجه الموت في البحر عدة مرات وغرقت سفينته ولكنه عاد للحياة مجددًا بعدما اعتقدوا أنّه فارق الحياة، غير أن الرواية الأقرب هي أنه كان  مبتور اليد اليسرى بسبب الحروب التي خاضها.

ميزو مورتو رجل من أصول إيطالية، أسلم وحج البيت الحرام. تميزت شخصيته عن باقي زملائه بالشجاعة في المعارك، حيث كان يُشهد له بتمكّنه من مهارات فنون الحرب، وعُرف عنه بالورع والكرم واحترام العلم وتبجيل العلماء، كما أظهر حسن الإدارة والتنظيم في شؤون الدولة، وكان مُدافعًا عن الإسلام وتعالميه، ومقدسًا مُعظمًا لحرمة المسلمين.

تولى مقاليد السلطة سنة 1683 بعد وفاة سلفه بابا حسن، إذ تمرد حسن ميزو على حكم بابا حسن نتيجة التنازلات التي أقرها لصالح فرنسا، والتي اعتبرها الجيش آنذاك خيانة للوطن، ومباشرة بعد تنصيب حسن ميزو وتعينه "بايلر باي"، بادر إلى مطالبة ملك فرنسا لويس الرابع عشر بفك القيد عن الأسرى المسلمين واحترام معاهدة تبادل الأسرى.

في السنة نفسها قاد الفرنسيون حملة عسكرية ضد إيالة الجزائر بقيادة الإميرال "دو كيزون"، وقد أسفر الاعتداء الفرنسي على سقوط حوالي 500 قتيل من سكان مدينة الجزائر وتحطيم خمسين من دور المدينة من بينها مسجدان.

مدفع بابا مرزوق

ردة فعل حسين ميزو

وأمام هول الجريمة والاعتداء على الأنفس والمقدسات وعدم احترام معاهدات السلم، ألقى حسين ميزو  القبض القنصل الفرنسي جان لوفاشي رفقة 24 ممن كان معه من الفرنسيين بشبهة الجوسسة وأمر بوضعهم الواحد تلو الآخر في فوهة مدفع كبير يسمى مدفع بابا مرزوڨ وقذف بهم نحو البحر في مواجهة بحرية مع الأسطول الفرنسي، وقد استمر القتال والقصف مدة ثلاثة أيام كاملة، وأمام هول مشهد الأشلاء المتطايرة من المدفعية الجزائرية، أصيب الفرنسيون بالذرع والخوف وانسحبوا، حيث أبرز حسين ميزو تصميمًا صلبًا من أجل حماية سكان مدينة الجزائر من وقع قنابل البحرية الفرنسية وتحرير 400 أسير في يد حكومة باريس.

الحكومة الفرنسية والسلطان العثماني

وأمام إصرار الداي حسين ميزو على مواصلة القتال وعدم التنازل، توجّهت السلطات الفرنسية إلى السلطان العثماني وأمضيا معاهدة صلح مع النائب الفرنسي في 25 أفريل/نسيان سنة 1684 لمدة قرن كامل، وهي تشمل تسع وعشرين مادة، يجدر الإشارة أن اتفاقيات 1684 لم تحترم من طرف بحارة مدينة مرسيليا والقراصنة الفرنسيين.

ميزو يعيد الكرة

وفي سنة 1686 قاد بحارة مدينة مرسيليا وبعض القراصنة الفرنسيين حملة عسكرية وأعلنوا الحرب على ساحل مدينة الجزائر وساكنيها، واستمر القتال أسبوعين وأطلقت البحرية الفرنسية حوالي 2000 قنبلة مدفعية، في مقابل ذلك حاول ميزو تهديد القطع البحرية الفرنسية، وأمر بوضع 40 فرنسيًا في فوهة المدافع قصد إيقاف المدفعية البحرية، غير أن القطع البحرية الفرنسية استمرت في قصف المدينة، مباشرة فأمر الداي حسن ميزو بتنفيذ الخطة،  ووضع القنصل بيول على فوهة مدفع بابا مرزوڨ وقذفوه باتجاه القطع البحرية الفرنسية، فكانت ردة فعل الفرنسيين هي إحراق كل الأسرى المسلمين الذين كانوا في قبضة البحرية الفرنسية. وأمام مقاومة الأسطول الجزائري انسحبت القطع البحرية الفرنسية.

مدفع بابا مرزوق

لماذا تنحى حسن ميزو

تعددت الروايات التاريخية حول أسباب تنحي حسن ميزو من مقاليد الحكم، حيث تشير مصادر تاريخية أن الداي حسن ميزو وموزاة مع إبرام السلطان العثماني اتفاقيات تجارية وبحرية مع الفرنسيين، بادر داي إيالة الجزائر إلى إبرام معاهدة تجارية مع البريطانيين في مجال التجارة البحرية، فتمرد عليه أعضاء مجلس الديوان وتآمروا عليه وقرروا خلعه، غير أنه بادر بتخليه عن الإمارة والسفر نحو القسطنطينية عبر تونس. 

مصادر تاريخية أخرى ذكرت أن حسين ميزو ومجلس الديوان لم يهضموا الاتفاق الذي عقده السلطان العثماني والفرنسيين، مما اضطر حسن ميزو إلى التنحي تفاديًا للصراعات الداخلية، فيما تقول روايات تاريخية إن حسن ميزو رفض تدخل مبعوث السلطان العثماني الذي أراد التفاوض مع الطرف الفرنسي، وأمام إصرار حسن ميزو على رفض أيّ تفاوض مع الفرنسيين بحكم تجارب الغدر وعدم احترام الاتفاقيات السابقة من الطرف الفرنسي، تمرد على حكمه الأجاوقة مما دفعه إلى الفرار إلى تونس والسفر إلى القسطنطينية، ليتم تعيينه قبطان باشا أي أمير الأسطول العثماني وهذا نظير شجاعته وحنكته في فنون القتال والحرب.

مدفع بابا مرزوڨ كان الواجهة التي تحمي الجزائر المحروسة من اعتداءات الفرنسيين والأوروبيين

 

 

 

 

  حصن المحروسة

تبين من خلال هذا السرد التاريخي، أن مدفع بابا مرزوڨ كان الواجهة التي تحمي الجزائر المحروسة من اعتداءات الفرنسيين والأوروبيين، فضلًا عن كونه حارس وأمان إيالة الجزائر من الحروب الصلبية، ويعكس المدفع القوة البحرية للجزائر حينها، ويعد مفخرة الصناعة العسكرية، إذ أنجزته أيادي جزائرية عبر دار النحاس بالجزائرـ وصنع من مادة البروز وطوله 7 أمتار ووزنه 12 طنًاـ ويقذف على مسافة أبعد من 5 كيلومترات ويشكل آنذاك قطعة حربية نادرة، واليوم يعتبر جزءًا من الذاكرة التاريخية التي تدعم فكرة استرجاعها نخبة من المثقفين والأكاديميين والباحثين في التاريخ.