يتفّق كثيرون على وجود ما يُمكن وصفه بالسباق المحموم بين العديد من المسلسلات الرمضانية على شاشات القنوات الجزائرية العمومية والخاصة هذا العام، حيث أبان هذا التنافس عن نية كبيرة بالنهوض بقطاع الدراما الجزائرية وتطويرها كمًا ونوعًا، ولعل بعض هذه الأعمال قد أثارت ضجة كبيرة أخذت حيّزًا كبيرًا من اهتمام المتابعين.
جمع العمل عددًا من الفنانين مثل جميلة عراس وسليمان بن وارية وبوخشبة، ذلك المجنون الذي يعي الحياة أكثر من العقلاء
لكن الجدل المثار عمومًا كانت بسبب "أمور غير فنية" وانتقادات لا صلة لها بجودة العمل في حد ذاته، ما جعلنا نغفل قليلًا عن بعض الأعمال الأخرى التي غُيّبت قليلًا في قلب تلك السجالات، حيث استحقت فعلًا أن تكون في مقدمة السباق الرمضاني لولا التشويش، و"مقص الرقاب"ة الذي سلبها بعضًا من تسلسلها الدرامي، وبعض المركزية التي لا يشفى منها إعلامنا.
مسلسل "عين الجنة" بموسيقاه التصويرية التي يطربنا فيها صوت الڨصبة، ثم يليها موال من طابع طابع الآي ياي ليعبر بنا نحو عمق الجزائر، فنصل إلى بوسعادة، تلك المدينة التي تعد قبلة للسياح ومعقلًا للفن والجمال والتاريخ، تطل علينا اليوم من خلال مسلسل درامي واقعي لا يخلو من بعض الفكاهة السوداء، لا مكان فيه للمساحيق ولا للكادرات الجمالية الملونة، حيث يكشف هذا العمل عن قبح التهميش الذي يطال مناطق منعزلة في عمق البلاد، ويعري واقعًا مزريًا لقرية مثل مئات القرى المترامية التي تعاني من الفقر والتهميش الممنهج.
يتناول العمل أيضًا واقع الفساد المالي الذي يطال مسؤوليها ومصالحها الرسمية، كما يضم قصّة حب لا تشيخ أبدًا، في عمل فني يجمع أسماء عديدة مثل جميلة عراس وسليمان بن واري، حليم زريبع، وبوخشبة، ذلك المجنون الذي يعي الحياة أكثر من العقلاء، والعديد من الوجوه الشابة التي تنذر بمستقبل دراما واعدة إذا ما لم تُقَص أجنحتها الرقابة التي أجلت عرض هذا العمل لسنتين متتاليتين دون الكشف عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
قصة جزائرية محضة
يقول السيناريست أسامة بن حاسين، كاتب قصة وسيناريو"عين الجنة" في حديث لـ"الترا جزائر" أن فكرة مشروع هذا المسلسل تعود إلى سنة 2017، حيث اتفق مع المنتجة مريم ولد شيّاح على خوض غمار تجربة تلفزيونية جديدة يكون مصدر استلهامها جزائريًا بحتًا، عكس ما كان يُبث في تلك الفترة حسبه، بغية الابتعاد عن التأثير الغربي والمشرقي الكبير على معظم الأعمال التلفزيونية المحلية.
ويضيف المتحدث أن الأرشيف السينمائي والتلفزيوني الجزائري في القرن الماضي كان غنيًّا بمًا يكفي للبحث فيه عن أدوات وتفاصيل يمكنها المساعدة في حبك خيوط القصة الأولية للمسلسل، من بينها فيلم "كحلة وبيضاء" لعبد الرحمن بوقرموح، فيلم "الطاحونة" لأحمد راشدي (1983) والذي كان يحاكي يوميات صعبة لرئيس بلدية في ناحية تبسة بعد الاستقلال، وتزامنت سنة 2017 مع عبثية الحملات الانتخابية للمجالس البلدية، والتي كانت في كل مرة تُحفز ذاكرتنا الجماعية أوتوماتيكيًا بالفيلم التلفزيوني "كرنفال في دشرة" للمخرج محمد أوقاسي.
يعتقد أسامة بن حاسين، أنه من الممكن أن يكون كل ما سبق ذكره سببًا في تجسيد فكرة "عين الجنة"، البلدة النائية، الرمزية، التي تعيش حياة بسيطة وصعبة، في عزلة عن باقي مناطق الوطن، حيث يمكن أن نعتبر أنّ صهاريج المياه وكابينة الهاتف هي وسيلة اتصالهم الوحيدة مع العالم الخارجي في عصر الهاتف الذكي والجيل الرابع من الإنترنت.
يؤكد السيناريست هنا، أن النسخة الأولية المشروع كانت جاهزة سنة 2017، لكن إنتاجه تعذر حينها وتأجل ثلاث سنوات، ما منحه فرصة لتنقيح الكتابة، ومع انضمام المخرج كريم موساوي للعمل وتبنيه لفكرة السلسلة، تم العمل جماعيًا على دراسة الإيقاع الدرامي للأحداث وإبطائه مع ما يتناسب وبيئة عين الجنة النائية و ما توفّر من ديكورات، وتم الاعتماد على المدرسة الفنية "التقليلية minimalisme"، مع تفادي أي تكرار أو تعقيد غير مبرر، وترك الشخصيات تتطور انسيابيًا، كلٌّ حسب إيقاعها وحيزها الجغرافي.
أكد بن حاسين أيضًا أن القصة لم تكن مبنية أو مقتبسة من أحداث أو شخصيات حقيقية، وأرجع تكرار تلك المظاهر العبثية في الواقع سببًا ليعتقد المتلقي أنّ الأحداث حقيقية، كما نوه أيضًا أنّ "عين الجنة" ليست على الإطلاق عملًا دراميًا سياسيًا، بل هو بالأساس عرض حال اجتماعي لبلدة رمزية من مناطق الظل، والتي رغم كل الظروف الصعبة من نقص التنمية وشُح للماء الشروب نجد بها قصص حب وتمسكًا بالأمل رغم وجوههم المتعبة والمُرهقة.
كريم موساوي والإخراج للتلفزيون
من جهته، قال المخرج كريم موساوي في حديث إلى "الترا جزائر"، إنه تم اختيار مدينة بوسعادة منذ البداية لتكون مكان تصوير العمل، حيث تنقل مع المنتجة مريم ولد شياح والسيناريست لاختيار أماكن التصوير، ووقع الاختيار على قرية الهامل وبعض المناطق وسط بوسعادة.
وفي سؤال عن الفرق بين العمل السينمائي الذي اعتاد عليه المخرج وبين المسلسل، قال كريم موساوي أنه عمل على تجسيد مسلسل "عين الجنة" مثل أي فيلم سينمائي، كما تم انتهاج نفس الطرق في الإنتاج والاخراج السينمائي، لهذا فهو لم يشعر خلال التصوير بأيّ تغيير في عمله، حيث انكب على تطبيق السيناريو الذي كان بحوزته مع كامل فريق العمل بشكل جدي وكفى.
قال موساوي أن تجربة إخراج هذا المسلسل كانت مع جمع من الممثلين ذوي الخبرة السينمائية، إضافة إلى آخرين من تجارب تلفزيونية، ولا يمكن الحديث عن فارق بين هؤلاء وأولائك، فقد كان هنالك تناغم بين الجميع طيلة العمل، كما تجلت رغبة كبيرة في التعلم لدى العديد منهم، لينجح تجسيد هذا العمل على أرض الواقع، فالجميع، حسبه، يتقاسمون شغف التمثيل وحب العمل السينمائي.
الاستعانة بوجوه من خارج التمثيل، المؤثرين من تيكتوك ويوتيوب لم يعد مشكلة، حسب موساوي، موضّحًا أنه إذا ما التزم هؤلاء بالعمل واجتهدوا لتقديم الأفضل، حيث تعامل مع بعضهم في عمله بشكل عادي كبقية الممثلين، كما أن لهم من الجمهور الكثير قبل ولوج المجال، ما يساعد قطعًا على انتشارهم، أما ما يميزهم، فقد قال كريم أنهم يكونون بالأصل مرتاحين أمام الكاميرا لأنهم معتادون على الظهور اليومي أمام الملايين على مواقع التواصل، ما قد يجعل لدى بعضهم قابلية لاقتحام التمثيل بشكل جدي.
سليمان... الجامعي المُهَمَّش
يعتقد الفنان سليمان بن واري الذي يلعب دور "سليمان" شقيق "حورية" (جميلة عراس)، أن هذا الدور يمثل فئة واسعة من الشباب الجزائريين، خريجي الجامعات القاطنين في المدن الداخلية، حيث يعانون جراء البطالة والتهميش وقلة الفرص مقارنة بالمدن الكبرى.
يضيف بن واري في سياق الحديث الذي خصه لـ "الترا جزائر"، أن تركيبة شخصيته في "عين الجنة" تقترب كثيرًا من شخصيته الحقيقية، وهو الذي يحمل نفس الاسم واقعيًا، حيث تتقاطع الشخصية مع واقعه في العديد من النقاط والحالات والمسارات الحياتية.
أكّد المتحدث هنا، أن الصعوبات التي واجهت تصوير العمل لم تتعلق يوما بالمكان ولا بالأشخاص في حد ذاتهم، حيث أن سكّان القرية والمدينة رحبوا بكل الطاقم، وكانوا جد كرماء وطيبين، وشاركوا كثيرًا في مسار التصوير، كما احتضنوا العمل بكل محبة وساندوه، وقد كان التعامل مع أهل بوسعادة خلال التصوير رائعًا حسب بن واري، سواءً من طرف السلطات المحلية أو من سكان الأحياء، حيث تم تصوير المسلسل، فقد كانوا أناسًا بسطاء من "حومات" شعبية، يتقاسمون نفس الهموم والظروف المزرية، ما جعل هذا العمل بصيص أمل لهم للخروج نحو النور.
وعلى ذكر أهل بوسعادة، أكد الممثل أن المنزل الذي كان بيت شخصية سليمان وعائلته، يعود بالأصل إلى عائلة معوزة متكوّنة من أرملة وأبنائها، أي أنه كان منزلًا حقيقيًا بكل آثاثه وأوانيه، بداية من "الحوش"، ومرورًا بالمطبخ، إلى الغرفة التي كان ينام فيها الجميع.
لقد كان هذا البيت بحالته تلك، واقعًا عن معيشة مزرية وحقيقية لإحدى عائلات القرى المعزولة.
سنتان دون عرض
يقول سليمان بن واري إن تأخير بث "عين الجنة" على شاشة التلفزيون أثر على جميع من شاركوا فيه، لأنهم قدّموا كل ما لديهم لإنجاحه في تلك الظروف، وأي تعطيل كان له تأثير سلبي على معنويات الممثلين وعلى كل من عمل في هذا المسلسل، خاصّة الأفراد ذوي أول تجربة تمثيلية في هذا العمل، حيث كانوا ينتظرون بفارغ الصبر ثمار أوّل عمل في مسيرتهم.
شدد الممثل هنا على أن الإقصاء الذاتي أصبح أسوأ من الإقصاء الرسمي، وقد صارت الرقابة الذاتية حسبه أخطر بكثير، صار التلفزيون مثلًا يحذف الكثير من الأشياء التي قد لا تزعج بالضرورة الجهات الرسمية ولا النظام أو الحكومة، مع ذلك يختار حذفها خوفًا من "مشاكل محتملة"، وهذا ما حدث خلال عرض مسلسل "عين الجنة"، رغم أنه يتحدث عن مشاكل اجتماعية تحدث في قلب الجزائر وفي عمقها، في المدن المهمشة التي تعيش ركودًا اقتصاديًا بسبب المركزية التي يدركها الجميع، كما أنه يتناول قضية المال الفاسد الذي يدخل في كواليس الانتخابات المحلية، وينتقد الأعراف والتقاليد، والعديد من القضايا التي ستكشفها الحلقات القادمة.
سليمان بن واري: ، يتعرض العمل لحذف غير مبرر للعديد من المشاهد والعبارات التي تعتبر عادية في أي عمل درامي
مع ذلك، يتعرض العمل لحذف غير مبرر للعديد من المشاهد والعبارات التي تعتبر عادية في أي عمل درامي، يقول بن واري: "نحن لا نفهم إلى حد الآن لم يقوم مقص الرقابة في التلفزيون بهذا البتر المجحف والعشوائي وغير المبرر للعمل، والذي يؤثر كثيرًا على تسلسل الأحداث في العمل ما يشوش المشاهد ويجعل العمل منقوصًا وغير مكتمل، وهذا ما أزعجنا كثيرًا".