12-مايو-2022
شيرين أبو عاقلة

لقد أدّت الرّسالة واستشهدت لأجل قضية.. "اخترت الصحافة لأكون قريبة من الإنسان"، هي عبارة تلفّظت بها الزميلة الصحفية مراسلة "قناة الجزيرة" من فلسطين شيرين أبو عاقلة، إذ تعلِّمنا مرة أخرى درسًا من دروس الشّهادة في قلب الميدان، حيث لم تكن مجرّد صحافية بل هي أيقونة الإعلام العربي من قلب فلسطين شغلها الهمّ الفلسطيني.

تمنح شيرين للقصة الصحافية لونًا ومعنىً وروحًا في نضال مستمرّ لإعلاء صوت الحقيقة وافتكاكها من أيادي من يحاوِلون إسكاتها

وجه الحقيقة

كانت الراحلة في مواجهة يومية مع الموت في الميدان تنقل الصورة والحقيقة، معبأة بإنسانية شملت مدن وأحياء فلسطين كلها، إذ تأتي صورتها الأخيرة قبل أن تلفظ أنفاسها، صادمة وقاصمة ومحزنة ومروِّعة وقاتلة لنا جميعًا، لتعيدنا إلى الواقِع، إلى تلك المهنة الصحفية الحقيقية التي اختارت شيرين، لتظهر أنها مهنة حبّ وشغف لنقل الحقيقة والالتزام بقضية، إذ أحبّت مهنتها ومعها جاهدت بصوتها لمناصرة حقّ شعب في أرضه لاحتلال غاشم.

تُعلّمنا وكغيرها من المرابطين في ساحة الاحتلال ما لم نتعلّمه في قاعات الدّروس، ولن نتعلّمه من كتب الإعلام دونما ممارسته في الواقع، إذ هي لم تُفارق الميدان وكانت في مواجهة يومية مع قوات الاحتلال، لتظهر كإنسانة بصدقها ومهنية اختزلت كل الفوارق والاختلافات، للوصول لهدف واحد تعرية الحقيقة ونقل الحقيقة لا غير.

جدوى الصّورة والصّوت

ما جدوى المهنة دون نقل الحقيقة ودون البحث عنها ودون متابعتها، والانتصار لنصرة مظلوم ومواجهة مغتصِب بأفعاله؟، فاغتيال الصحافية أبو عاقلة أعاد للمهنة أهدافها ومغزاها، بعد أن دخلت بيوت الفلسطينيين وبيوت الجزائريين وعديد البيوت في العالم ككل، واستردَّت الحادِثة الموجعة معالم أخلاقيات المهنة، إذ هي آذان شعبها في العالم منذ أكثر من ربع قرن، وهي تحرِس أبناءه بالقلم والكلمة والصوت والصورة.

اغتيلت الصحافية والإنسان، برصاص الاحتلال الغادِر، لتعيدنا الحادثة  إلى الحديث مرة أخرى عن عِظم الرّسالة الإعلامية الخالِصة وثِقل أمانة الحقيقة وحجم صوتها، وإنقاذها من مختلف محاولات الطّمس ومواجهة النّكوص والاستكانة للكثيرين أمام ازدواجية المعايير الإعلامية، خاصّة ما تعلق منها بمجال الحقوق وحرية التعبير والعدالة.

مُواكبة حياة

تُستَقَى الشّهادات الحية من الميدان، إذ تُعطي للقصة الصحافية لونًا ومعنىً وروحًا في نضال مستمرّ لإعلاء صوت الحقيقة وافتكاكها من أيادي من يحاوِلون إسكاتها، وتواكِب حياة الناس ورواية القصص الإنسانية وإنارة الرأي العام، بعيدًا عن صناعة إعلامية تلفّها الأكاذيب وتشويه الواقع ودفن الحقيقة.

تؤكّد الحادثة وكلّ الصور والمشاهد من فلسطين أن للصحافة العديد من الأوجه والأبواب التي وجب أن تدقّ يوميًا، وأنّ للكلمة والصورة والصوت ذاكِرة لا تضمُر ولا تشيخ ولا تمُوت.

درس آخر تلقّنه لنا الراحلة شرين أبو عاقلة في باب الإعلام الميداني، كيف لا وهي سيدة الميدان ومن منطقة حرب واحتلال، إذ هي مثال للصحفي المنتصِر لقضايا شعبه ولقضايا الإنسان، ونموذج لالتزام الصحفي بتلك القضايا ومسألة الحرية والعدالة، ولكلّ صحفي الإمساك بشرف الطريق الذي يختار والمحطة التي يتوقف عندها، والمسار الذي يسلك.

النّموذج

بذلك تقدّم شيرين أبو عاقلة نموذجًا مختلفًا عن الصحافيين، فهي صورة للصحفي الملتزم، والالتزام هنا يأخذ بعدين: الأول هو البعد المهني من خلال حبّ المهنة والتمسّك بأخلاقياتها والعمل بالقواعد السليمة التي تفرض على الصحفي الانحياز إلى مقتضيات العمل الصحفي والنقل الميداني والاقتراب من الحقيقة والحدث، وهو ما جاء في رسالتها الإلكترونية إلى مكتب قناة" الجزيرة" الرئيسي، "قوات الاحتلال تقتحم جنين وتحاصر منزلًا في منطقة الجابريات… في الطريق إلى هناك، أوافيكم بخبر فور اتضاح الصورة".

أمّا البعد الثّاني وهو الالتزام الإنساني من خلال نقل قصّة الانسان والأرض وتبنّي قضايا الحقّ والعدل ورفض السّردية الرسمية للأحداث، والبحث عن الزوايا البعيدة للقصّة الصحفية لتوضيح الصورة والحقيقة للناس.

في مستوى آخر تقدم شيرين أبو عاقلة نموذجا للصحفي القاعدي الذي يشتغل في بيئة متشنِّجة ومتوتِّرة ومتداخلة، لكنها استطاعت أن تُمسِك بخطوط الحالة الفلسطينية وتحقيق اجماع عام على مهنيتها، وهذا ما يؤكده مستوى التأبين الشّعبي والسياسي لمجموع القوى الفلسطينية للصحفية شهيدة الكلمة والقضية.

تضحية

مجموعة اعتبارات يمكن أن تكون دروسًا للمجتمع الصحفي في العالم، فعلاوة على التضحية من أجل الحقيقة، تعبر التغطية الإعلامية من قلب فلسطين، محاولة يومية لاستعادة الواقع من الرواية الإعلامية المثخنة بالتزييف والتظليل، وكم من صحفي سيضاف إلى قوائم التضحيات في الميدان، من أجل نقل الحقيقة ولا غير الحقيقة.

درس إنساني تركته الراحلة يضاف إلى المشهد الإعلامي والسياسي العالمي، بأن الشّجعان يموتون بشرف أما الجبناء فيموتون في اليوم ألف مرة

درس إنساني تركته الراحلة يضاف إلى المشهد الإعلامي والسياسي العالمي، بأن الشّجعان يموتون بشرف أما الجبناء فيموتون في اليوم ألف مرة، وكما قال الصحافي الجزائريالطاهر جاووت الذي تعرّض للاغتيال في 1993 برصاص الإرهاب "إذا تكلّمتَ تموت وإذا سكتَّ تموت، إذن تكلّم ومُت"، وهي لم تتوقف تكلمت ونقلت الحقيقة وغادرت بشرف.