18-مارس-2017

مظاهرات 11 ديسمبر 1960 في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي (فيسبوك)

نجد جزائريين كثيرين يحلمون بالذهاب إلى فرنسا، سواء للسّياحة أو الإقامة الدّائمة، بل إنّ بعضهم وصل به الحلم إلى أن يُخاطر بنفسه وفلْسه، بأن يركب زورق الموت ويشقّ أعالي البحر، شعاره في ذلك ما بات متداولًا في الفضاء الشّعبي الجزائري "يأكلني الحوت أفضل من أن يأكلني الدّود"، أي أنه يُفضّل أن يموت مهاجرًا غير شرعي في البحر الأبيض، على أن يبقى فوق الأرض الجزائرية إلى أن يموت ميتةً طبيعيةً فيأكله الدود في المقبرة.

كيف تصمد البنايات التي شيدها الفرنسيون في الفضاء الجزائري منذ قرن ونصف أمام الزلازل، بينما انهارت بنايات حكومات الاستقلال

في المقابل، من النّادر أن نجد جزائريًا يحلم بأن تعود فرنسا إلى الجزائر، بعد أن غادرتها عام 1962، بغضّ النّظر عمّا إذا كانت هذه النّدرة ثمرةً لعقيدة راسخة، أم لخوف من التصريح بذلك، في ظلّ وجود قانون يردع الإشادة بالاستعمار، على غرار قانون الإشادة بالإرهاب، فالواحد لا يستطيع أن يكون حارس نوايا.

اقرأ/ي أيضًا: "الدوبارة".. تنافس البيتزا في الجزائر

غير أننا إذا صدّقنا بأن الجزائريين جميعًا، حكومةً وشعبًا، لا يحلمون بعودة فرنسا، بدافع من الوطنية التي جعلتهم بالأمس القريب يدفعون من الشّهداء ما يساوي سكان ثلث دول عضوة في هيئة الأمم المتحدة، أو بدافع الخوف من التعرّض للفظاعات التي اقترفها مستعمر الأمس إن هو عاد اليوم، فهل ينسجم سلوكهم مع تصرفاتهم؟

ما معنى أن يسمحوا للإسمنت بأن يزحف على حقولهم وسهولهم التي كانت تطعم منها فرنسا بالأمس نصف أوروبا، في ظل وجود بدائلَ لها، ليتوجهوا إلى شراء القمح صلبًا وليّنًا من فرنسا نفسها؟ علمًا أن مساحة الجزائر تساوي المساحة الفرنسية ستَّ مرات، ولا تزيد عليها مساحة الصين إلا بثمن مساحتها، مع تفوّقها عليها في عدد السكان بما يجعل المقارنة ضربًا من ضروب العبث، مع ذلك فهي من كبار مصدّري القمح في العالم.

ما معنى أن تصمد البنايات التي شيّدها الفرنسيون في الفضاء الجزائري، منذ قرن ونصف، أمام الزلازل التي حدثت، منها زلزال عام 2003، بينما انهارت البنايات التي "شيّدتها" حكومات الاستقلال الوطني، بما فيها تلك التي أنجزت شهورًا قبل الزلزال؟ وكأن الفرنسي شيّد ليبقى أبدًا، وهو الغريب عن المكان، بينما بنى الجزائري ليرحل غدًا، وهو ابنُ المكان وسيّده.

اقرأ/ي أيضًا: جزائريو كاليدونيا الجديدة.. حنين من وراء البحار

ما معنى أن يتفوّق الشيخ الجزائري، الذي لم تتجاوز دراسته في العهد الفرنسي المرحلة الابتدائية، تفكيرًا وسلوكًا وتحليلًا ولغةً، على الطالب الجامعي الذي نال شهادات عليا، حتى أننا بتنا نشاهد جامعيي اليوم الجزائري، يقفون في الطوابير، ليكتب لهم تلاميذ الأمس الفرنسي، طلبًا خطيًا أو يُحرّروا لهم شيكًا؟

ما معنى أن يتجاوز عدد الفنادق في العهد الفرنسي عددها في مرحلة الاستقلال، ويتفوّق عدد السواح الأجانب يومها، على عددهم اليوم؟

ما معنى أن يتجاوز عدد الفنادق في العهد الفرنسي عددها في مرحلة الاستقلال الوطني، ويتفوّق عدد السياح الأجانب يومها، على عددهم اليوم، حتى بات شائعًا أن عدد عمّال وزارة السياحة وموظفيها، أكبر من عدد السياح الذين يدخلون البلاد؟ في ظلّ تدفق ما لا يقلّ عن مليوني جزائري إلى الفضاء التونسي صيفًا، وهي التي لا تتجاوز مساحتها مساحة إحدى المحافظات الجزائرية المجاورة لها؟ وقد كان الرقم والوضع قادرين على أن يتكرّرا في الجهة الغربية، لو كانت الحدود مفتوحةً مع المملكة المغربية.

ما معنى أن تتمكن "جبهة التحرير الوطني"، وهي المطاردة في الجبال، مستعملة أسلحة خفيفة، في خمسينيات القرن العشرين، من طرد الاحتلال الفرنسي، بكل ارتباطاته العالمية، منها ارتباطه بالحلف الأطلسي، وتعجز اليوم عن إقامة دولة مدنية حقيقية، وهي في الحكم بكل الامتيازات المالية والقانونية؟ 

في ثمانينيات القرن العشرين، ذهب خيال الرّوائي الطاهر وطّار، في نصّه الذي تمّ اقتباسه مسرحيًا "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، إلى أن تخيّل عودةً جماعيةً لشهداء ثورة التحرير، 1954-1962، ورصدَ كيف أنّ السلطات التي تستمدّ مصداقيتها من الشرعية الثورية، أي من الوفاء لهؤلاء الشهداء، رفضت هذه العودة، لأنها ستفضح الخرابات التي ارتكبتها، في المجالات كلها، وتضعها أمام هذا السّؤال المحرج: "هل ضحّينا بأنفسنا، لتضحّوا أنتم بالوطن؟".

اقرأ/ي أيضًا:
مجزرة السين.. أرواح برسم النسيان
ما معنى أن تكون جزائريًا؟