23-يوليو-2022

في سوق بمنطقة الخرايسية بالعاصمة (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

هل نحن فعلًا في طريقنا نحو مشروع  "الجزائر الجديدة؟"، هو سؤال يطرح في عدّة مناسبات كلما دار حديث عن التنمية والاقتصاد والقدرة الشرائية في الجزائر، حيث تتردد هذه العبارة على ألسنة مسؤولين وكأنها ّ دستور سياسي لرؤية واحدة، في حين أن "التاريخ فترات ممتدة" كما يقول العلامة ابن خلدون، لا يمكن اختزال المنجزات في فترة ما لأنها تراكمية، ولا يمكن القفز على حقبة ما لتبييض فترة زمنية نعيشها الآن، ولا يمكن أن نسير نحو المنجزات دون احترام كلّ سياق.

تعتمد قنوات كثيرة على إدارة النقاشات بـ "المونولوج الإعلامي"بإشراك عدّة خبراء ومحللين لتحليل حدث أو قرار سياسي وتجدهم يقفون في صف واحد ويدافعون عن فكرة واحدة دون خلاف في الرأي والطرح

تفتح هذه العبارة عدة أسئلة عن جدوى المحللين السياسيين والمتدخلين عبر القنوات التلفزيونية الجزائرية، إذ يتضح تأثّرهم بفكرة الحديث عن وجهة نظر أحادية الزاوية وإعادة إنتاج الخطاب السياسي للسلطة بشكلٍ ملفت وإلصاقه برئيس الجمهورية، وتكرار جملة ثناية الكلمات: " الجزائر الجديدة" في إلغاء صارخ لكلّ ما مضى أو إلحاق مشاريع الماضي بهذا المشروع الجديد.

إلى هنا، يُمكن طرح عدّة أسئلة أهمها: من هو الخبير في مجال ما؟ ومن هو المتخصص في قطاع ما؟ وماهي المعايير التي تلجأ لها المؤسسات الإعلامية لاختيار الخبراء والمتخصّصين للحديث عن شؤون البلد العام؟ ومن هم المتخصّصون الذين يمكن لهم الحديث باسم رئيس أو وزير أو نائب في البرلمان؟ وكيف يقدمون هذه المنجزات دون زيف أو تضليل أو انحراف في تقديم الحقيقة أو بالأحرى عدة زوايا من الحقيقة ولو نسبيًا.

ولعلنا هنا لا نجافي الحقيقة إن استعرنا العبرة من رواية الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي "حجر الصبر"، عندما ذهب أحدهم إلى البحث عن مفتاح أضاعه في مكان ما، لكنه بدل البحث عليه في المكان الذي أضاعه فيه بحجة أنه مظلم، ذهب للبحث عن مفتاحه تحت عمود الكهرباء بحجة أن المكان مضيء ولا سبيل للبحث عنه في العتمة.

العلاقة بين هذه القصةوبين الاتصال الإعلامي وبعض المحللين والمختصين والأساتذة الجامعيين الذين تلجأ لهم القنوات التلفزيونية لتحليل فكرة أو معلومة أو حادثة أو قرار أو حتى خطاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تتمثل في كونهم بدل البحث عن الخلفيات غير الظاهرة أو ّالمبطنة وتقديم إضاءات توضيحية لقرار ما استصعب على فئة معينة، يحاول المتدخل أن يضيف توابل على المخرجات السياسية من بيانات أو حتى أحداث دون أن يكلّف نفسه عناء التفسير ومحاولة فهم لحدث وتقليبه من مختلف جوانبه، وإضاءة العتمة في بعض زوايا الحدث المخفية على الجمهور البسيط، إذن فما جدوى اللجوء إلى محلل أو خبير؟.

 ورشة الخبراء

تتضح الرؤية حول بعض الأحداث وتتوضّح بعض التفاصيل المرتبطة بها عن طريق الاستنجاد أحيانًا بمحلّل سياسي أو خبير اقتصادي واجتماعي، لكسب ثقة الجمهور، هذه الثقة بالغ البعض في استعمالها دون وعي أو حتى بوعي منساق وراء السياسة التي جعلت من باستغلال مناصبهم الحالية والسابقة في كسب ثقة الوسيلة الإعلامية، التي بدورها تستخدم هذه المناصب لتفسير الأحداث بأكثر قيمة مضافة ممكنة.

لكن ما تعيشه وسائل الإعلام حاليًا هو مشكلة " القيمة المضافة" التي يقدمها الأستاذ الجامعي والخبير والمختص والوزير والنّائب في البرلمان والقاضي والمحامي والنّاشط الحقوقي والمحلّل الاجتماعي ومن يدور في فلكهم ممّن يطلق عليهم بـ"الخبراء" أو" المحلّلين".

منذ انفتاح الاعلام الثّقيل" التلفزيوني" وبروز لافت للقنوات التلفزيونية الخاصة بدءًا من القنوات التي ولدت من رحم جرائد خاصة (مستقلة)، ثمّ على يد رجال أعمال، طرح سؤال عن معايير إطلاق كلمة خبير في مجال معين؟ وهل الحاصل على شهادة دكتوراه في تخصّص معيّن بإمكانه أن يحلّل وضعية اقتصادية أو حالة اجتماعية أو علاقات دولية أو وضع سياسي ما؟ وهل بإمكان الأستاذ الجامعي أن يفكّك خيوط وضعية سياسية دولية أو حلّ معادلة سياسية عمرت طويلا؟ وهل الزجّ بالمحللين من النواب (أعضاء برلمان سابقين) في التحليل السياسي في القنوات الدولية، هو فخّ يضع المحلل أو الخبير الجزائر في فوضى التصريحات والتصريحات المضادة؟

هي أسئلة متعددة الأوجه، وكثير سواها يطرحها حتى أستاذة الجامعات، إذ تطفو على سطح النِّقاشات في الفضاءات المغلقة بعدما حرمتهم الفضاءات السمعية البصرية المتاحة من ذلك سواءً ما تعلق منها حول القضايا ذات الشأن العام، أو خلال الأحداث اليومية كالإضرابات ومظاهرات الحراك الشعبي وفي المواعيد السياسية الكبرى.

كثرة الضيوف وتعدد الرؤى

يتبادر إلى أذهان كثيرين اللّجوء إلى تصريحات وتصريحات مضادّة بإشراك عدد من الضّيوف" لمعالجة قضية معينة وذلك ما يؤشّر على وجود رأي ورأي آخر، غير أن الحاصل في نظر متابعين لمخرجات التلفزيونات العمومية والخاصة في الجزائر ، أن هناك ما يمكن وسمه بـ"المونولوج الإعلامي"، رغم استحضار ثلاثة أو أربعة أشخاص لتحليل حدث أو قرار أو وضعية أو منظومة أو حالة اجتماعية وتربوية، خاصة إن كانت التصريحات تصبّ في مصب واحد.

وفي هذا الإطار ذكر الباحث الإعلامي كريم سعداوي من جامعة باتنة شرق الجزائر، بأن المحلّل بصفة خبير أو المتحدّث أحيانا الذي يتحدّث باسم فئة أو ممثّل حزبي أو ممثّل رسمي وجب أن يكون في موضع تمثيل لنخبة معيّنة سواء نخبة في المطلق أو نخبة اقتصادية أو اجتماعية جزائرية، إذ "يُفترض فيه أن يشرّف هذه النّخبة"

الفكرة السّائدة لدى البعض حسب الأستاذ سعداوي أن مرورهم عبر الاستوديوهات والإشادة بمنجزات السلطة هو ممر لتبوأ منصب أو معبر يستهدِف من خلاله بعضهم الحصول على تعيين أو الحصول على امتياز ما، وهو أمر متاح على العموم غير أنه ينتهي بانتهاء المصلحة.

ومن هذا المنظور أضاف محدث " الترا جزائر" أن المصلحة السائدة من خلال الظهور الإعلامي باتت تعمم على الأغلبية وهو ما يفقدهم الثقة اتجاه النخبة التي يمثلونها واتجاه الجمهور واتجاه الوسيلة الإعلامية".

المسؤولية: وجهان لعملة

على عكس هذا التصور، يرى بعض المتابعين للإعلام الثقيل وإعلام الشبكة العنكبوتية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن الوصول إلى التخلي عن قبعة العلم والتحليل بناء على المعطيات والخوف من مخالفة خيارات السّلطة ومخرجاتها، يدخل في إطار " نظرية المؤامرة"، فهناك قرارات " إيجابية لا يمكن المرور عليها دون تثمينها، في المقابل هناك قرارات إيجابية لكنها تحمل في طياتها استتباعات سلبية وبذور سيئة يقطف ثمارها الأجيال في المستقبل".

ومن انعكاسات هذه الفكرة، طرح النّقابي في قطاع التربية أحمد سلاحي (أستاذ الرياضيات في السّلك الثانوي) فكرة أن الحديث عن وضعية صعبة يتخبط فيها القطاع لا ينزع عنها صفة تثمين أي جهد أو أي مبادرة يقوم بها المسؤولين في القطاع، لكن في الاتجاه المقابل فإن الحقيقة الواضحة أن قطاع التربية يئنّ ووجب فتح ملفاته العالقة من طرف رئاسة الجمهورية والاشتغال عليها بجدية أكثر لأنها الضامن الوحيد لنجاح مختلف القطاع التربية.

الخبير هو ذلك الشخص الذي ارتكب الأخطاء في مجال تخصص محدد بدقة وبعناية، حسب ما شرح الأستاذ سلاحي لـ"الترا جزائر" معرجًا إلى الحديث عن المسؤولية الأخلاقية للمحلل أو الخبير، إذ يتكلم حسبه باسم فئة أو منطقة أو بلد ويتوجه لجمهور متعدد المستويات يفترض فيه أن يكون متمرسًا وقادرًا على إيصال الفكرة دون تزييف للحقيقة.

المصداقية .. حجر الزاوية

كما فسحت الوسائل الإعلامية الحديث اليوم عن مسألة مصداقية المحلّل واستقلاليته عن الخطاب الرّسمي الجافّ أو المؤطّر تأطيرا حزبيا، إذ اعتبرت الأستاذة المختصة في الاتصال السياسي فريدة بوكرامي أن المحلل السياسي على سبيل المثال ليس مطلوبًا منه إعادة قراءة بيان سياسي رسمي يذكر فيه الإجراءات والقرارات ثم وصفها بالإيجابية، بل هو مطالب أن يفسّر القرارات وتقديم وجهة نظره المبنية على خلفيات ملموسة من الواقع، إضافة إلى الاجتهاد في إعطاء زوايا نظر جديدة من وراء ذلك.

وأشارت بوكرامي في حديث لـ"الترا جزائر" أن المحلل السياسي إن أخذناه كمثال يُفترض فيه أن تكون لديه خلفية نظرية سياسية وواقعية أيضا، فهناك " فرق بين المحلّل الحزبي الذي يكون محاصر بالتزامات الجهة الحزبية التي ينتمي لها، وتحضر عليه الكلام بما يخرج عن حيزها، والمحلل الوظيفي الذي يكون ملزم بقوانين الوظيفة التي ينتمي إليها وغير ذلك، بينما المحلل كخبير سياسي تدرج في المناصب ولديه خلفية أكاديمية ولديه الحرية في التعاطي مع مختلف القضايا وملامسة مختلف الحساسيات دون رادع أو محاذير إلا ما تعلق منها بقضايا الأمة والأمن.

وحتى تتضح الرؤية، لم تنف المتحدِّثة أن يلتزم المحلل السياسي خاصة في مجال العلاقات الدولية، بمحاذير السياسة الخارجية، إذ تعتقد أنه من " واجب المتدخلين في القنوات التلفزية أن يأخذوها بعين الاعتبار"، مشيرة إلى أنه بإمكانها أن تضع الدولة في حرج، فليس من العيب أن نكون حذرين في التعاطي مع بعض القضايا الدولية والإلمام بها وبرؤية الجزائر لها". 

يتوجب على وسائل الإعلام وضع مقاييس لتحديد الضيوف انطلاقًا من مكانتهم المعرفية والأكاديمية 

ومن خلال ما سبق، يحدُث التَّماس بين تصريحات المحلّلين الجزائريين والمتحدثين في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تفسيرهم للأحداث أو تعبيرهم على المواقف أو تقديمهم لصورة ما مع الصورة العامة للبلد أو تمثيلية البلد، وذلك ما يتحتم على وسائل الاعلام وضع مقاييس تلجأ لها في تحديد المتحدثين باسم قضية أو مسألة أو تفسير قرار تنبع من مكانتهم المعرفية والأكاديمية والميدانية.