26-يناير-2024
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty) حيد حاليلوزيتش

ما كاد الاتحاد الجزائري يطرح " مناقصة" دولية بحثًا عن مدرب للإشراف على محاربي الصحراء، خلفًا لبلماضي، حتى طُرح اسم وحيد حاليلوزيتش مرشحًا فوق العادة، لأسباب فنية وأخرى عاطفية محضة. كان كافيًا للرجل أن ينشر صورته مع الفريق الوطني الجزائري مذكرًا بلحظة عبوره المدوية للدور الثاني لمونديال البرازيل 2014، مدوّنا عبارة "يا لها من خيبة كبيرة.. شعب فريد من نوعه"، حتى تداولت جهات عليا اسمه في الكواليس كواحد من الخيارات المتاحة، قبل أشهر من استئناف تصفيات مونديال 2026.

حقق وحيد حاليلوزيتش مجده المونديالي مع الجزائر عام 2014 بالبرازيل، فقد تأهل للدور الثمن النهائي، وكاد يبلغ ربع النهائي عقب مباراة ملحمية للجزائر ضد ألمانيا

الملاكم.. النيف والخسارة

رغم مرور عقد من الزمن عن تجربته الجزائرية، لا يزال وحيد وكنيته "فاها" يحب الشعب الجزائري ومنتخبه لعدة أسباب، ويبادله الجزائريون الشعور نفسه، لأن خصائصه النفسية قريبة حد التطابق مع مزاجهم العام، بدء بقوة شخصيته وجرأته في التعبير عن أرائه، والتمسك بها حتى لو كلفه صدامات قوية مع المسؤولين، بل حتى ولو اقتضى ذلك الرحيل بشعار "النيف والخسارة".

يذكر أصدقاؤه في مدينة موستار التي يزورها من حين لآخر دون أن يمكث بها غير ليلة أو ليلتين، لسر سيتضح لاحقًا، أنه يأتي إليها فقط ليزور قبر أمه، ويستذكر ذكرياته على ضفاف نهر تريفيتنا والتجوّل فوق جسر موستار العثماني العريق. يجلس في مقهى مع مدربه الأول في فريق فيليز، صولي ريفاتس الذي يسأله في دعابة: ألا تزال يا "فاها" عنيدًا برأس بغل؟ فيجيبه ضاحكا: إنه طبعي كما تعلم لا أحب الخسارة، ولا العودة إلى الوراء.

في مسار حافل بدأه ابن قرية "يابلانيتشا" ملاكمًا، ثم لاعبًا وبطلًا لكأس يوغوسلافيا العام 1981 بتوقيعه هدفين، قبل أن يسطع نجمه مهاجمًا خطيرًا مع فريقي نانت وباريس سان جرمان، ولتنتهي سلته التهديفية طوال مشواره الذي أنطوى على اللعب لمنتخب يوغوسلافيا لسنوات، بأكثر من 330 هدفًا.

ولشدة تضرره الروحي العميق رفض "فاها" أن يستمر في اللعب بعد وفاة والدته، رغم عروض مغرية من فريق ستراسبورغ، مفضلًا أن يستقر نهائيًا بمدينته موستار، حيث شيد قصرًا فاخرًا مساحته 500 متر مربع، ومتجرًا فخمًا لبيع الألبسة، ومطعما سماه "شي فاها"، ومخبزه عصرية، بالموازاة مع توليه مهمة مدير فني لفريقه الأول فيليز موستار، غير أن كل ذلك سيضيع بعد اندلاع حرب البلقان الملطخة بالدين والعنصرية والجغرافيا، وشوائب التاريخ بين الصرب والكروات ومسلمي البوسنة.

جريح يرفض الفرار من المعركة

إن حرب البلقان التي اندلعت العام 1991 محطمة كل ما بناه من ثروة وأملاك، ستقربه من العقلية الثورية الجزائرية بشكل كبير، إذ كشف محمد مشرارة، القيادي الرياضي، غداة تقديمه لتسلم الفريق الوطني 2011، بأن "والديه كانا عالجا الثوار الجزائريين خلال حرب التحرير أيام يوغوسلافيا الاشتراكية".

لا بل إن وحيد اضطر إلى حمل السلاح دفاعًا عن عائلته وقومه وأصيب خلالها بطلق طائش أصابه في إلية ساقه اليسرى، لكنه رفض عرضًا فرنسيًا باللجوء بباريس التي نقل للعلاج إليها هربًا من الحرب. ظهر الرجل متألما وهو يؤكد للتلفزيون الفرنسي بأنه غير مستعد البتة للتخلي عن شعبه المقاوم في عز حرب تطهير عرقية غير مسبوقة.

أوفد زوجته وطفليه للإقامة بشقة كان اقتناها سنوات من ذي قبل بباريس، مفضلًا البقاء واقفًا في أرض المعركة، فانضم لجيش المقاومة الذي أسسه مسلمو البوسنة دفاعًا عن أنفسهم من هجمات الصرب والكروات، كما عمل على جمع الأموال وتنظيم حملات الإغاثة، وشوهد مرات وهو يجابه طلقات النار من أجل إنقاذ عائلات ونساء وأطفال وإخراجهم من مناطق الخطر، علاوة على أنه صمد من أجل حماية بيته، وممتلكاته التي أنفق عشرين سنة من عمره في تحصيلها.

تحول "فاها" في خضم تلك الحرب من بطل كرة إلى بطل حرب وحياة، فيعترف في حوار شهير لمجلة باري ماتش: "كان الناس يقولون لي، يجب أن تبقى معنا يا وحيد، نشعر كما لو أننا أقوياء بك ومعك، فأدركت أنني رمز لهم، لقد ساهمت في إنقاذ 10.000 شخص بتهجيرهم عبر البحر الأدرياتيكي وأنا فخور بما فعلت".

ولأنه كان رمزًا فقد نجا بأعجوبة من مخطط اغتيال يومان فقط بعد مغادرته المكان، إذ هجم مسلحون على منزله "لقطع رأسه لأنه مسلم وكي يكون عبرة للبوسنيين، وأداة تخويف لهم من الاستمرار في المقاومة".

أوروبي بعقلية جزائرية

إن الخصائص النفسية التي تقربه بالجزائريين الذين حملوا السلاح ضد الاستعمار ثم واجهوا الإرهاب التسعينيات واضحة في ارتباطه الوجداني رغم انتقاله لتدريب فرق وطنية أخرى مثل المغرب واليابان، لا بل إن أحد تصريحاته في اليابان جلب له سخطًا عارمًا عندما قال "لقد دربت الجزائر ورأيت لاعبين شجعان يندفعون لا يخافون الفرق الأوروبية الأخرى ويلاعبونهم الند للند، على اليابانيين أن يتركوا "الحياء" جانبًا كي يحققوا شيئًا ذا قيمة". شيء آخر لا ينساه وحيد حتى آخر رمق في حياته، لقد حققت له الجزائر حلم المشاركة كمدرب في المونديال هو الذي عاش ثلاثة انتكاسات مأساوية.

دائمًا ما حقق حليلوزتش نتائج فنية باهرة خلال إشرافه على تدريب أندية أفريقية و أوروبية و آسيوية، كما نجح على صعيد المنتخبات لمّا أوصل الكوت ديفوار لمونديال جنوب أفريقيا العام 2010، وأوصل المغرب لمونديال قطر 2022، وقبلها اليابان إلى مونديال روسيا 2018، لكن هذه التجارب الثلاث انتهت بشكل دراماتيكي، إذ أقيل من مهامه قبل أشهر من ثلاث مونديالات ما شكل له ثلاث خيبات تكاد تقترب من الشؤم والنحس، ففي العام 2010 كانت خسارته أمام رابح سعدان في موقعة كابيندا سببًا في إقالته، أما مشكلاته الشخصية مع اللاعبين زياش و المزرواي فعجلت بإقالته من طرف الاتحاد المغربي في 2022.

و تكرر قبلها السيناريو مع اليابان جراء عدم تقبله محاولة فرض لاعبين كبار السن عوض منح الفرصة للشبان. إن البلد الوحيد الذي حقق له حلم المشاركة مدربًا في المونديال هو الجزائر، التي صنعته كما صنع لها فريقًا مقتدرًا، رغم أنه كان قاب قوسين من الرحيل جراء خلافات حادة مع روراوة وخيبة كان جنوب أفريقيا.

ترميم المنتخب

إن من بين الأمور التي لا يقبلها وحيد التنازل عن مهامه لغيره مهما كلفه ذلك، ومهما كانت قيمة اللاعب الذي يقف أمامه، الشيئان اللذان لا يفرط فيهما الرجل الملقب " العسكري" هما الانضباط والعدالة بين اللاعبين، ولقد كاد ذلك يسبب له مشكلات مع الاتحاد الجزائري على عهد روراوة، عندما طرد اللاعب المهاري رياض بودبوز بسبب تدخينه " الشيشة".

أما حينما تسلم الفريق الوطني الجزائري المقصي من المشاركة في كأس أفريقيا 2012 بعد مونديال مشرف بجنوب أفريقيا، فقد سارع إلى إحداث ثورة داخلية أساسها العدل بين اللاعبين، وحقًا فإن صرامة الرجل في هذا الشأن جعلته محترمًا ومحبوبًا من طرف الجماهير، يروي في إحدى مداخلاته بأنه وجد فريقًا مهزوز نفسيًا لدرجة أن اللاعبين لا يستطيعون إمساك الكرة وتمريرها بشكل لائق عبر مثلث واحد، فقرر أن يعالج تلك المشكلة النفسية، قبل أن يعالج أمرًا آخر على الصعيد الجماعي.

لقد سأل لاعبين كانوا يتراخون عن التدريبات عن ذلك فأجابوه: " لماذا نتدرب والتشكيلة الرسمية معروفة منذ سنوات؟". لقد قرر لحظتها أن يوقف الحصة ليجمع اللاعبين راسمًا خريطة طريق جديدة بلهجة ديكتاتورية عادلة: "من اليوم فصاعدًا، لن يحمل القميص سوى اللاعب المؤهل لحمله وبعمله، لا وجود للاعبين دائمين، ولا نجوم سوى في السماء، وبنك الاحتياط يسع الجميع".

فرضت سياسة الرجل الجديدة رحيل عدد من كوادر الفريق الجزائري مثل كريم زياني وعنتر يحي وكريم مطمور ونذير بلحاج، بيد أنها ضخت دماء جديدة، باستدعاء لاعبين جدد مثل إسلام سليماني وهلال سوداني، وأبرزهم لاعب مغمور يسمى رياض محرز الذي أدمجه في قائمة المشاركين في مونديال البرازيل، قبل أسابيع فقط من انطلاقته وسط دهشة النقاد والجماهير الذين لم يستسيغوا منح فرصة للاعب نحيف ومغمور انتقل قبل خمسة أشهر لفريق ليستر سيتي المجهول. بعد سنوات اتضح للجميع أنه كان صائد عصافير نادرة ويرى أفضل من الجميع.

مدرب يرفض طلب بوتفليقة

حقق وحيد حاليلوزيتش مجده المونديالي الأكبر مع الجزائر، العام 2014 بالبرازيل، فقد تأهل للدور الثمن النهائي، وكاد يبلغ ربع النهائي عقب مباراة ملحمية للجزائر ضد ألمانيا امتدت لشوطين إضافيين، وكانت تلك آخر مباراة وداعية ذرف فيها الدموع. لقد رغبت السلطات الجزائرية دائمًا في أن يستمر على رأس العارضة التدريبية لمحاربي الصحراء، رغم أن أزمة عنيفة دبت بينها وبينه بعد توقيعه على عقد مع نادي ترابازون التركي قبل سفره للمونديال البرازيلي، ما عُدّ حسب روراوة طعنة في الظهر.

رأبًا للصدع تم استقباله من طرف رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في قصر المرادية، في جلسة ثلاثية اكتملت بالحاج روراوة لإقناعه بالعدول عن تدريب النادي التركي، لكنه رفض العودة مقدمًا تبريراته الشخصية لوسائل إعلامية "إن كل شيء انتهى يوم هاجمت أبواق إعلامية شقيقي ووصفته بتاجر المخدرات. لا أسامح من يمس شرفي وكرامة عائلتي أبدًا".

يعود اسم حاليلوزيتش كمرشّح لتدريب فريق بلد يحبه ويعرفه حق المعرفة، يقول الكاتب الرياضي نجم الدين سيدي عثمان لـ"الترا الجزائر": "ارتباط حاليلوزيتش بالجزائر عميق جدًا، لقد قال لنا ذات مرة، إن الجزائريين يشبهونني، عندما يقررون يفعلون ولا يرجعون نحو الوراء. ضف إلى ذلك أن في شخصيته شدة وصرامة وانضباط يحتاجها اللاعب الجزائري، كما أنه يشتغل على الجانب البدني كثيرًا، فقد كان يصر أن يركض اللاعبون ساعتين كاملتين، فبالنسبة له اللاعب المهاري بلا جاهزية بدنية لا يساوي شيئًا. أما من يدّعي الإصابة فيقصى نهائيًا مثلما وقع لبلعمري وشاوشي. اسمه مطروح كواحد من الخيارات الممكنة رفقة رونار الذي يواجه عائق العقد مع المنتخب الفرنسي النسوي".

يعود اسم وحيد في كل مرة دون تأكيد حضوره النهائي، إذ تبدو المسألة مرتبطة أيضًا، بالضوء الأخضر للدولة الجزائرية التي قد لا تنسى ذاكرتها كسر الطلب الرئاسي بالاستمرار مع الفريق عقب نهاية مونديال البرازيل

يعود اسم وحيد في كل مرة دون تأكيد حضوره النهائي، إذ تبدو المسألة مرتبطة أيضًا، بالضوء الأخضر للدولة الجزائرية التي قد لا تنسى ذاكرتها كسر الطلب الرئاسي بالاستمرار مع الفريق عقب نهاية مونديال البرازيل، كما أن طبعه الشخصي يرسّم أنه ليس من الذين يشربون من البئر مرتين، بقي أن تعرف، بأن السبب العميق وراء رحيله النهائي عن موستار مدينة طفولته ومجده الكروي الأول وثرائه، والتي لا يرجع إليها سوى لزيارة قبر والدته هو ما يكشفه بلسانه: "لست أفهم كيف يمكن لأشخاص يأتون لقتلك لأنك تدين بدين آخر. هذا لا أفهمه ولن أفهمه، لن أنساهم ولن أسامحهم ما حييت، لذا لا يمكنني العودة للعيش في موستار. قد يحدث ذلك يوم أتصالح مع نفسي".

 

 

 

 

 

 

          

 

  

 

 

 

 

دلالات: