تُشتهر مدينة نقاوس الواقعة جنوب غرب ولاية باتنة شرق الجزائر، بفاكهة المشمش، ولا غرو في ذلك، فقد عرفت تلك المدينة المشتق أسمها من الاسم الروماني"نفيسبيس" بكثرة الماء والأشجار، حتى أن الرحالة الحسن بن محمد الوزّان، الشهير بكنية "ليون الأفريقي"، قال عنها: "بها مساكن بحدائق خلابة وبأزهار للزينة"، فيما وصفها كل من الإدريسي والبكري بكونها: "مدينة جميلة كثيرة الأنهار والثمار".
طبيعي أن تقترن الأسطورة بشيء من التاريخ العريق لمدينة نقاوس عبر قصة مسجدها الأول الذي سُمي "سبع رقود" في تأثّر واضح بقصة فتية أهل الكهف الواردة في النصوص الدينية الإسلامية
أما ابن خلدون فقد أفردها ضمن مدن كتامة قائلًا: "وكانت كتامة تسيطر على مدن هامة، منها أنجيكان وباغاية، ونقاوس، وبلزمة"، وطبيعي أن تقترن الأسطورة بشيء من التاريخ العريق لهذه المدينة التي ترقت في عهد الرومان إلى "كسترا"، بمعنى الولاية، عبر قصة مسجدها الأول الذي حمل مسمى "سبع رقود"، في تأثّر واضح بقصة فتية أهل الكهف الواردة في النصوص الدينية الإسلامية.
الولي والأسطورة
عندما تهبط إلى ساحة مفترق طرق أول نوفمبر بنقاوس، غير بعيد عن " السبّالة"، وهي عين قديمة، سيقابلك مسجدان لا يكاد يفصل بينها شيء، فعلى اليمين مسجد الهدى الجديد، وإلى اليسار مسجد قديم، لكنهما يتقاسمان نفس الاسم "سبع رقود"، وكلمة النائمون السبعة، المستوحاة من قصة أهل الكهف، تسمية شائعة في عدة مناطق بالجزائر، أما موردها هنا فراجع إلى أسطورة مزجت المتخيل بالتاريخ الواقعي.
هنا، يقول عبد المالك بورزام، الباحث في تاريخ المنطقة ومؤلف كتاب"عذراء الأوراس والجلاّد"، الذي تناول سيرة الطبيبة الشهيدة مريم بوعتورة، ابنة نقاوس وواحدة من أيقونات الثورة، في حديث إلى"الترا جزائر": "نقل الرحالة موريس فيرود قصة شهيرة عن سكان المنطقة، فقبل خمسة قرون شاعت أسطورة اختفاء سبعة شبان من العباد الصالحين الذين لم يُعثر لهم على أثر، حتى جاء ولي صالح يدعى قاسم، وقد رأى أن سكانًا كانوا يرمون القمامة في تلة منخفضة، فزجرهم عن ذلك، طالبًا منهم بأن ينظفوا المكان لأنه كان مدفنًا للشبان الصالحين المختفين، و الذين وجدت أضرحتهم تحت التراب بوجوهٍ مسندة إلى الشرق، ثم آمرهم أن يجمعوهم في توابيت و أن يتخذوا عليهم مسجدًا، لذا سمي مسجد سبع رقود تيمّنًا بأثرهم الصالح و تخليدً لملحمتهم الإيمانية".
تأسس مسجد "سبع رقود" قبل أربعمائة عام ونيف، وهو واحد من أقدم ثلاثة مساجد قائمة بولاية باتنة، وقد جُعل مكانًا للتعبد والصلاة ونشر تعاليم الدين والصلح بين الناس. وأما ذلك الشيخ سيدي قاسم فاكتسب هالة روحية كبيرة، جعلت سكان المنطقة يحفظون أفضاله بعدما وافته المنية العام 1623 ميلادية.
ووفقًا لما تنقله مرويات فإن الرحالة لويس فيرود، الذي عمل مترجمًا للجيش الفرنسي يكون قد عثر، العام 1857، على نقيشة أسكفية بنية اللون بمسجد سبع رقود، ضُربت في باب وجد مثبتًا في تابوت، تشير بجلاء، إلى أن سيدي قاسم بن لحسن هو من ابتنى المسجد، الذي بقي بحوزة عائلة لحسانة منذ تلك الفترة إلى يوم الناس هذا.
فوق أطلال رومانية
يحتوي المسجد على قاعة للصلاة ومحراب، وقد شيد قرب سقيفة مفصولة عن قاعة العبادة، وتحتوي سبعة توابيت لأضرحة، بالإضافة إلى تابوت صغير، ليرتفع عددها إلى ثمانية، في تطابق تام هنا مع النص القرآني الذي يشير إلى فتية أهل الكهف الذين كانوا سبعة نفر و ثامنهم كلبهم الباسط ذراعيه بالوصيد.
أما طريقة بنائه فقد تضمنت مراحل، كان أولها جلب أعمدة رومانية بتيجانها، من منطقة القطارة، فاعتمدت مساند وعرصات للهيكل فيما تم تسقيفه بدعائم من خشب أشجار العرعار المنتشرة بالمنطقة، وهي ذات جذوع صلبة ومقاومة، وقد كان المسجد يوم شيّد مكان عبادة للصلاة المفروضة بالإضافة إلى التراويح خلال شهر رمضان، وبلا منارة. أمّا سقيفة الأضرحة فكانت إلى وقت من الأوقات مزارًا للناس، يدل على ذلك آثار حناء التي تلطخ بها الجدر طلبًا للبركة، قبل أن تكافح جمعية العلماء هذا الطقس غير المستحب. ويعدها زُود المسجد بمنبر خشبي وأنشأت له منارة بعد استقلال البلاد ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي ألحقت بها ميضاء حتى يأخذ شكله النمطي الموحد لكل مساجد البلاد.
والدة أحمد باي
يردف الباحث بورزام "المسجد تتوفّر فيه جميع شروط التصنيف ضمن المعالم الدينية والتاريخية، يلخص مكان العبادة هذا، المرحلة الرومانية والإسلامية والعثمانية، إذ أن معماره لم يخل من نمط عمارة مساجد العثمانيين، كما يتوفّر على أثر المقاومة الرسمية للاحتلال الفرنسي، حيث لجأ آخر بايات قسنطينة، أحمد باي للاحتماء بالأوراس بين قبائل أولاد سلطان، و لإدارة شؤون المقاومة بمؤازرة أعراش الأوراس و الزاوية الرحمانية، منذ العام 1840، و الدليل أن ضريح والدته لالّة رقية التي رافقته، توفيت ودفنت بمكان يقع بجوار المسجد العام 1842، و قد عُثر على بعض حليها التي كانت ترتديها، كما أن المسجد لعب دورًا بالغًا في حركة الإصلاح الديني خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عبر المدرسة اليوسفية التي أسست في ساحته".
معلوم أن أحمد باي كان مكث قرابة ثمانية سنوات بالمنطقة، فشن معارك ضد الفرنسيين بمساعدة أعراش الجهة، ثم حينما اشتد عليه الخناق، يمّم شرقًا نحو مدينة منعة الواقعة جنوب شرق ولاية باتنة، وأقام بها لفترة، حيث دفن ولدين له بزاوية بني عباس وهي مسجد أسس أيضًا على أنقاض رومانية العام 1660 ميلادية، قبل أن تنتهي مقاومته العام 1848، على يد القائد سان جيرمان، بقلعة أولاد كباش جنوب الأوراس.
المدرسة اليوسفية
لعب مسجد "سبع رقود" دورًا طلائعيًا ضمن حركة الإصلاح الوطني التي تكفّلت بها جمعية العلماء المسلمين، حيث أسس الشيخ حمادي بن يوسف، وكان ممرضًا بالمستشفى، المدرسة اليوسوفية التي نسبت إليه، فساهم في نشر الوعي الوطني ضد المستعمر، وكوّن ثلة من الطلاب،وحظيت مؤسّسته التربوية والإرشادية بثناء جمعية العلماء المسلمين التي نظمت لها زيارات رسمية قادها الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي شخصيًا ولستة مرّات متتالية خلال الأربعينيات.
ونظرًا للدور الكبير الذي قامت به تلك المدرسة في بث الوعي الوطني القريب من مطالب الحركة الوطنية الاستقلالية، تعرض مؤسّسها لمطاردة السلطات الاستعمارية التي ضيقت عليه وسجنته وعذبته، فالتحق الرجل بكتائب جيش التحرير بالمنطقة وارتقى شهيدًا في شهيدًا في ميدان الشرف، وكاد رفيقاه المعلمان المطاردان، الشيخ عيسى مرزوقي، والمربي الصديق ميهوبي أن يلتحقا به في باحة الشهداء، بيد أن القدر أراد لهما أمرا آخر بعد الاستقلال، فتولى الأخير منصب مفتش تربية و تعليم فيما عاد مرزوقي إمامًا لذات المسجد المهنة التي شغلها قرابة الستين عامًا.
وعودًا على بدء، عاد مسجد سبع رقود لنشاطه الأوّل فخضع منذ سنوات لعملية ترميم كبرى، أشرف عليها مهندسون مختصّون برعاية شعبة جمعية العلماء المسلمين لدائرة نقاوس، فصار مدرسة قرآنية لا ينقطع فيه ترتيل وتحفيظ القرآن على طريقة ورش، كما كان منذ خمسة قرون، في حين أصبح مسجد الهدى سبع رقود الذي بني قبل عقدين في مكان المدرسة اليوسفية القديمة وكانت ثلاثة أقسام واقعة في ساحة سبع رقود القديم، جامعًا للصلاة والذكر، مخلدًا ذكرى المسجد العتيق إلى الأبد.
وفي شهر كانون الثاني/جانفي المنصرم، وعقب انتهاء أشغال صيانة وتوسعة وتهيئة أشرف عليها المهندس الطيب قرون، أخرجته في أبهى حلة بعد سنوات من الإهمال ومشارفة بعض أجزائه من الانهيار.
قامت مديرية الثقافة لولاية باتنة بالنسيق مع مديرية الشؤون الدينية، بإعداد ملف تصنيف محلي أحيل على اللجنة الولائية التي تسعى لرفعه للّجنة الوطنية التي ستقرر منحه صفة المعلمة الدينية والتراثية، لعدة معطيات أوجزها مدير الثقافة بالنيابة، عبد الرزاق بن سالم في حديث إلى "الترا جزائر" في قوله إن ملف التصنيف يهدف إلى الحفاظ على مسجد سبع رقود، لتوفّره على عناصر تاريخية وثقافية وعمرانية، أبرزها الأسطورة التي واكبت التسمية، ثم حيازته لسمتّي العمارة الرومانية و العثمانية، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه قبل و بعد الثورة، وطبعًا هذا يعني أنه جزء من الذاكرة المحلية و الوطنية".
لجأ آخر بايات قسنطينة، أحمد باي للاحتماء بالأوراس بين قبائل أولاد سلطان، و لإدارة شؤون المقاومة بمؤازرة أعراش الأوراس و الزاوية الرحمانية، منذ العام 1840
لعلّ هذا ما حدا بنشطاء كثيرين في مدينة نقاوس إلى المطالبة برد الاعتبار له منذ سنوات عديدة، وهي أفضل طريقة تبقي مسجد سبع رقود حيّا، في الواقع، وعلى الدوام.