23-مايو-2022
الإعلامية فتيحة بوروينة (الصورة: الحوار)

الإعلامية فتيحة بوروينة (الصورة: الحوار)

أخرجت الإعلامية فتيحة بوروينة ملفًا "حارقًا" من رفوف أدراج الجامعة إلى الشّاشة بإضاءة بعض الجوانب التاريخية المظلمة الموروثة عن الاستعمار الفرنسي، فرواية معاناة الآلاف من الجزائريين مع ألقابهم بصريًا من خلال فيلم وثائقي بعنوان: "ألقاب الجزائريين.. النّقمة الفرنسية"، تضيف به مخرجة العمل دعمًا معنويا للعائلات، إذ تمكّنت من إخراج كثيرين من سِجن الألقاب المُشينة والمُؤذية والخادشة للحياء إلى النّور بالسرد واستثمار  المادة الأرشيفية، وتحويل موضوع مرتبط بتاريخ قاتم إلى حكايات متحرِّكة منحتها عمقًا أكبر، موجّهة دعوتها للسلطات لتسهيل إجراءات تغيير هذه الألقاب.

فتيحة بوروينة: اكتشفت من خلال الوثائق التي وقعت بين يدي أن بعض الجزائريين حملوا ألقابًا أجبروا عليها

تفتح المخرجة فتيحة بوروينة في حوار لـ "الترا جزائر"، أوراق هذا الملف مجدّدًا، لتتطرق إلى الممارسات الاستعمارية الفرنسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، حيث كان هدفها طمس الهوية الجزائرية والتفريق بين العائلات وإذكاء الصراعات بينهم.

من أين جاءت فِكرة الوثائقي؟

 اقتربتُ من موضوع ألقاب الجزائريين "المشينة" لسببين اثنين؛ سبب شخصي وآخر موضوعي، أما السّبب الشخصي فيعود إلى مدرستي وأنا في الصف الأول، عندما كانت صديقتي الوفية إلى اليوم سارة حمار، تتأخّر عن القسم فقط حتّى لا تسمع لقبها العائلي عندما تشرع المعلّمة في المناداة بأسماء التلاميذ لتسجيل حضورهم أو غيابهم. لم تتحرّر سارة من هذا العذاب اليومي حتى وهي طالبة جامعية، إذ رفض والدها تغيير لقبهم العائلي، بدعوى أن جدّهم لم يفعل ذلك، فضلًا على أنه تعوّد عليه، ولكن الأبناء اهتدوا إلى فكرة وضع الشّدة على حرف الحاء حتى يصير اسمهم حَمَّار بدل حِمَار؛ فوضع سارة حمار يشبه وضع عشرات الآلاف من الجزائريين الذين يحملون ألقابًا مشينة ورثوها عن الحقبة الاستعمارية ولدّت لديهم أزمات نفسية مزمنة.

تزوّجت سارة من محامٍ، ابن حيّها الشعبي، وساعدها على تجاوز محنتها بعد الموافقة على طلب تغيير لقبها حيث قام بإيداع الملف لدى وزارة العدل. فرِحتُ جدًا لتحرر سارة صديقة الصّغر من لقبها "المشين"، كان يشبه التحرر من العبودية، و ها هي تتحرّر منه اليوم بفضل زوجها المحامي. لا ترغب سارة في أن يكرّر أبناؤها نفس تجربتها المريرة مع لقب الأم العائلي، هي تريد أن تجنبهم الأزمات النفسية التي مرّت بها، و لهذا السبب سارعت إلى طلب تغيير لقبها و نجحت في ذلك .. احتفَلتٌ سارة بالمنجز الاجتماعي وتقاسمنا الكعكة والشاي أيضًا.

أما السبب الموضوعي فيستند على حقائق وواقع ملموسة وجدتُها جاهزة في ملتقى وطني نظمته جامعة "البليدة 2" سنة 2019، حول موضوع ألقاب الجزائريين انطلاقًا من قانون الألقاب 23 آذار/مارس 1882، الذي أصدرته الإدارة الفرنسية وأقرّه نظام الألقاب العائلية في الجزائر، وتداعيات التطبيق الخاطئ لهذا القانون على هوية الجزائريين.

 سمح لنا الملتقى بمعرفة الموضوع معرفة دقيقة وتحديد المتدخّلين فيه من باحثين وأساتذة جامعيين ومعرفة ألقاب بعض الأسر التي وصلت ملفاتها إلى القضاء وتمكّنت من تغيير ألقابها "المشينة"، فضلًا عن تحديد المدن الجزائرية المتضرّرة من نظام الألقاب العائلية.

هل ترين أن بعض الألقاب الجزائرية معاناة تاريخية أم تحتاج وقفة أو موقف سياسي؟

قبل الموقف السياسي، المطلوب الاشتغال على الموضوع إعلاميًا وسينمائيًا من خلال الأفلام الوثائقية حتى نوصل معاناة حاملي الألقاب المشينة إلى السلطات المختصة فتنظر كيف تيسّر أكثر إجراءات تغيير اللّقب العائلي رغم أنها بسيطة، لكن العامة تجهلها لغياب التحسيس بالموضوع. ولعلّ ما شجّعني على تناول الموضوع، هو عدم وجود عمل وثائقي احترافي منذ استقلال البلاد إلى اليوم حول موضوع الألقاب المشينة  الموروثة عن الحقبة الاستعمارية وهذا رغم القضايا الكثيرة التي يعالجها القضاء الجزائري يوميًا، ترفعها العائلات المتضررة التي ترغب في تغيير لقبها بسبب الإحراج الذي تسببه لأبنائها في الشارع والمدرسة والجامعة وحياتهم الاجتماعية عامة. حتى الكتابة حول الظاهرة على مستوى البحث العلمي أو الإعلام نادرة جدًا، وما تم الاشتغال عليه في هذا الملف (أكاديميًا) على قلته حبيس أدراج الجامعة للأسف.

  •  عمل مثل هذا الوثائقي يحتاج بحث في الأرشيف وعمل ميداني والخروج من القوالب الجاهزة؟

كما أسلفت الذكر، وجدت المادة العلمية جاهزة من خلال الملتقى الذي نظمته جامعة البليدة حول الموضوع، لم يترك الملتقى شاردة أو واردة في هذا الملف الثقيل الذي ورثته الإدارة الجزائرية إلا واشتغلوا عليها. وثائق مهمة وأرشيف علمي فريد وقوائم بألقاب العائلات وأماكن محدّدة لانتشار هذه الألقاب وسجّلات للحالة المدنية تعود إلى الفترة التي تم تطبيق ما سمي آنذاك بقانون الحالة المدنية للأهالي المسلمين في الجزائر 1882. 

فتيحو بوروينة: تزوّجت سارة من محامٍ ساعدها على تجاوز محنتها بعد الموافقة على طلب تغيير لقبها حيث قام بإيداع الملف لدى وزارة العدل

اكتشفتُ من خلال الوثائق التي وقعت بين يدي أن بعض الجزائريين حملوا ألقابًا أُجبروا عليها، وهي في الغالب ألقاب "منفّرة" ولا تمتّ بصلة لألقابهم الأصلية، وبعضهم الآخر  مُنحت له ألقاب مجهولة النّسب (SNP ) (sans nom patronymique) ما ساهم في زرع نوع من الحقد و الريبة و الشكّ بين الجزائريين، ودسّ النعرات القبلية والعرقية والمذهبية بين العربي و الأمازيغي و الشاوي والميزابي و التارقي. طبعًا طبيعة هذه الأعمال لا شك تكون ميدانية، لقد جاب فريق التصوير 10 ولايات جزائرية ووصلنا إلى الجنوب الكبير إلى الهقار لنرى كيف تأثرت ألقاب الطوراق (أنموذجًا) بهذا القانون.

  • لنعود إلى تخصص الصناعة الوثائقية، أين تضعينها ضمن المنتجات التلفزيونية الجزائرية والإعلامية عموما؟

الصناعة الوثائقية جنسٌ سينمائيٌّ له خصوصياته وأهله، ليس كل مشتغل في حقل السينما بإمكانه الاشتغال على هذا الجنس الذي يتطلب تمرسًا مسبقًا على المعلومة وتحرّي المصادر والتعامل مع الأرشيف، لكن تبقى الصناعة الوثائقية في الجزائر (الابن المسكين) في مجال السينما، المهتمون به قليلون، والمشتغِلون عليه يحسبون على أصابع اليد الواحدة، والممولون المقبلون على رعاية هذا النوع من الأعمال لا تغريهم في الحقيقة لاعتقادهم أن متابعيها قليلون، إذ أنهم يحسبونها عملًا تجاريًا ويبحثون عن منافذ لبروز علاماتهم والوثائقي لا يحقق لهم هذا حسب ظنهم، ومن جانب آخر أعتقد أن الإعلاميين مؤهلون أكثر من غيرهم للاشتغال على هذا النوع من السينما فهم إلى جانب تمرسهم على المعلومة وعلى البحث، يعرفون المجتمع جيدًا والفاعلين فيه، وأي موضوع يقتربون منه يعرفون أي الأبواب يدقّون.

  •  كيف كان تجاوب العائلات المعنية بالموضوع؟ هل لديك رقم رسمي بخصوص العائلات التي تمكنت من تغيير ألقابها؟

اتضح لنا بعد الانتهاء من تصوير الوثائقي أن موضوع الألقاب مسألة محاطة بالخصوصية، وكثيرٌ من العائلات أحجمت على المشاركة رغم حملها ألقابًا مشينة؛ فمصالح الحماية المدنية لا تسمح لك بالاقتراب إلى سجلّات الحالة المدنية لأن الأمر يتعلق بهويات الناس وخصوصياتهم. و لولا الأساتذة الباحثون الذين اشتغلوا على الموضوع لما تمكنّا من الحصول على القوائم، وخلافًا لهذا الأمر انخرطت معنا عائلات كانت تحمل ألقابًا "مشينة" لكنها تمكنت من تغييرها بالاستفادة من قانون تغيير الألقاب الصادر العام 1971.

في الحقيقة لم يكن يهمّني كثيرًا معرفة الرقم الإجمالي للعائلات التي تمكنت من تغيير ألقابها بقدر ما كنت أهتم بالأثر النفسي المترتب عن ذلك، أي تحرّر العائلات من ألقابها المشينة والإندماج مجددًا في الحياة دون عقد أو شعور بالمعابة. نحن لسنا أمام روبورتاج أو تحقيق بل عمل سينمائي نحاول فيه أن نجمع بين المعلومة التي تساعد على الفهم، والجانب الإنساني للنماذج التي اشتغلنا عليها في قالب سينمائي يمنح الفرجة والمتعة.

فتيحة بوروينة:  لم يكن يهمني كثيرًا معرفة الرقم الإجمالي للعائلات التي تمكنت من تغيير أسمائها بقدر ما كنت أهتم بالأثر النفسي المترتب عن ذلك

  • هل ستستمرّ المغامرة الوثائقية في ظلّ تكلفة الإنجاز من حيث الأفكار والجهد وفضاءات التوزيع والبثّ؟

مجال الوثائقيات مجال خصب متنوع فضلًا عن المتعة التي تقترن بالعمل السينمائي ميدانيًا، وفي الجزائر المعروفة بتنوعها الهوياتي واللغوي والجغرافي والثقافي، لا شكّ في أن يجد صناع الوثائقيات ما ينتجونه، لأن الجزائر تزخر بالكثير من المواضيع التي تستحق أن تروى للناس.