22-يناير-2020

المؤرّخ محمد حربي (الصورة: ألجيري باتريوتيك)

في الحوار أدناه، المترجم عن اليومية الفرنسية "لوموند"، أجرى الصحافي كريستوف عيّاد، لقاءً مع المؤرّخ الجزائري محمد حربي في كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، وطرح عليه عدّة أسئلة تتعلّق بنضاله في ثورة التحرير الجزائرية، وعلاقته بالتنظيمات السياسية في ذلك الوقت، وبعض القيادات الثورية ومواقفهم، من بينهم عبان رمضان وأحمد بن بلة، وهواري بومدين، وصولًا إلى رأيه حول الوضع الجزائري الراهن مع استمرار الحراك الشعبي.


يُعتبر محمد حربي البالغ من العمر 86 سنة، ذاكرة حيّة للمسار الثوري وفترة ما بعد الاستقلال. ولد المؤرّخ في نواحي مدينة سكيكدة شرق الجزائر، لعائلة ثرية من الأعيان، ملكت الكثير من الأراضي منذ عقود.

محمد حربي: "ليس لديّ ما أفعله بينكم، لقد استوليتم على الحكم، ولديكم برنامج لم أشارك في تخطيطه"

درس محمد حربي في ثانوية فيليبفيل بمسقط رأسه، كما شغل منصب مسؤول اللجنة الصحافية لفدرالية جبهة التحرير في فرنسا، وكان من دعاة تأسيس الودادية العامّة للعمال الجزائريين بفرنسا.

اقرأ/ي أيضًا: أسماء شهداء ثورة التحرير يُحييها الحراك الشعبي

استدُعي من طرف كريم بلقاسم، ثم سعد دحلب للالتحاق بديوان وزارات خارجية الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية، حيث كُلّف بحقيبة الجزائر الدبلوماسية في غينيا، كما كان خبيرًا في مفاوضات إيفيان.

ساند محمد حربي حكومة أحمد بن بلة بعد الاستقلال، وعمل مديرًا للجريدة الأسبوعية "الثورة الأفريقية"، وكان أحد مؤسّسي المعارضة السرّية، ضدّ الانقلاب الذي قام به بومدين على الرئيس بن بلة.

يعيش محمد حربي حاليًا في باريس الفرنسية منذ سنة 1973، وقد تقلّد عدة مناصب سامية في الدولة الجزائرية، لكنه سجن سياسيًا بعدها، ووضع تحت الإقامة الجبرية لمدّة ثماني سنوات.

كانت هناك الكثير من الإصدارات والكتب التي تناولت جوانب مختلفة من تاريخ الثورة الجزائرية من أهمّها كتاب "الشعبوية الثورية في الجزائر"، للكاتب كريستيان بورجو (1975)، حيث كان أوّل إصدار ناقد يُشرّح مسار الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني" من الداخل. كتاب غنّي بالحقائق التاريخية، يحكي مشوار نضاله خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، ومن ثَمَّ فترة رئاسة الرئيس الراحل أحمد بن بلة (1963-1965).

في سنة 2001، نشر محمد حربي الذي قدّم نفسه بصفته شخصًا "غير مؤمن، غير متديّن، وماركسي ليبرالي"، أوّل جزءٍ من مذكّراته "حياة واقفة" (الاكتشاف). 

واجه محمد حربي بعدها صعوبات في القراءة، بسبب مرض أصاب عينيه، وهذا ما عطّل كتابة باقي تلك المذكرات، لكنه بقي مواظبًا على متابعة أخبار الجزائر والجزائريين، واستمرّ في استقبال أصدقائه وزملائه، حيث قال في تصريح سابق: "أنا دائمًا في خدمة الجزائر معنويًا، لكنني فقدتها كما فقدت شعبها، لم يعودوا هم أنفسهم". 

  • ما هي الظروف التي التحقت خلالها بجبهة التحرير الوطني في الجزائر سنة 1954؟

كنت قد تجنّدتُ قبلها في حركة انتصار الحرّيات الديمقراطية التابعة لمصالي الحاج سنة 1948، في حين وقف ضدّي أفراد عائلتي الذين فضّلوا مساندة السلطات الاستعمارية، كان عمّي الأكبر يشغل منصب نائب رئيس الجمعية الجزائرية، وكُنت وقتها قد درّبتُ شقيقين لي على الممارسة السياسية. 

عندما فشلتُ في الحصول على شهادة البكالوريا "بسبب نشاطاتي السياسية" على حد تعبير والدي حينها، أُرسِلتُ إلى باريس حيث قابلت بعض المغاربة والتونسيين، فاندمجت سريعًا في نشاط جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين، والتحقت بمكتبها هناك. 

المعضلة الأكبر في ذلك الوقت، كانت في الانشقاق الذي حدث في قلب حركة انتصار الحرّيات الديمقراطية، بين اللجنة المركزية ورئيس الحركة مصالي الحاج، هذا الأخير الذي اتهم اللجنة "بالإصلاح الأعوج". تفجّرت هذه الأزمة في فرنسا، خلال شهر كانون الأوّل/ديسمبر من سنة 1953 ثم طالت الجزائر. 

طالب حينها مصالي الحاج بزعامة ذات سلطةٍ كاملةٍ، ثم قام المصاليون بعدها، بإرسال فرقة عسكرية عنيفة إلى الطلبة الذين رفعوا في الأخير شعارات دينية. وقد واجهتُ "السلطة الكاملة" و"الإسلام" وتلك المناوشات بالرفض التام.

في محاولة لتنحية مصالي الحاج، أنشأت اللجنة المركزية ما يُسمّى باللجنة الثورية للوحدة والعمل، كان الهدف منها إعادة توحيد الصفوف من خلال الكفاح، ومن صلب هذه اللجنة، خرجت قيادة حزب جبهة التحرير الوطني لاحقًا. لقد كنت شخصيًا من مؤيّدي الكفاح المسلّح.

محمد حربي: "قام المصاليون بإرسال فرقة عسكرية عنيفة إلى الطلبة الذين رفعوا في الأخير شعارات دينية"

  • هل كان هناك إجماع حول إعلان الثورة؟ 

لم يوافق المصاليون على الكفاح المسلّح في مثل تلك الظروف، كانت لمصالي الحاج آنذاك ثلاثة أهداف: تعبئة الشعب، تدويل القضية الجزائرية، وتكوين إطارات عسكرية في الخارج، ليعودوا بعدها إلى الجزائر للعمل تحت سلطة سياسية.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل دينا بنت عبد الحميد.. هل تكرم ثورة التحرير صديقتها؟

 بالنسبة لمصالي الحاج، كان من الضروري الاعتماد على الشعب أكثر من إعطاء السلطة للأشخاص المسلّحين، وكانت نتيجة هذا الصدام، حربًا أهلية بين المصاليين وحزب جبهة التحرير الوطني. 

لقد انتصرت جبهة التحرير الوطني، لكن تلك الحرب بأكملها لم تكن سوى امتدادًا لكفاحٍ لا ينتهي بين الفصائل، لم أفكّر يومًا في أن جبهة التحرير الوطني ستصمد إلى النهاية، وأنّ هذا الحزب لن ينقسم. الكفاح ضدّ فرنسا هو ما جعلنا نصمد معًا حتّى الاستقلال. 

لقد تسبّبت تلك الحروب الداخلية في أضرار بالغةٍ، ومُنحت السلطة لأولئك الذين كانوا يمتلكون الأسلحة. "الأفلان" لم يكن يومًا حزبًا سياسيًا، لقد كان تنظيما مسلحًا. 

لقد تورّط القادة المسجونون في الصراعات الداخلية، مع من كانوا في الخارج من العسكريين. لقد حصلنا على الاستقلال، لكننا خرجنا من أزمة لنقع في أخرى. عسكرة المؤسّسة تمت عبر هذه الأزمات.

إن الأزمة التي حصلت خلال هذه الفترة، ليست سوى مرحلة أخرى مكملة، فلو بقينا متّحدين كانت الأشياء ربّما لتحصل بطريقة مغايرة. 

  •  متى انفصلت عن جبهة التحرير الوطني؟ 

في سنة 1956، اكتشفتُ غياب استراتيجية طويلة الأمد، لكنّني فضّلت أن أقطع علاقتي أولًا مع المسألة المصالية، وتوضيح موقفي حيال اليسار. كنت ضدّ الحرب الأهلية بين الجزائريين، فهو شيء لم أؤمن به قط. 

بعد ذلك، جاءت مسألة الكفاح المسلّح في فرنسا، كنت معارضًا لها. 

لقد أُخفِيَ على المناضلين وقتها، أن كلّ المسؤولين المسجونين في فرنسا كانوا يعارضون ذلك أيضًا، كانوا يردّدون: "انتبهوا.. يُمكن لهذا الأمر أن يكون خطيرًا علينا وعلى الجزائريين المغتربين". 

لقد كنتُ ضدّ الهجمات خارج فرنسا، خاصّة في البلدان التي لدينا فيها أصدقاء كألمانيا، بلجيكا، إيطاليا وسويسرا. 

أَعتبرُ أن الكفاح في إطار عسكري محض، يمكنه أن يكون أيّ شيء عدا أن يكون ثورة. 

  • ما نتيجة الحرب مع المصاليين على المدى الطويل؟ 

المصاليون والاشتراكيون، كانوا القوّتين الوحيدتين اللتين باستطاعتهما تمثيل اليسار. لقد خسرنا معركة اليسار قبل الاستقلال، وتم طمس الحقائق خلال حرب التحرير. 

محمد حربي: "الذين كانوا يمتلكون سلطة السلاح في الداخل كما في الخارج، كانوا يَصْبُونَ إلى أن تكون الجزائر ملكًا لهم"

هل شعرت خلال حرب التحرير، بأن الرأي الفرنسي مال إلى صالح الاستقلال أم أنه وقف مع الحرب؟ 

مرت عليَّ لحظات وجيزة جدًا اعتقدت فيها ذلك، بمناسبة انتخابات كانون الثاني/جانفي 1956 في فرنسا، والتي أتت بـ بيير مينديس فرانس وغي مولي، بفضل التحالف والفوز، في الوقت الذي أثّر ذلك سلبًا على السياسة الفرنسية.

اقرأ/ي أيضًا: جاك سيمون في ذمة الموت.. غياب مؤرخ ثورة التحرير

 لكن الحزب الاستعماري كان قويًا جدًا واستعاد السيطرة، فقد استغل مناصرو الحرب مختلف المعارضات الداخلية، وكذلك الحرب بين جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية (التي خلّفت حركة انتصار الحريات الديمقراطية بعد سنة 1954).. إلخ.

في اللحظة التي كنّا فيها غارقين في الحرب، سُلِبَت السّلطة من طرف القوّات القومية، والقوّة القومية الرئيسية في فرنسا كانت الجيش. 

  • يقال بأن الاستقلال في الجزائر، تمت مصادرته في صيف 1962 من طرف "الجيش الداخلي"، صاحب الجماعات المسلحة في الداخل، هل تُوافق هذا التحليل؟ 

هذا ليس بالتحليل الجدّي ولا معنى له. الداخل لم يكن بتلك الصورة التي أرادوا إيصالها، والخارج أيضًا لم يكن بذلك الشكل فحسب، بل كانت هناك أيضًا قوّات الداخل العالقة خارج البلد. 

الجميع أتوا من الوسط الاجتماعي نفسه، وكانت لديهم الرؤية نفسها للأمور. 

أولئك الذين كانوا يمتلكون سلطة السلاح في الداخل كما في الخارج، كانوا يَصْبُونَ إلى أن تكون الجزائر ملكًا لهم، لقد كانت بالنسبة إليهم بمثابة غنيمة. 

مصادرة الاستقلال لم تكن صنيعة جيش الداخل، إنما هي فعلة الرجال المسلّحين الذين كانوا يسرقون البلد من سكّانه، لقد قاموا باختطاف الاستقلال والسيادة من الشعب الجزائري. 

 كان بن بلة حذرًا منذ البداية، وقد شاركتُ شخصيًا في تشكيل اللجنة المركزية من طرف بومدين وبن بلة.

في لحظة ما، حمل بومدين القلم وشطب اسمين ليعوّضهما بشخصين مقرّبين، لقد ذُهلت ولكنني لم أجرؤ على الكلام، وحتى بن بلة أيضًا لم يتفوّه بكلمة.

التفت إليّ هواري بومدين وقال لي: "محمد، لا تكترث بأمور الأشخاص الكبار".

لقد ترك بن بلة الأمور في يد العسكريين، إضافة إلى ذلك، ساهمت المعارضة الداخلية (التابعة لحزب جبهة التحرير الوطني، بمن فيهم حسين آيت أحمد)، في إشعال حرائق ساهمت في منح الفرصة للجيش ليضع يده على كل الأمور.

  • لماذا يتحدث المتظاهرون الشباب والحراك الاجتماعي المستمرّ حاليًا في الجزائر عن استقلال جديد؟

لقد سُلب منهم الاستقلال، لم يكونوا مستقلّين يومًا، هم الآن لا يفكرون سوى في أن السيطرة الفرنسية قد حلّت محلّ الجيش الجزائري.

هذا الأمر بدأ منذ سنة 1962، عندما اكتشف الناس بأن جبهة التحرير الوطني لم تفِ بوعودها، رّددوا مقولة: "كأن فرنسا لم تغادر الجزائر".

مع أني أختلف في الرؤى مع الحراك في الجزائر، إلا أنه أثبت فعلًا ذلك الابتكار وتلك الديناميكية الفريدة، بما في ذلك أسلوب الهدم الذي أعجبت به، إضافة إلى الذكاء الشعبي في مواجهة السلطة.

ومع أن الأمور لا تسير قطعًا كما هو مخطط لها، إلا أنه في جعبة هذا الحراك بذورًا طيبة لإعادة تشكيل المشهد.

  • كيف كان حال البلاد خلال الاستقلال، هل تم محو الإرث الكولونيالي، بما في ذلك الأشياء التي كانت سارية المفعول؟

لقد أسيء تسيير هذا الأمر، وأسيء استعماله أيضًا. في سنة 1962، كانت إمكاناتنا محدودة، فئة من أولئك الذين تكفلوا بتدريب المجتمع المدني غادروا، وفئة أخرى اختلفت مع أنصار بن بلة (فرحات، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف وبن خدة)، وخرجت إلى التقاعد.

في الحقيقة، كل شيء كان جنونيًا، البيئة الريفية كانت فاقدة للتوازن، لم يكن هناك رابط حقيقي بالأرض وقتها، المشكل الرئيسي في رأيي كان في المقدرة على التسيير الذاتي واسترمام طبقة الفلاحين.

  • لقد قضيتَ مدة ثلاث سنوات (1962-1965) في قلب السلطة. ما الذي خرجت به من هذه التجربة؟ هل كنت تؤمن بتغيير الأمور من الداخل؟

لقد احتلت جبهة التحرير الوطني كل الساحة، ومعارضتها لم تكن لتدُخلني السجن، بل كان ذلك ليكلّفني حياتي.

كان من الممكن الحصول على مناصب منتجة في مجالات عدّة، أحيانًا كنا نكسب ميدانا على أمل أن يتسع، لكن ذلك لم يحصل أبدًا.

ابتداءً من كانون الأوّل/ديسمبر 1964، لم أعد أؤمن بالأمر، لقد اكتسبت شعورًا مريرًا بالفشل. لم تكن لدينا أي سيطرة على القرارات. كلّ المشاريع التي كانت تُقترح كان يتمّ رفضها أو لا يتمّ تطبيقها، وقد أبلغت بن بلة بذلك. 

هناك طريقتان لتصوّر السلطة: إمَّا أن يعاد بناؤها من أساسها، وهذا ما يتطلّب الجدية والاعتماد على أشخاص يؤمنون بذلك، أو مواصلة رأب الصدع مع الدولة الاستعمارية كما كان الأمر، وإدارة التغيير الذي لم يكن يمس العمال بطبيعة الحال.

  • وصفتَ بن بلة بالرجل المتديّن والمحافظ؟

محافظ ومتديّن، هذا أمرٌ مؤكّد. لقد أخبرني ذات يوم قائلًا: "لو كان الأمر بيدي، كنت لأضيف حرف الميم لكلمة مسلمين، في اختصار شعار الاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA). لكن جمال عبد الناصر الذي كان في حرب مع الإخوان المسلمين، كان معارضًا لذلك.

لم تحسب الوطنية العروبية الإسلامية لبن بلة، حساب التنوّع الشعبي في الجزائر، لا أولئك من أصل فرنسي، لا اليهود، ولا فرنسيي الصحراء، والتصرّف على هذا النحو وضرب الآخرين عرض الحائط، كان يدفعهم بالنهاية إلى الرحيل. 

محمد حربي: "كان هواري بومدين يؤمن بالخبرة الاقتصادية الاشتراكية للجزائر"

ما الذي يمكن أن تقوله عن هواري بومدين؟ 

لقد كان رجل دولة بلمسات "ستالينية"، لكنه لم يكن متدينًا بالقدر الذي كان عليه أحمد بن بلة. كان هواري بومدين يؤمن بالخبرة الاقتصادية الاشتراكية للجزائر. 

لم أكن وقتها، أكنّ له الاحترام، لكنّه كان باعتقادي الرئيس الأكثر وعيًا بالصعوبات التي كانت تنتظر الجزائر من بين كل خلفائه. 

اقرأ/ي أيضًا: لصالح من تُشوّه رموز ثورة التحرير الجزائرية؟

  • كنتَ في السجن بين سنتي 1965 و1973 ووُضِعت بعدها في الإقامة الجبرية، كيف عشت هذه المرحلة؟ 

عندما تم اعتقالي في التاسع من شهر آب/أوت سنة 1965، لم أكن ذلك الذي يبحثون عنه فعلًا، لكن الانقلابيين حاولوا تجنيدي عدّة مرّات. 

ترأس هواري بومدين الجزائر، بعد انقلاب على بن بلة في شهر حزيران/جوان وطلب رؤيتي، لكنني رفضت. 

عُرِضت عليَّ سفارة ووزارة، وكانت إجابتي كالتالي:

"ليس لديّ ما أفعله بينكم، لقد استوليتم على الحكم، ولديكم برنامج لم أشارك في تخطيطه".

لقد عذبوا العديد من الرفقاء بطريقة وحشية، لكنني شخصيًا لم أتعرّض للتعذيب. 

كنا نُنقل في البداية مرارًا من مكان إلى آخر، من سجن لامبيز إلى مستشفى عنابة، إلى مركز تعذيب فرنسي قديم، ومن ثمّ إلى فيلا بن غانة في الجزائر العاصمة، ومن هناك كان علينا المغادرة لتُخَصَّص الفيلا لإقامة موسى تشومبي، الرئيس السابق لمحافظة كاتانغا. ومن هناك نقلنا نحو مركز شرطة شاطونوف. 

في سنة 1969، تقرّر وضعنا في إقامة حرّة خاضعة للحراسة، أُرسلت شخصيًا إلى أدرار ثم إلى تيميمون (في صحراء الجزائر). وفي بداية سنة 1971، استطعت البقاء في مدينة سكيكدة غير بعيد من مقرّ سكني. 

  • احكي لنا قصّة فرارك سنة 1973

لقد تم التخطيط لكلّ شيء من فرنسا، جاء أصدقاءٌ لي في سيارات مستأجرة من تونس، وخرجنا من البلد بجوازات سفر تركية جاءتنا من المخيمات الفلسطينية ببيروت. 

التحقنا بالعاصمة تونس، ومن هناك سافرنا نحو جنيف حيث مكنتنا آنيت روجيه، واسمها الحقيقي آن بومانوار، من عبور الحدود نحو فرنسا. 

  • كيف تم استقبالكم من طرف السلطات الفرنسية؟ 

لقد قيل لنا بأن اللجوء متاحٌ في فرنسا، لكنهم طالبونا بالبقاء بعيدًا عن السياسة، منحونا بطاقات للعمل وأمرونا بالتزام الهدوء. 

أعترف بأنه لم يتمّ يومًا استدعاؤنا لنحاسب على أي شيء. 

كانت تقاريرنا تصدر دائمًا من روما وبروكسل (لكي نجنب باريس الإحراج)، وقد تخليّت سريعًا عن فكرة تكوين منظمة، حينما اتضح لي بأن الأمن الجزائري قد غزا الفضاء الفرنسي. لم أفقد الأمل في السياسة بالقدر الذي فعلته وقتها. 

  • هل كان دورك بصفتك مناضلًا ميزةً أو عائقًا لك كونك مؤرّخًا الآن؟

عندما يتعلّق الأمر باستيعاب الأمور، فإن دور المناضل هو ميزة بلا شكّ، لقد منحتني الماركسية أدوات عدّة لأقبض على خبرتي النضالية بحذر، لكنني لم أتبيّن منها أية ميزة حصرية في انتهاجي للسياسة. 

  • في رأيك، من فهم الجزائر أكثر من بين الكتاب الفرنسيين، بورديو، ألبير كامو؟ أو آخرون؟ 

لقد كان كتاب بورديو عن العمال الجزائريين مرجعًا هامًا، رغم أنه استفاد من مساعدة الأجهزة الخاصّة لكتابته، لكنّه لم يكن في خدمتهم.

 الكُتّاب الذين فهموا الجزائر جيّدًا لأنهم كانوا يتموقعون وسط تصوّرٍ للتغيير الكامل، هم أهل الاشتراكية والبربرية، مع كلود لوفور، كورنيليوس كاسدورياديس، جون فرونسوا ليوتار، وبيير سويْري. 

لقد ساعدني (المُسْتَفرِقون-les africanistes) أيضًا على استيعاب تعقيدات السياسة كثيرًا. 

  • استغل النظام الجزائري التاريخ ليتمكّن من إضفاء الشرعية على نفسه، هل من الممكن إيجاد تأريخ غير مؤدلج في الجزائر اليوم؟

لم يتوقّف هذا النظام يومًا عن ادعاء المأساة، غير أنّه لم يكن يأخذ    مآسي الآخرين بالاعتبار، بمن فيهم ضحايا الحرب الأهلية وعمليات التطهير. 

اليوم، ليس هناك من بين مرشّحي النظام من يتحدّث عن هذا الأمر، حتى لا تكون هناك مساءلة حول الخراب والنهب اللذين سيطرا على المشهد منذ الاستقلال. 

هناك تراجع ثقافيٌّ رهيب في الجزائر، لا يُمكن بأي حال من الأحوال تصوّر حجم هذه الكارثة، لقد اغتيلت الأنتلجنسيا، وليس هناك مجال لنقاش ثقافي حقيقي. 

في الصحافة على سبيل المثال، نجد "المثقفين" في موقّف متحفظ إزاء "الثورة"، هم لا يجرؤون على الخوض في التشكيك بأسلوب ناقد. 

أما في الجامعة، فالأمر أسوأ بكثير، لقد تفاقمت الأمور بسبب الإسلاماوية. نجد في الجيل الشاب من المؤرخّين، عددًا لا يتجاوز عشرة جامعيين من طبقةٍ رفيعة، لكنهم غالبًا يعيشون خارج الجزائر. 

  • هل تؤمن بأنه يُمكن للجزائريين في الخارج لعب دورٍ قياديٍ في مستقبل البلد؟ 

نعم، لكن هذا الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا. هناك شباب ملتزمون بذلك من كندا إلى الولايات المتحدة الأميركية، أمّا في فرنسا، فالأمر أقل نشاطًا لوجود مخاوف من التخوين، الأشخاص الذين هاجروا إلى هناك دائمًا ما يؤاخذون على هروبهم من وطنهم. 

لقد أصبح "التكلّس" شرطًا أساسيًا للحديث عن البلد، فحين ينتقد المغتربون بلدهم الجزائر، يغدون في نظر المقيمين فيها غير مؤهّلين ليكونوا جزائريين. 

  • هل المجتمع الجزائري مهووس بدوره بالاستعمار والحرب مثل قادته؟

لا أظنّ ذلك، فالناس يرفضون هذا الخطاب الرسمي، لكن تصرّفاتهم دائمًا ما تصبغها الإيديولوجيات القومية، ودائمًا ما يستعرضون تلك الصور الرمزية من معركة الجزائر. 

  • هل كانت الثورة الجزائرية لائكية؟ 

أبدًا، إنها ثورة دينية، ويتجلّى ذلك من جوانب عدّة، حتى الأفراد القادمون من اليسار ساهموا في هذه الأدلجة.

من الذي استبدل عنوان جريدة (Résistance) باللغة الفرنسية بكلمة "المجاهد"؟ 

إنه عبّان رمضان (أحد أبرز القادة السياسيين الرئيسيين في جبهة التحرير الوطني)، وهو الذي اعتقد أن هذا سيمنح روحًا قتالية أكبر للشعب، لم يكن يدرك ذلك.

في المقابل، لم يكن اللعب مرتكزًا على الدين، بقدر ما كان مبنيًا على النظام البطريركي، نحن لم نتخلّص منه، حتّى في بلاد القبائل؛ هناك، من السهل أن تلوّح بنظام لائكي، لكن من الصعب تبنّيه في معركة ضدّ هذا النظام البطريركي، أو من أجل المساواة مع النساء. 

  • كيف تشرح قوة الشعبية المفاجئة التي تميزت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بين سنتي 1980 و1990، واستعصاء الإسلام المتطرّف؟

لقد كان الإسلام الجزائري، قائمًا على شيءٍ من الورع والرّفق الذي اتّسمت به الروابط الاجتماعية.

 تم استيراد الإسلام السياسي إلى الجزائر، واستمدّ قوته من موجة الرفض التي كانت تواجه جبهة التحرير الوطني. 

لقد ذهبتُ لأتابع الانتخابات سنة 1991، الأمر الذي جعلني أرجع بالزمن إلى وقت البروز المفاجئ لحركة انتصار الحرّيات الديمقراطية (1946-1948).

الوجود الفرنسي في تلك الحقبة، منع تطوّر تلك الصراعات الداخلية إلى حرب أهلية. 

كنت في عنابة يوم الانتخابات في كانون الأوّل/ديسمبر 1991، لقد كان الناس هناك يذهبون للتطهّر في الحمام التقليدي قبل الإدلاء بأصواتهم، رأيت أشخاصًا يبكون، لقد تمكنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ آنذاك من سلب هذه السمة العاطفية من جبهة التحرير الوطني. 

  • ماذا لو سمحوا للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالفوز في الانتخابات؟ 

كان الأمر ليكون خسارة للديمقراطية والفكر، لكنني أعتقد أنها لم تكن الطريقة الأفضل لمواجهة هذا الفوز. حينما نخرج عن السياسة، نحوّل الناس إلى عناصر نشطة، لن تكون في الساحة وقتها إلا لغة السلاح. 

على كل حال، قد يتحمّل الأشخاص الذين سيروا هذه الأزمة مسؤولية ما آلت إليه، العسكر كانوا يودّون الوصول بالأمر إلى تلك النتيجة بأية طريقة، لقد اختاروا الصدام وتخلصوا من آخر أمل بإجبار الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، الذي حكم الجزائر في الفترة الممتدة بين 1979 و1992 على الاستقالة. 

حين نجحت "الحرب" ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ، استطاع العسكر شراء الإسلاميين، لكنّهم دمروا البلد، وفكّكوا الدولة وفتحوا الأبواب لكل الأطماع خلال ذلك. 

  • ما طبيعة النظام الجزائري؟ هل هو عسكري، مدني، ديكتاتوري أو سلطوي؟ 

الأهمّ الآن بالنسبة لقايد صالح (القائد الأعلى للقوات المسلحة منذ سنة 2004) الذي هو حاليًا أقوى رجل في البلد، هو الإبقاء على سيطرة الجيش كما لم تكن عليه قبلًا. 

خلال فترة طويلة تآلف الجيش مع التكنوقراطية، هو يريدها خاضعة له، يريد عسكرتها على طريقته. 

  • ما الذي مثّله حكم عُشريتين للرئيس السابق بوتفليقة؟ 

يتحمّل بوتفليقة مسؤولية فظيعة عن كل ما سيحلّ، لقد تقاسم السلطة مع العسكريين، كان يعتقد أنه كلّما أغدق العطاء على الجيش، كلما صار أقلّ إزعاجًا له. 

محمد حربي: "حين نجحت الحرب ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ، استطاع العسكر شراء الإسلاميين"

  • هل تُشكّل الجزائر أمّة؟

أعتقد أنه ما زال ينتظرها الكثير من العمل. لقد درست في فترة سابقة عن الريزورجيمينتو (فترة توحيد إيطاليا في القرن التاسع عشر). أذكر منه قول كاميلو كافور، أول رئيس مجلس للشورى في إيطاليا سنة 1861) حيث قال: "لقد صنعنا إيطاليا، والآن علينا أن نصنع الإيطاليين"، والأمر نفسه عليه أن يحصل في الجزائر. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلين مختفي.. مناضلة أميركية في ثورة التحرير الجزائرية

من ثورة التحرير إلى حراك 22 فيفري.. هذا هو قايد صالح