ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن الجماجم التي استرجعتها الجزائر من فرنسا سنة 2020 لا تعود إلى مقاومين، وقالت الصحيفة إن من بين الرفات التي تم استعادتها الجزائر جماجمع تعود إلى لصوص مسجونين، وثلاثة جنود مشاة جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي.
اعتبر نشطاء أن استخدام مصطلح "لصوص" في وصف الثوار يشكل استنساخًا لمصطلح استعماري في حق مواطنين جزائريين
في السياق، أثار الموضوع جدلًا ونقاشًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حول سبب قبول السلطات الجزائرية لبعض الجماجم لا تعود إلى مقاومين جزائريين، إذ اعتبر البعض أن الحكومة الجزائرية سعت إلى تحقيق "حدث دبلوماسي" حيث حظيت النعوش باستقبال رسمي، ولُفّت بالعلم الوطني الجزائري وحملها جنود من حرس الشرف على وقع 21 طلقة مدفعية.
في المقابل اعتبر الإعلامي عثمان لحياني أن الإخفاق في تحديد هوية الجماجم التي مضى على فصلها ورهنها في متحف أكثر من قرن، قد يكون عجزًا لاعتبارات كثيرة لكنه ليس فضيحة، مضيفًا في تغريدة أن الفضيحة الحقيقية هي تصنيف جماجم آدمية، كتراث عمومي، من قبل منظومة غربية تزعم تصدير الحضارة والدفاع عن قيم الإنسانية.
من جانبه، قال نشطاء إن استخدام مصطلح "لصوص"، يشكل استنساخًا لمصطلح اٌستعمل ضمن تصنيف جنائي استعماري في حق مواطنين جزائريين، حُكموا في مجالس خاصة تحث إدارة استعمارية، دون أدنى توفر للحقوق المدنية والقضائية، وأن الجريدة اعتبرت بعض الجماجم تعود إلى لصوص، دون مراعاة السياق التاريخي الاستعماري وحسب وثائق المحاكم الفرنسية آنذاك.
في سياق متصل، يشار إلى أن كثيرين ممن تم تجريم أعمالهم باللصوصية من الجزائريين، تم إعدامهم في ظروف غير عادلة، ومنهم من تعرض إلى النفي إلى سجن ألكايان وأبعدوا إلى كاليدونيا في ظروف مأساوية وغير إنسانية.
في المقابل، يبدوا أن القراءة الموضوعية تتمثل في أن هؤلاء "اللصوص" وفق القانون الجنائي الفرنسي طبعًا، كانوا من قطاع الطرق أو ما يسمى "اللصوص الشرفاء" والثوار المتمردون على وحشية الإدارة الفرنسية وفق تصورنا للتاريخ والوقائع والأحداث، حتى ولو لم يصنفوا على أنهم من المقاومين.
لصوص في مرتبة شرفاء
كانت منطقة القبائل الكبرى بؤرة التمرد والعصيان على الإدارة الفرنسية، خصوصًا بعد فشل مقاومة الشيخ المقراني، إذ شهدت المنطقة نشأة عديد من قطاع الطرق الرافضين للسلطة الاستعمارية والمتمردين على الحكام الفرنسيين، وجدوا تعاطفًا وتمجيدًا من طرف أهالي المداشر والقرى المترامية في جبال جرجرة، حيث دفعتهم الظروف الاجتماعية الاستثنائية إلى أن يتحولوا إلى قطاع الطرق دخلوا إلى التاريخ وبات البعض تروى عنه الأساطير والبطولات.
شكل أرزقي البشير واحدًا من هؤلاء المتمردين المشهورين في منطقة القبائل، وبالتحديد كان مركز قيادته غابة تامڨوت في منطقة أيعكورن دائرة أزفون حاليًا بولاية تيزي وزو شرق العاصمة، وكان تحث قيادته حوالي 200 جزائري، يُسيطرون على كافة المنطقة، وكان الأهالي يُقدمون له الدعم والحماية والمساعدة، ويطلعونه بتحركات العدو والعملاء.
كان أرزقي البشير يستولي على ممتلكات المستوطنين سواءً بالقوة أو غيرها، ويحجز السلع والمنتجات، وينصب الكمائن ويترصد أعوان الضرائب، ويشرف على توزيع الغنائم على سكان الريف والقرى، ويوزع الأموال على الفقراء والمحتاجين، وفي نظر الأهالي كان يُعتبر فارسًا شجاعًا خارجًا عن القانون الفرنسي.
في قبيلة أوعبدون، المنحدرة من العرش آث جناد، المعروفين بالقوة البدنية والصلابةوشدة البأس، وتمردها منذ الأزل على السلطة المركزية، وكانوا يحظون باحترام كافة سكان المنطقة،كان محمد أولحاج من عائلة أوعبدون واحدًا من الثوار، تمتع بالسطوة والقوة،وكان يسطو على القوافل الناقلة للأموال والمعونات،ليوزعها على الفقراء أهل البلدة.
تم القبض عليه وحكم عليه في البداية بالإعدام في 26 شباط/فيفري سنة 1884، لكن تمكن من تعديل الحكم، ليتم نفيه إلى جزر ألكايان، وحكم عليه بالأعمال الشاقة، غير أنه تمكن من الفرار ليعود إلى منطقة القبائل سنة 1887 لكن تم إعادة القبض عليه ونفيه مجددًا إلى كاليدونيا الجديدة.
كان سطوة عشيرة أوعبدون يُقلل من بيروقراطيو الإدارة الاستعمارية وأعوانها "القومية"، حيث تمكنت عائلة أوعبدون من ربط تحالف مع عرش آشعبو، وقد تمكن هذا التحالف من السيطرة على مناطق واسعة والاستلاء على ممتلكات المستوطنين وأعوانهم من الجزائريين، وفي 18 كاتون الثاني/جانفي 1893 سقط واحد من أبناء أو عبدون المدعو البشير محمد وآلحاج رفقة خمسة من رفقائه، أما أحمد أوسعيد أوعبدون فقد تمكن الدرك الفرنسي من القبض عليه، وحكم عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم.
أرزقي البشير
من مواليد منطقة آث بوهني بمنطقة أعكورن، ينحدر من قبيلة أث يبري ( Ath Ghobri) التي تمتد من منطقة عزازقة إلى غاية أكفادو مرورا بغابة ثامغوت، كان الفتى أزرقي يشتغل خماسًا في حقول مدينة عزازقة عند المستوطنين، وعمل راعيًا للغنم، وماسح أحذية وعتالًا، وكان يجمع الحطب للناس.
إلى غاية 1887 راودته فكرة الاستلاء على منزل طبيب مستوطن فرنسي رفقة صديقه، وخلال تسلله إلى المسكن تفطنت الشرطة الفرنسية إلى وجوده، لتتم عملية البحث والمطاردة، غير أنه تمكن من الفرار ملتجأً إلى الجبال، وقد حكم عليه إثر ذلك بـ 20 سنة من الأعمال الشاقة.
تمكن أرزقي البشير من تكوين جماعة من المتمردين وتقوية شوكته، بعدما انظم إليه محمد السعيد أوعبدون، بعد فك الخلافات التي كانت قائمة بينهما، وتمكن هذا الثنائي من السيطرة على مناطق واسعة من منطقة القبائل،واستطاعا أن يفرض السلطة ويُحرّضا الناس على التمرد، وتطهير المنطقة من المجرمين واللصوص المنحرفين.
جندت الإدارة الفرنسية حوالي 1000 جندي لملاحقة ومحاربة جماعة أرزقي، للتمكن من محاصرة معسكره الذي كان يُرابط به في غابة تامغوت، غير أنه تمكن من الفرار بعض إصابته بجروح، عمد الدرك الفرنسي على اعتقال زوجته تاسعديث وفصلها عن رضيعها من أجل الضغط عليه واستسلامه.
في 1892 وافق المجلس العام بالجزائر على عرض مكافأة مالية قدرت بـ 125 ألف فرنك فرنسي لمن يُزود بمعلومات تقود إلى القبض على أرزقي البشير، وبعد مطاردة دامت سنة كاملة أي سنة 1893، تم تحديد مركز قيادته، نتيجة تجنيد العملاء والقبض عليه، وأصدرت المحكمة حكم الإعدام في حقه، وفي 1985 تم تنفيذ الحكم في منطقة عزازقة رفقة خمسة من رفقائه.
كنت ثريًا لكن سُلبت أراضينا
وخلال المحاكمة رافع أرزقي عن عدالة قضيته، محملًا مسؤولية اغتياله للدركين وأعوان الإدارة الاستعمارية، رافضًا أن يكون لصًا، وقال: "صعدت إلى الجبال لأننا سلبنا حقوقنا، كان والدي يمتلك 150 هكتارًا من خيرة الأراضي الفلاحية، سُلبت من طرف الإدارة الفرنسية.... وكان علي الانتقام ممن تركنا نُعاني".
لفرط القمع الاستعماري، وسلب الحقوق والممتلكات لجأت جماعات وسعى أفراد إلى التمرد على الإدارة الاستعمارية وظلم أعوانها على غرار محند أمقران آيث السعيد، علي أولحاج آيث عبد السلام، محمد إيدير، عمارة بن محمد وسعيد عمارة أولحاج، السعيد آيث السعيد، قبيلة آث فليق، وعشيرة آث الحسين، وكانت بعض تلك العروش من الأشراف والمرابطين، وهذا لا ينفي وجود بعض التجاوزات التي كانت تحصل هنا وهناك من اعتداء على بعض أهالي القرى والمداشر كانت ترفض المساعدة والإعانة.
لجأ المتمردون على الإدارة الفرنسية إلى الانتقام ممن سلبوا منهم حقوقهم وأراضيهم
بحسب الوثائق والرواية الفرنسية يصنف هؤلاء المتمردون تحت وصف "اللصوص" وفق القانون العقوبات الفرنسي، لكنهم كانوا ثوارًا وفق السياق التاريخي والاجتماعي، لجأوا إلى الانتقام ممن سلبوا منهم حقوقهم ونهب خيرات أراضيهم وقرروا استعادة ما اختلس منهم غصبًا وعدوانًا.