31-يوليو-2022
أطفال جزائريون يمسحون أحذية جنود الاستعمارالفرنسي (الصورة: Getty)

أطفال جزائريون يمسحون أحذية جنود الاستعمارالفرنسي (الصورة: Getty)

عبر الطريق المؤدي إلى ساحة البريد المركزي من الجهة الجنوبية "تافورة"، ما إن تتوقف سيارة ما أمام إشارة الضوء الأحمر، يهرول إليها شاب مراهق ويباشر بمسح زجاج السيارة دون إذن سائقها، حيثيرفض أغلب سائقي السيارات هذه الخدمة، ويعبرون عن تذمرهم أحيانًا أو شعورهم بالحرج ويومئون غالبًا لماسحي الزجاج بالتوقف.

قد لا يعرف كثير من الجزائريين قصة اختفاء ظاهرة منح البقشيش أو الإكرامية في المقاهي والمطاعم الشعبية

يشعر كثير من الجزائريين بالحرج والتعاطف مع ماسحي زجاج السيارات، ويرون أن الموافقة على الخدمة تعني إهانة مواطن جزائري، خاصّة لو كان الشخص معطوبًا أو طفلًا مراهقًا، وقد يدفع بعض سائقي السيارات مبلغًا ماديًا طفيفًا مع رفض تقديم الخدمة، من أجل المحافظة على كرامة ماسحي الزجاج.

أمام محطة تزويد البنزين بخروبة، الأمر قد يكون مغايرًا هناك، ما أن تقف سيارة أمام الطابور للتزود بالبنزين، حتى يبادر شباب يحملون أدوات غسل وتلميع زجاج السيارة، ليطلب من السائق السماح له بمزح زجاج سياراته.

هنا تختلف ردود أفعال الجزائريين أمام ماسحي زجاج السيارة، قد يبدوا الشاب أنه يؤدي عملًا طبيعي، فهو يرتدي بدلة عمل نظيفة، ويحمل أدوات التنظيف الخاصة.

سمير وهو شاب في الثلاثينات يشتغل بالمحطة، يَستبعد أن ماسحي زجاج السيارة يشعرون بالدونية في مزاولة هذا النشاط، مضيفًا أنه عمل متعب ويتطلب السرعة في الإنجاز وكذا شراء مواد التنظيف والغسل مخصصة للزجاج السيارات.

يشير محدّثنا أن أغلب ماسحي الزجاج السيارات يعانون من البطالة والتهميش والحاجة، ويأتون إلى المحطة قصد الاسترزاق، وهو من الأعمال اليومية فأغلبهم يختفون عن المحطة بعد أسبوع أو أسبوعين، بحسب أقواله، ومنذ التحاق سمير بالمحطة لم يَسجل أي اعتداء على الزبائن أو أصحاب المركبات كما يروج له البعض.

بدوره قال أحد الشباب ممن يمارسون مهنة مسح الزجاج السيارة، عكس ما يعتقده كثيرون، نحن لا نمد اليد أو نستعطف ركاب السيارات، بل ننجز عمل ونشاط مقابله عمولة مادية. وقال المتحدث "لا نشترط مبلغًا ماليًا محددًا، البعض يقدم 50 دج والآخر 100 دج".

كما لا ينفي أن بعض السائقين خاصة من النساء يقدمن ورقة 1000 دج مع رفض مسح الزجاج تأدبًا واحترامًا، حيث يرى محدثنا أن العمل في محطة مثل نفطال، وراء تقبل بعض الجزائريين لهذا النشاط عكس ما يجري أمام البريد المركزي.

وتابع المتحدث أن العمل هناك (البريد المركزي) أقرب إلى التسول و"الطلبة"، لكن في تقدير المتحدث أن أغلب الجزائريين يرفضون تقدير عمل ماسحي الزجاج أنه خدمة ونشاط، وشأنه شأن "ماسحي الأحذية".

يا ولاد ( Yaouled ) التسمية الاستعمارية

خلال الفترة الاستعمار الفرنسي، انتشر عبر حزام المدينة الأوروبية بيوت قصديرية ومجمعات سكانية هشة وفوضوية يسكنها جزائريون، وعبر أزقة شارع باب عزون وعلى أطراف ساحة الشهداء وبجانب أسواق المعمرين، يتوزع أطفال يتامى ومتشردون وبصوت عالي يَصيحُون porter madame porter monsieur، إنهم حاملو قفة وأكياس تَبضع الأوروبيين.

أما بأسفل مدينة القصبة أطفال يبدو عليهم أثر الجوع، يرتَدون "القشابية" دون سراويل، ثياب مُمزقة، قذرة ومتسخة، ملطخة باللون السود نتيجة التسكع في الشوارع، أطفال حفاة عراة لا ينتعلون أحذية، بعضهم يتامى دون مأوى اقتلعهم الاستعمار الفرنسي من قراهم ومداشرهم، حيث كانوا يجتمعون في ساحة الشهداء لممارسة مهنة ماسحي الأحذية.

 كانت ساحة "الدوق دورليان" (التسمية الكولونيالية) موقعًا محوريًا، ومركز كثير من المقرات الحكومية والإدارية الكولونيالية، وكان هؤلاء الأطفال يُطلق عليهم من طرف الأوروبيون بـ "Yaouled"، وحين ينادى بهذا اللقب يسارع أحدهم حاملا معه "بويا وفرشاة" لمسح حذاء أحد الأقدام السود أو الأوروبيين.

ومنذ ذلك الحين ارتبط في مخيل الفرد الجزائري أن مهنة ماسحي الأحذية أو حمل القفة مرتبط بالاستعمار الفرنسي الذي تفنن في الدوس على كرامة الجزائريين.

بن بلة يستأصل الظاهرة

في السياق نفسه، يجمع كثيرون أنه على الصعيد الاجتماعي كانت كثيرة حسنات رئيس الجمهورية الراحل أحمد بن بلة، من بينها تلك الحملة التي قادها في شبّاط/فيفري 1963 لتجميع ماسحي الأحذية ومحو الظاهرة.

كان أحمد بن بلة متعودًا أن يجول بسيارته الخاصة شوارع العاصمة ليلًا ونهارًا دون حراسة أو برتوكول، فأدرك أن ظاهرة التشرد وأصحاب العاهات والأمراض وماسحي الأحذية ما تزال منتشرة في الشوارع، وقبيل الحملة خاطب بن بلة المسؤولين في الدولة قائلًا: " لعنة الله على الإنسان الذي يمد قدمه لإنسان آخر مثله ينحني له لكي يمسح حذاءه".

لقد كان الإحساس بالإهانة يُلاحق بن بلة ومن ورائه الجزائريين عندما يشاهدون أطفالًا يتامى وشيوخًا مشردين منهمكون في مسح أحذية الأجانب في الجزائر المستقلة.

في ذلك الوقت، كان بشير بومعزة وزير الاقتصاد، وهو من تكفل بهؤلاء الأطفال المشردين، حيث تم تجمعيهم في قاعة ابن خلدون وخاطبهم مسؤولو الحزب أنه ابتدأ من اليوم يمنع ممارسة نشاط مسح الأحذية، وأن الدولة الجزائرية المستقلة ستتكفل بهم، وتم إرسالهم إلى مراكز التكوين والتثقيف والتحقوا بالمدارس التعليمة، وثم إيواء المرضى والشيوخ والمحتاجين منهم.

لا بقشيش بعد اليوم.

في سياق الموضوع، قد لا يعرف كثير من الجزائريين مكمن السر وراء اختفاء البقشيش أو الإكرامية من المقاهي والمطاعم الشعبية، وفي حقيقة الأمر، تعود القصة بعد حملة تطهير الشوارع من مظاهر اجتماعية مشينة شكلت التركة الاستعمارية.

 انطلق حماس شعبي وقتها لتغيير الوضع على جميع الأصعدة، قصد القضاء على كافة الممارسات كانت تحمل إهانة كرامة الجزائري، والتصدي إلى كافة أشكال التمييز بين المواطنين أو تعكس عدم المساواة في الحقوق والوجبات، إلى غاية أن اعتبر البقشيش أو الإكرامية في خدمة المقاهي عنوانًا لتركة استعمارية وصورة من صور الإمبريالية، التي تُجسد التفوق المادي لمواطن على حساب مواطن أخر، وأمسى إلى غاية اليوم بعض ندال المقاهي في الأوساط الشعبية يرفضون العطية، كما يتحرّج بعض الزبائن في تقديمها مباشرة إلى النادل.

ذكر الرئيس بن بلة أن بعض الأطفال من ماسحي الأحذية ممن تم إيواؤهم وإرسالهم إلى المدارس أصبحوا كوادر في الدولة الوطنية 

 لقد تحولت ثيمة ماسح الأحذية إلى أعمال روائية ونصوص مسرحية نظرًا إلى الجانب الإنساني الذي تتركه المهنة على شخصية الفرد وهو طفل، إلى هنا، ذكر بن بلة في حواراته أن بعض الأطفال من ماسحي الأحذية بعد إرسالهم إلى المدارس التعلمية تحولوا إلى كوادر في الدولة الوطنية.