05-أغسطس-2020

عبد الجليل بن سليم (فيسبوك/الترا جزائر)

يعيش العالم منذ أشهر طويلة تحت رحمة فيروس حصد آلاف الأرواح، ومع مرور الوقت وانعدام لقاحٍ قريب في الأفق (رغم الأخبار المتداولة عن اكتشافات واعدة في عدة دول)، يتقهقر الجانب النفسي الذي يعد عاملًا مهمًا في هذه الأزمة، حيث يؤثّر على الحالة الصحيّة للمريض بشكلٍ عام، باختلاف الأمراض العضوية والنفسية التي تصيبه.

عبد الجليل بن سليم: لماذا يموت الناس في الجزائر بسرعة؟ هل هو أكثر فتكًا من أي بلد أخر؟

لا يختلف الأمر عند المصابين بفيروس كورونا، حيث لاحظ كثير من الباحثين وجود علاقة واضحة بين الحالة النفسية للمصاب وبين تردّي أوضاعه الصحية وتفاقم الأعراض، إضافة تدهورها السريع نحو الأسوأ.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. 532 إصابة جديدة و474 حالة شفاء و9 وفيات خلال الـ 24 ساعة الأخيرة

 في هذا السياق، حاور موقع "الترا جزائر" عبد الجليل بن سليم، أخصّائي نفساني في العلاج الإدراكي مقيم في ستوكهولم بالسويد، حيث تمحور الحديث حول علاقة الصحّة النفسية للأفراد بإصابتهم بالفيروس، ومدى تأثيرها على الوضع الجسدي من الناحية الفيزيولوجية، كما يتناول بالتفصيل العوامل التي تُفقِد الإنسان توازنه النفسي، إضافة إلى توجيهات لمجابهة هذا النوع من الأوبئة من الناحية العقلية والنفسية.

  • كيف يؤثر اضطراب الجانب النفسي على الفرد خلال انتشار فيروس كورونا سواء كان حاملا للفيروس أو من بين الأصحاء؟

لقد تحدث الكثير من الأطباء عن الجانب الفيزيولوجي بالنسبة للمصاب، في حين تم إهمال الجانب النفسي، في الحقيقة، يمكن القول إنه بمجرد إصابة الإنسان بالفيروس يقع في صدمة نفسية لا يكون سببها الخوف من الفيروس فقط، إنما أيضًا عدم وجود بريق أمل لإيجاد لقاح للفيروس، وهذا ما يوضحه بالتفصيل ومن خلال مراحل عدة، نموذج كوبلر روس الذي تحدث عن هذه التطورات من خلال الإنكار، الغضب، المساومة،  والاكتئاب وصولًا إلى التقبّل.

هنا، وجبَ التحدّث عن تخصصٍ يوضح فكرة الاكتئاب عند المصاب بالفيروس، وهو علم المناعة العصبو-نفسية الذي يدرس التفاعل بين العمليات النفسية والجهازين العصبي والمناعي لدى الإنسان، لهذا نجد على سبيل المثال علاقة مباشرة بين القلق والضيق والغضب، وبين التشنّجات التي تحدث في عضلات المعدة، ما يعني أن الحالة النفسية قد أثرت على الجهاز العصبي، كما وضعت الحالة النفسية ذلك الجهاز المناعي في وظيفة دائمة، وما دام هناك عمل دائم، يحتمل أن يتعب الجهاز المناعي ويصبح ضعيفًا، حتى أن الالتهاب الذي قد نصاب به له علاقة مباشرة مع الاكتئاب.

  • إن أهم أعراض الفيروس هو وجود التهاب حاد على مستوى الحلق، لكن السؤال هنا هو كيف يكون للإلتهاب علاقة بالاكتئاب؟

هنا يضع علم المناعة العصبو-نفسية فرضيته، فحينما يحدث إلتهاب، تفرز خلايا تدعي (T cells Monocytes /Macrophages) أو ما يسمى بالسيتوكينات الالتهابية التي تؤثر على الدوائر العصبية، حيث تحدث زيادة في تنشيط دوائر اليقظة والقلق والإنذار ويحدث اضطراب في صناعة هرمون السيروتونين.

 إذ أنه أثناء حدوث إلالتهاب ينخفض إطلاق غلوتامات (الغلوتامات هو حمض أميني يشكل ناقلا عصبيا محفزاً في الدماغ) من قبل الخلايا النجمية أَكبر أَنواع الخَلايا العَصَبية وَأَكثرها أَهمية - هذه العمليات تفسر ظهور انعدام التلذذ الذي يفسر بدوره حالة الاكتئاب الذي يسبب ضررًا في الجهاز المناعي من جهة، كما يرتبط ذلك بتغيرات وتذبذب المزاج، لأن الإنسان عندما يمرض ولا يلمس تحسنًا، يسقط في اضطراب المزاج الذي يعدّ أوّل خطوة نحو الاكتئاب ومع الوقت يبدأ الإنسان بخسارة صورة جسمه، فيكون ذلك سببًا في رفضه للعلاج.

أما بالنسبة للأصحاء، وبالإضافة إلى العزلة والحجر الصحي، يؤثر الفيروس على الحالة النفسية لغير المصاب من خلال الخوف أو ما يسمى برُهاب المرض، وهو علة نفسية تصيب الإنسان حين تتملكه الوساوس من الإصابة، وهذا ما لمسناه لدى العديد من الأشخاص منذ بداية انتشار فيروس "كوفيد-19"، كما قد يعود الأمر أيضًا إلى التنشِئة التي تلجأ إليها بعض الأسر التي تعوّد أفرادها على إجراءات وقائية صارمة وكثيرة ضد الأمراض أيضًا، ليتسبب ذلك الحرص الشديد في نتائج عكسية مع مرور الوقت.

  • استنادا إلى مقال نُشِر منذ فترة في صحيفة "الاندبندنت"، جاء فيه أن "المخاطر المترتبة عن فيروس كورونا لا تقتصر فقط على الجانب الصحي وحسب لأن الذين نجوا من الإصابة قد تأثروا بعدوى من نوع آخر أثرت على صحتهم النفسية وعلاقاتهم الاجتماعية" ما رأيك في هذه الدراسة؟ 

لنتفق على نقطتين مهمتين: في الجهاز العقلي الذي يتكون من عناصر الفعالية، الانفعالية والذكاء، نجد مُحرِّكين؛ يتمثل المحرّك الأوّل في كيفية الحب ونسج العلاقات الإنسانية والتفاعلية مع الآخرين، أما الثاني فيمثل كيفية اكتساب مناعة نفسية عن طريق خلق فكرة الاستقلالية والفردانية، لكن لسوء الحظ غالبًا ما تشجع مجتمعاتنا تغليب محرّك نسج العلاقات الإنسانية والتفاعلية مع الآخرين على محرك خلق فكرة الاستقلالية والفردانية، في الوقت الذي  كان يجب فيه التوفيق بينهما، وعندما يغلُب محرك نسج العلاقات إلانسانية والتفاعلية، يخسر الإنسان أهم شيء في التوازن النفسي وهو تقدير الذات (Self-esteem).

لقد تعوّد الإنسان على أن يكون داخل جماعة، وعندما جاء الحجر الصحي دخل في عزلة جعلته يكتشف أنه يجهل نفسه، لهذا نجد الكثيرين ممن دخلوا في شعور الغضب والحيرة وتقلب المزاج و هناك من يسقط في قلب الاكتئاب.

  • تحدثتَ في مقال سابق لك عن تأثير الوحدة والعزلة على الإنسان من خلال دراسات في كتب علم النفس، وربطت ذلك بتأثيرها الكبير على الأفراد في زمن كوفيد-19، ما رأيك في هذا التأثير، وما حِدَّتُه؟

عندما انتشر الفيروس بسرعة وأصبح يشكل تهديدًا للبشر، كتبتُ بعض المقالات حول تأثيره على الحياة النفسية للأفراد، خاصّة عندما بدأ الحجر الصحي، وتحدثتُ عن مدى تأثير العزلة على التوازن النفسي للإنسان، لكنني اليوم سأتكلم عن أشياء أخرى حملها الفيروس وأثرت على توازننا وحياتنا النفسية.

لقد أخفى هذا الفيروس الكثير من المشاعر الإنسانية التي لم نكن ندرك قيمتها الإجتماعية وحتى تأثيرها علينا، فقدنا أهم الطرق في التواصل وخاصّة منها تعابير الوجه، وبسبب الأقنعة اللي نرتديها أصبحنا لا نعرف تعابير وجوه الناس التي تحيط بنا، لأن هذه التعابير هي تواصل غير لفظي ذات تأثير عميق جدًا على التوازن النفسي.

يملك الإنسان ستة تعابير تظهر على وجهه، وهذا ما تحدث عنه البروفسور بول إكمان وهو عالم نفس في بحث قام به حول علاقة المشاعر بتعابير الوجه.

 يرتدي الناس إذن هذه الأقنعة وتختفي تعابير الوجه الستة خلفها، ولا يظهر منها سوى العينين، من هنا توصل البروفسور بول إكمان في أبحاثه إلى أن تعابير الوجه لها علاقة مباشرة في بناء المشاعر، فإذا أظهرت تعاطفك مع شخص ما بتعبير يظهر على الوجه، قد يساعده ذلك على اكتساب شيء من الهدوء أو كما نسميه التأثير العاطفي.

عندما تحكي قصة أو تجربة مؤلمة للطرف الآخر يتفاعل معك بتعبير يظهر على وجهه يعبر عن تعاطفه معك، وهنا يتملكك الهدوء والاطمئنان، وهذا التفاعل المبني على تعابير الوجه قد يكون أكثر صدقا مقارنة بالتعاطف الذي يكون مبنيا على أساس لفظي.

 حرمنا الفيروس من شيء مهم نحتاجه في حياتنا أيضا من أجل توازن نفسي وهو التلامس، وبسبب التباعد الإجتماعي أصبح غير مسموح لنا أن نحتضن بعضنا البعض مثلا، هذا ما قتل شعور الأمان الذي يخلقه التلامس بين البشر، خاصّة أثناء المخاطر أو الحزن، هو سلوك طبيعي غير لفظي يستعمله البشر لكي يظهروا التضامن بين بعضهم البعض ليساعدهم على اكتساب التوازن النفسي الذي هو الآن على شفا حفرة من الانهيار، وإن لم نفهم ما يحيط بنا سنفقد توازننا النفسي وصحتنا العقلية.

  • يخلق التواصل بين البشر نوعا من المناعة النفسية في مواجهة شتى أنواع الاضطرابات العصبية والنفسية والعقلية. ماذا يحدث لهذه المناعة في رأيك خلال هذه الفترات من الحجر الصحي؟

من الطبيعي أن تتأثر، لكن علينا أن نعرف ما هي المناعة النفسية. إنها سلاح يعتمد على اختزال عدد من الميكانزيمات المعرفية التي تحمي من الشعور بالمعاناة، وتقينا من سوء المشاعر السلبية، ويتمّ ذلك عبر التجاهل وبناء المعلومات.

تشتغل المناعة إذن خارج الإدراك، حيث يظهر جليًّا أن هناك علاقة قوية بين العوامل المسببة وبين نظام المناعة النفسية كعامل وقائي من الاضطرابات النفسية، فإذا اكتسبت العوامل المسببة صفة الطبيعة التراكمية التي ترتبط بأسلوب حياة معين لدى الإنسان، وعانى نظام المناعة النفسي من الركود وعدم التطوّر، فإن ذلك يسبب نقلةً من الحالة النفسية السوية نحو التأثر السريع لدى الشخص، وهذا ما يخلق المشكل النفسي الذي يؤدي بذاته نحو الاضطراب الكلّي.

من هنا، تسهم التدخلات العلاجية لحل المشكلات النفسية في تقليل المسبّبات، من خلال دعم المناعة النفسية، وهذا ما يساعد على عرقلة العمليات المساهمة في خلق خللٍ في سيرورة الأداء النفسي، فتصبح المناعة النفسية للفرد أكثر تأثيرًا على تفاقم العلة النفسية، ليتم تعزيز النظام المناعي للفرد بأساليب فعالة، مما يقوي الأثر العلاجي لا محالة.

  • من المعروف أن طبيعة المجتمعات الغربية تختلف جذريا عن مجتمعنا، وقد يكون تكوين الفرد النفسي الجزائري أكثر تعقيدا من غيره من مجتمعات أخرى. هل لهذا علاقة بمعدلات الوفيات المرتفعة بفيروس كورونا؟ ما أسباب هذا الاضطراب؟

هناك تساؤلات عدة تؤرقنا منذ بداية انتشار الفيروس: لماذا يموت الناس في الجزائر بسرعة؟ هل هو أكثر فتكًا من أي بلد أخر؟ هل الحالة الصحية للجزائري متدهورة جدًا؟ هل منظومة الصحّة في الجزائر كارثية إلى هذه الدرجة؟ أم أن هناك شيئا آخر وجب التفكير به؟ أظن أن أهم أسباب تمكن الفيروس حصد هذا الكم من الأرواح هو البنية النفسية والعقلية الجزائرية.

إن فكرة عدم تقبل المرض في مجتمعنا فكرة خطيرة تؤثر على المريض وعلى أهله، بسبب أن البناء الإجتماعي في مجتمعنا ينظر إلى المريض على أنه عالة، هذا راجع إلى الوضع الاقتصادي والإجتماعي المزري الذي نعيشه، وهو الشيء الذي يدخل أي مريض في إكتئاب قاتل.

عندما يدخل الإنسان في الاكتئاب، يرفض الجسم أي علاج لأن صاحبه مقتنع بأنه انتهى، وهنا نطرح السؤال: هل يمكن أن يكون الاكتئاب معديًا؟

 لقد أثبتت الدراسات أن سلوك ومشاعر الإنسان قد تكون معدية بشكل كبير، حيث أنها تجتمع سلبًا أو إيجابًا لتؤثر على الآخر الذي نقاسمه لحظات الاكتئاب مثلًا.

إن المشاعر الإيجابية قد تكون حافزًا كبيرًا لتحسين الصحّة النفسية فتكون العدوى حميدة، لكن ما قد نكتسبه من الآخرين من أحاسيس وسلوكات سلبية قد يصبح عائقًا نفسيًا يؤثر على أسلوبنا في ممارسة نشاطاتنا اليومية من خلال علاقاتنا مع الأسرة وفي مجال العمل، وعند الاحتكاك ببقية أفراد المجتمع الذي نعيش فيه، لهذا وجب طرح السؤال الأهم على أنفسنا: هل أساس وجودنا في المجتمع هو التكامل أو الفردانية والأنانية؟ ووحدها الإجابة هنا قد تحدّد كيف نواجه التحدّيات والمطبات النفسية خاصّة في مواجهة هذا الفيروس.

  • هل يمكن للعمل الجدي على تحسين سلوكيات الفرد والمجتمع من الناحية النفسية والتركيز على إصلاح أساليب تقدير الذات من خلال الابتعاد عن الأنانية المجتمعية أن يُسهم في تقليل انتشار هذا النوع من الفيروسات والحد معدلات الوفيات؟

 هناك أسلوب واحد لتحقيق ذلك وهو التكامل، مثلًا، عندما اكتشف الانسان البدائي النار أصبح اجتماعًيا، لقد كان يجتمع مع أقرانه حولها بغية التدفئة، وغالبًا ما اجتمع حملة النار مع بعضهم أيضًا لأن تلك الشعلات كانت وسيلة دفاع ضدّ الحيوان (الإنسان البدائي كان فريسة)، هذا التجمع وحّد الانسان مع أقرانه وذويه للصيد والحماية والبقاء، أو كما يقال في الانثربولوجي، إن التكامل هو السبب في بقاء الجنس البشري. (راجع كتاب: yuval noah harari: Sapiens: A Brief History of Humankind).

منذ سنة 2010، دخل المجتمع الجزائري في دائرة الفردانية والأنانية، وصار يعتمد على الفرد ولم بعد تكامليا البتة، لهذا يغلب على سلوك شعبنا الآن حب المصلحة وإبهار الآخر، ومع تطور التكنولوجيا أصبح لأي شخص إمكانية لإبهار الآخرين، صار الجميع يكتبون في الدين في العلم في الفن في السياسة والآن في الطب، لأن الفرد يرى في نفسه مركز العالم، وهو ما يشخصه علم النفس باضطراب الصورة الذاتية self-esteem trouble

علينا أن نعود إلى فكرة التكامل التي لا يمكن أن تنجح إذا لم نترك أهل الإختصاص يتكلمون، فعندما يتكلم الناس في كل الميادين دون علم سنفقد أهم شيء وهو سلم القيم في مجتمعنا.  

هناك قاعدة في علم نفس الاجتماع تقول إن وظيفة الأفراد تسهل بناء هيكل المجتمع، أي أن إدراك كل فرد لوظيفته في المجتمع تجعله منظما من تلقاء نفسه، وهذا ما يفسر تأثير الوظيفة على الهيكل البنائي في المجتمع.

عبد الجليل بن سليم: معرفة وظيفة سلم القيم، تسهّل من بناء المجتمع ومواجهة الأوبئة والأمراض والأزمات

إن المجتمع المتخلف الذي يعيش قهرًا قد يكون مهيكلًا، لكن لا يوجد به تحديد واضح لوظائف أفراده، فالرجل لا يعرف وظيفته والمرأة والمدرسة والمسجد والمقهى، كل هذه الشرائح والمؤسّسات لا تعرف ما هي الوظيفة الإجتماعية التي يجب أن تنفذها، وبالتالي يصبح البناء الإجتماعي متناقضًا ويعاني من أمراض عضال، لهذا فإن معرفة وظيفة سلم القيم، تسهّل من بناء المجتمع ومواجهة الأوبئة والأمراض والأزمات.