18-مارس-2024
مؤذن يستعد لرفع الأذان في الجزائر

مؤذن يستعد لرفع الأذان في الجزائر (الصورة: أصوات مغاربية)

اعتاد الفرد الجزائري منذ الصغر على الاستماع إلى رفع الأذان عبر المساجد وأجهزة الراديو والتلفزيون بطرق خاصة تميّز الجزائر عن بقية دول العالم الإسلامي، فمنذ دخول الإسلام إلى شمال أفريقيا تولّد حرصٌ على إجادة النّداء إلى إقامة الصّلاة وعلى حسن صوت المؤذنين، اقتداءً بسيرة الصّحابي الجليل بلال بن رباح الذي كان أوّل من أذّن للصلاة في الإسلام، واشتهر بصوته القوي والحسن، المريح للقلوب والأنفس، ما جعل الكثير من المؤذنين يقتدون به، ويعملون على تعلم ضوابط وأحكام الأذان لإجادته كنوعٍ من حسن العبادة والإسلام.

يمتلك المؤذنون في الجزائر مع اختلاف المناطق هويّة خاصة، إضافة إلى الحرص الشديد على حسن رفع ندائهم إلى الصلاة، وقد غنموا هذه الهوية من تأثيرات الحضارة الأندلسية التي مرت عليهم

 يمتلك المؤذنون في الجزائر مع اختلاف المناطق هويّة خاصة، إضافة إلى الحرص الشديد على حسن رفع ندائهم إلى الصلاة، وقد غنموا هذه الهوية من تأثيرات الحضارة الأندلسية التي مرت عليهم، حيث يحافظ عدد كبير منهم إلى غاية اليوم على هذه الهوية المحلية -رغم تأثيرات المدّ الدينيّ- الّتي شهدتها الجزائر في العشريات الأخيرة، إضافة إلى محاولات تقليد مؤذني الدّول المشرقية وبلدان الخليج، فالأذان الجزائري يتميز بالتأثر الجليّ بالمقامات الأندلسية المنتمية لمدرسة الصنعة، باختلاف النوبات الموسيقية التي تعود إلى مدارس مختلفة نشطت في الشرق، والوسط وامتدادا إلى الغرب، وصولا إلى الجنوب الذي تأثر أيضا باللمسات الأفريقية.

في هذا السياق، كانت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف قد أصدرت في الجريدة الرسمية خلال سنة 2017 قرارا "يحدد كيفية الأذان وصيغته"، مع إصدار "بطاقة فنية تحدد على الخصوص الضوابط التقنية المتعلقة بجمالية الأذان"، حيث يعتمد في الجزائر على علم المقامات الموسيقية التي تحدد ثقافة البلد وخصوصيته الدينية والجغرافية.

فكيف تطور الأذان في الجزائر؟ وما هي التأثيرات التي طرأت عليه عبر مرور الزمن؟ وهل سيتمكن القائمون على شؤونه من الحفاظ على هذه الهوية التي تقاوم الاندثار؟

الأذان ألفة النّفسِ والرّوحِ

صرّحَ المُنشد الجزائري عبد الرحمن عكروت في مداخلة لـ "الترا جزائر" أن الكثير من المؤذنين قد يتداولون على المحاريب في النّداء إلى الصّلواتِ الخمسِ، ولكنّ الأذن تنجذب أكثر ما تنجذب إلى المؤذن الذي يناديها بما تألفه النّفس من نغمٍ يخاطبها ويستدعي ذاكرتها ومكنونها الرّوحي، فتستشعر هويتها المختلفة عن أيّة هوية أخرى عبر العالم.

ويضيف المتحدث أن هذا النّغمَ يختلف باختلاف الرّقعة الجغرافية، فقد تعودت آذانُ مؤذّني العاصمة وما جاروها على أنغام تختلف عن سواهم، فمنادي الحقّ بالجامع الكبير مثلا ينطق بنغمة "رمل الماية" المعروفة في الفنّ الأندلسيّ المنتمي الى مدرسة الصَّنعة، وهي نغمةٌ شبيهةٌ بمقام الحجازِ في الموسيقى العربية مع اختلافاتٍ بسيطة،  كما أنّ المؤذّن يخاطبُ من خلالها أرواحا تعوّدت على هذه النّغمة وجرت في أروقة حياتها اليومية.

الأذان في العاصمة وما جاورها

 يؤكّد عبد الرحمن عكروت أهمّية ذكر مدرسة الصّنعة الّتي تنحدر من قرطبة في الأندلس، غير أنّ هنالك فرقا كبيرا بين ما يُتغنى به في النّوبات وما يطلقه المؤذّن المحترف من نغم، ملتزما بما تعلّمه من أحكام وضوابط الآذان، وهنا تكمن خبرة هذا الأخير. 

ولعل من أشهر من أطلق الأذان بهذه الطريقة و بأداء أقل ما يقال عنه أنه جميل وراقٍ، نجد كلا من الفنانين: محي الدين باشطارزي، وسيد احمد سرّي.

عبد الرحمن عكروت:  هنالك فرقا كبيرا بين ما يُتغنى به في النّوبات وما يطلقه المؤذّن المحترف من نغم، ملتزما بما تعلّمه من أحكام وضوابط الآذان

وإذا ما تجولنا قليلا في مدينة البليدة، يتحف أسماعنا شيخها الأصيل محمد بن عبد القادر برينيس المدعو بالشيخ البليدي من فوق منارة جامع الكوثر بأذانه المشهور على "نغمة العراق" التي تميز هذه المنطقة. وهي نغمة تنتمي إلى نوبة العراق في الفن الأندلسيّ التّابع لمدرسة الصنعة أيضا، ويكمن الفرق الوحيد هنا حسب المتحدّث في أن المؤذن في العاصمة يقوم بالتّكبير أربع مرّات، أما مؤذّن البليدة فيكبر مرّتين فقط، ويعود هذا الاختلاف البسيط إلى اختلاف المذهبين المالكي والحنفي.

الأذان في الغرب الجزائري وشرقه

 إذا انتقلنا الى غرب الجزائر، فلا يكون هذا الانتقال فقط بالرقعة الجغرافية بل سيرتبط أيضا بالذوق والعادات والتقاليد أيضا، حسب عكروت، فالمؤذن الأصيل من تلمسان وما جاورها، يحرص على الآذان بنغمات تنتمي إلى المدرسة الأندلسية الغرناطية وأنغامها الحلوة الرشيقة التي تعتمد على عذوبة الصوت وسرعة العُرَب. ولعلّ النّغمة الأشهر في تلمسان هي نغمة الغريب التي تقابلها في المقامات العربية البياتي مع ذكر الاختلاف طبعا، أمَّا في وهران وما جاورها فيغلب الطبع البدوي عليها نظرا لأن وهران حاضنة لفن القصبة. 

ينتقل بنا عبد الرحمن عكروت هنا بالحديث الى الشرق الجزائري، حيث مدرسة المالوف ( التي تنحدر من مدينة إشبيلية الأندلسية)، والتي كانت الأكثر تأثيرا على الاطلاق، فالمؤذن هناك يتّخذ من هذا الفنّ لسانا يخاطب به أذواق الناس في نداء الحق، كما أن نغمات المالوف المعروفة كثيرة، ولعلّ الأكثر استعمالا لدى المؤذّنين هي نغمة رمل الماية لقربها من مقام الحجاز الشرقي، وقد شنف أسماعنا كل من المنشدين عبد الرحمن بوحبيلة وناصر ميروح بما يزخر به هذا الفن العريق من حلاوة وأصالة.

أذان الجنوب

يؤكد المنشد عبد الرحمن عكروت  أنه في الجنوب الكبير الواسع مالا نستطيع اختزاله من أنغام جمّة في هذه المداخلة القصيرة التي لا تفي هذا التنوع، لكن لا بد من التلميح حسبه إلى بعض العلامات البينة. 

إن المتجول في منطقة الحضنة مثلا لا بد أن تلامس نفسه نغمات فن الياياي المعروف بثراء نغماته بين ترياش وبابوري وسروجي وكردادي، وغيرها الكثير، ولعلّ طبع السّروجي الأقرب إلى مقام البياتي هو الأكثر استغلالا من طرف مؤذّني هذه المنطقة.

أما في صحراءنا الكبرى، فيذكر المتحدث أنّ الطابع الخماسي هو الأكثر انتشارا، لما له من أصالة وانتماء إلى البعد الإفريقي، حيث سجّل المنشدُ القدير محمد شعيّب نسخةً من الأذان بالطّبع الخماسيّ وتناقلته كثيرٌ من القنوات الجزائرية لعذوبته وأصالته. 

الأذان بوصفه هوية جزائرية

ينبّه الأستاذ المختص في تاريخ الحضارة والتراث كريم فردي في تصريح لـ "الترا جزائر" إلى أن طريقة تأدية الأذان جزء مهم من الهوية الجزائرية التي وجب الحفاظ عليها، إذ يفترض في المؤذن امتلاك قدرات صوتية واسعة، لأن الأذان بالطبعة الجزائرية الأندلسية يعتمد على خامات صوت قوية، وعلى تعوّد المؤذن على سماعه وترديده. 

يستند المؤذن على نوبة "رمل الماية" أو ما توسم بـ" نوبة الزيدان"، إذ يؤكد الباحث هنا على أنه أذان أندلسي جزائري محض، وغالبا ما يشير إلى الطابع الغنائي الذي يميز موسيقى الشعبي، كما ان أن الأذان حسب كريم فردي يعدّ " تراثا لا ماديّ من واجب كلّ شخص الحفاظ عليه وتلقينه للأجيال".

تأثير الحقب الزمنية على رفع الأذان في الجزائر 

يؤكد الباحث كريم فردي أن التأُثير الزمني واضح لأن لكل حقبة دارسوها ومعلموها، كما أنها تتماهى مع الالتقاء بين الأذان المشرقي والمغاربي، وهنا لا بد من القول أن تأثره بالمقامات راجع إلى اختلاف الألسنة العربية، حتى في بلاد المسلمين غير العرب.

هنا، يشير كريم فردي إلى أن الفرق في الآذان راجع إلى أن لكلّ منطقة خصوصياتها، فحتى القرآن نزل بقراءات مختلفة وبألسن مختلفة فما بالك بالأصوات، إذ يختلف في القرآن من مقام الزيدان المشهور في بلاد المغرب العربي، وأذان أندلسي بطابع "الجاركا".

في الأخير، يؤكد كريم فردي على حرص وزارة الشؤون الدينية على رفع الآذان بإبراز الهوية الجزائرية وإحياء التراث الجزائري، فضلا عن تكوين المؤذنين، والحرص على تشكيل مجموعة من المؤذنين.

واللافت أن وزارة الشؤون الدينية تحدد ضوابط أذان الصلاة في المساجد، وكما تحدد "كيفية الأذان وصيغته" ما يفرض تحسين الصوت وضبط مكبرات المساجد.